الأرشيفكتاب وادباء

هل ” خيرية ” الأمة مطلقة فى كل زمن ومكان ؟

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
* يقول الله عز وجل :” كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” . لكن هل معنى هذه الآية الكريمة أن خيريتنا مطلقة دون قيد أو شرط على مر العصور مهما حل بنا من انحلال وفجور ؟ هل يعنى ذلك أن خيريتنا مطلقة وإن ارتضينا الظلام وغرقنا فى بحر من الأوجاع والآلام  ؟  هل معنى ذلك  أن معنا شيكا على بياض بأننا خير أمة حتى ولو تحولت أمتنا إلى أرض جرداء بور ؟ هل معنى ذلك أننا خير أمة حتى لو تزيلنا ركب الأمم والشعوب ولم نأمر بمعروف ولم ننه عن منكرات قصمت الظهور ؟ هل يعنى ذلك أننا خير أمة ولو تسولنا غذاءنا ودواءنا ومستلزمات حياتنا وصرنا عبيدا ننتظر إحسان المحسنين وتبرعات الصالحين ؟   هل نحن اليوم خير أمة  فى تحقيق مفهوم الحرية العدالة والمساواة ؟ هل نحن اليوم خير أمة فى التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان ؟ هل نحن اليوم خير أمة فى محاربة الرشوة والفساد والاختلاس والوساطة ؟ هل نحن اليوم خير أمة فى محاربة الظلم والبغى والعدوان ؟ هل نحن اليوم خير أمة فى محاربة التزوير والتدليس والكذب والنفاق والشقاق ؟. هل نحن خير أمة فى الدفاع عن حرماتنا ومقدساتنا وأوطاننا ؟ لقد كنا خير أمة يوم أن كنا فى العلم رؤوسا  , وفى الحرب فؤوسا , وفى ماكينة التقدم والتكنولوجيا تروسا . هناك مسافة شاسعة وفجوة واسعة شاسعة بين” كنتم”  الاستجابة , وبين “أنتم” الممارسة . الأمة التى كانت بالاستجابة خير أمة , اليوم بالإعراض عن الحق تاهت وضلت وغرقت فى قاع محيط الظلم والظلمات .
* أما قول الله عز وجل ” كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” ففيه أقوال وتفاسير ومفاهيم كثيرة . عن قتادة قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجّة حجّها ورأى من الناس رِعَة سيئة، فقرأ هذه: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس “، الآية. ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها. وعن ابن عباس قال: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس “، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال: ” أنتم “، فكنا كلنا، ولكن قال: ” كنتم ” في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وعن مجاهد قوله: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس “، قال يقول: كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر. وتؤمنون بالله  . وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال فى تفسير هذه الآية :” تكون لأولنا ولاتكون لآخرنا ” ويفسر الشيخ الشعراوى الآية الكريمة بقوله :” هذه الخيرية لها مواصفات وعناصر: تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله. فإن تخلف عنصر من هذه العناصر، انحلت عنكم الخيرية، فالخيرية لكم بأشياء هي: أمر بالمعروف. نهى عن المنكر. إيمان بالله .” أى أن الشيخ الشعراوى يؤكد على أن هذه الخيرية مشروطة بشروط ثلاث وليس كما يفهم كثير من الناس أنها مطلقة تماما فى كل زمان ومكان .
* والمدقق والمحقق لحال الأمة اليوم يتبين له من أول وهلة أن ” خيريتنا ” معلقة . فأحوالنا الاقتصادية والأخلاقية والسلوكية والحضارية ليست على أحسن حال . فأمتنا اليوم أضعف الأمم , وأهونها على الناس , وأقلها شأنا , أصبحنا أمة تقاد ولاتقود , كلمتنا غير مسموعة , ورؤوسنا ليست مرفوعة , وكرامتنا غير موفورة , وصلتنا بمصدر قوتنا مقطوعة غير موصولة , تعدى علينا السفهاء , وأدمى جراحنا الصبيان والغلمان والعبيد . أصبحت القوى العظمى اليوم تجرب فى أجسادنا وعلى أرضنا ورغما عن إرادتنا , أسلحتها الجديدة , فصرنا كفئران تجارب ليس أكثر . لاحرمة لدمائنا ,ولا كرامة لأعراضنا , ولا حدود لدفس رؤوسنا فى تراب الذل والمهانة .
أمتنا اليوم أدمنت الذل والانكسار , تكالبت علينا الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها . مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :” يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها , فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير , ولكنكم غثاء كغثاء السيل , ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة , وليقذفن فى قلوبكم الوهن . فقال قائل : يارسول الله وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ” هذا حالنا اليوم , ضعف بعد قوة , ذل بعد عز , وتخلف بعد تقدم , واستعباد بعد تحرر , وشتات بعد تماسك , وتبعية بعد استقلال , أمتنا اليوم أطلال لأمة الأمس .
* كنا خير أمة أخرجت للناس يوم أن وقف الصحابي الجليل ” ربعى بن عامر ”  شامخا كالطود العظيم فى وجه  ” رستم ” قائد الفرس أبيا شجاعا غير منكسر ولاخائف  ولامرتعش من صولجان ملكه وكثرة حاشيته وجنده . فلما اقترب من رستم قال له الجنود : ضع سلاحك , فقال : إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم ولكني أتيتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت , فقال رستم : إئذنوا له , فأقبل ربعي وهو يمشي ويمزق الوسائد والنمارق التي في طريقه فلم يدع لهم وسادة ولا نمرقًا إلا أفسدها وهتكها، فلما أقبل عند رستم قال له : ما جاء بكم ؟ فقال ربعي كلمات سطرها التاريخ بحروف من ذهب . قال ربعى : ” لله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله، قالوا: وما موعودُ الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. “ هكذا وضع ” ربعى ” دستور الأمة الإسلامية فى بضع كلمات ولكنها ثقيلة فى ميزان الحق . لقد ذكر ” العدالة ” وهى الفريضة الغائبة عنا اليوم . ويوم أن تعود العدالة لامتنا , يوم أن تعود لسابق عهدها  , رائدة الأمم وقائدة الشعوب .* كنا خير أمة أخرجت للناس يوم أن وقفت امرأة في أحد الأسواق وفيه رجل من الروم مار بالسوق فرأى المرأة وحاول أن يتحرش بها وأمسك بطرف جلبابها فصرخت “وامعتصماه” بعد أن وقعت فى أسر الروم، فسمع صوتها رجال المعتصم فبلغوه فأمر بتجهيز جيش كبير والاستعداد للحرب  . فأرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية قائلا له: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي. فلم يستجب الأمير الرومي وانطلق المعتصم بجيشه ليستعد لمحاصرة عمورية فمضى إليها، فلما استعصت عليه قال: اجعلو النار في المجانيق وارموا الحصون رميا متتابعا ففعلوا، فاستسلمت ودخل المعتصم عمورية فبحث عن المرأة فلما حضرت قال لها: هل أجابك المعتصم قالت نعم. هذا مافعله الخليفة العباسى عندما اختطفت وأسرت امرأة واحدة , فما بالكم وأمتنا اليوم كلها ماسورة ومخطوفة ومنهوبة ومقتولة  ؟ انظروا ماذا يحدث لشباب ورجال ونساء وأطفال المسلمين فى شتى بقاع الارض من قتل واغتصاب وحرق ودمار وخراب . الفارق بين الصورتين هو نفس الفارق بين الهزيمة والذل والانكسار من ناحية , والعزة والقوة والانتصار من ناحية أخرى .

* لقد عبر الشاعر ” نذار قبانى ” أفضل تعبير عن حال أمتنا اليوم ساعة قال :” أنعي لكم.. 
كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمه ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمة.. أنعي لكم  نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمه . يا وطني الحزين حوّلتَني بلحظةٍ  من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين لشاعرٍ يكتبُ بالسكين  .  إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ لأننا ندخُلها..  بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ لأننا ندخلها.. بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ  .  السرُّ في مأساتنا صراخنا أضخمُ من أصواتنا , وسيفُنا أطولُ من قاماتنا  . خلاصةُ القضيّهْ توجزُ في عبارهْ  لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ والروحُ جاهليّهْ… بالنّايِ والمزمار.. لا يحدثُ انتصار . جلودُنا ميتةُ الإحساسْ  . أرواحُنا تشكو منَ الإفلاسْ . أيامنا تدورُ بين الزارِ، والشطرنجِ، والنعاسْ  . هل نحنُ “خيرُ أمةٍ قد أخرجت للناسْ” ؟… لو أننا لم ندفنِ الوحدةَ في الترابْ.. لو لم نمزّقْ جسمَها الطَّريَّ بالحرابْ.. لو بقيتْ في داخلِ العيونِ والأهدابْ.. لما استباحتْ لحمَنا الكلاب” لقد صدق الرجل . , وصدق من قال : أغرب صراع فى التاريخ صراع أمريكا وحلفائها مع روسيا وحلفائها. ميدان الصراع أرض العرب وسبب الصراع حماقة العرب وتمويل الصراع بأموال العرب ووقود الصراع بنفط العرب وهدف الصراع ثروات العرب والمطبل للصراع إعلام العرب . يا أمة ضحكت من جهلها الأمم . فقد استباحت لحوم أمتنا كلاب الأرض من كل الأطياف والأجناس والإشكال . صرنا كالأيتام على موائد اللئام وليس لها من دون الله كاشفة . إن أمتنا اليوم وقعت بين مطرقة الاستهداف الخارجى وسندان الاستنزاف والإقتتال الداخلى . ويوم أن تجتمع الأمة على كلمة سواء , يوم أن نكون خير أمة أخرجت للناس .
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى