تقارير وملفات إضافية

هل دقَّ ترامب مسماراً في نعش النظام العالمي أحادي القطبية؟

لم يكن دخول القوات التركية إلى شمال
سوريا وليد اللحظة، بل أعقب سنوات من انسحاب الولايات المتحدة من دورها المؤثر
بالمنطقة، ويبدو حلقة من حلقات تحوُّل النظام الدولي من أحادي القطبية إلى تعدد
القوى الذي شهده عالم ما قبل 1945، بسبب سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي
باتت تمثل خطراً على النظام العالمي أحادي القطبية الذي هيمن على العالم عام 1990
عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.

تعمل روسيا بصبر وحنكة على نسج شبكة
تفاعلاتها الإقليمية والدولية خارج الأطر والحدود التي رُسمت لها، وبالشراكة مع
حلفاء أصليين لغريمتها الأولى، الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي كل مرة تترك فيها واشنطن فراغاً
عسكرياً أو سياسياً، تسارع موسكو لتملأ هذا الفراغ، حتى تعيد دورها الذي كانت
تلعبه قبل رحيل غورباتشوف.

أبرز مثال على الدور الروسي الجديد
هو علاقاتها مع السعودية -شرطي الولايات المتحدة- والتي تطورت لتحالف تجاري جاء
بعد حرب باردة طويلة طوال فترة قيام الاتحاد السوفييتي، وانتهت بشكل ضمني في 2017
بزيارة الملك سلمان لروسيا وتوقيع 15 اتفاقية تعاون بين القطرين…

وتوثقت العلاقة بعد الاعتداءات
الأخيرة على مقرات عملاق النفط السعودي «أرامكو» والتي ترجعها واشنطن
والسعودية إلى إيران، وحتى لو ادعت روسيا أن التقارب مع السعودية هو لبناء الجسور مع الولايات المتحدة، فالشواهد تشير
إلى عكس ذلك.

استولت روسيا على القرم وحاصرت
القوات الأوكرانية في فبراير 2014، وفي البداية أنكرت أنها قامت بـ
«احتلال» الإقليم، ثم اعترفت بعد قرابة عام -مارس/آذار 2015- بأفعالها،
بل ادعت أحقيتها بذلك.

هي نفسها روسيا التي تنسق مع
السعودية مجال الطاقة، خصوصاً بعد حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، فقد
أسفر اتفاق بين البلدين، على هامش مؤتمر «دافوس في الصحراء» عام 2018،
عن شراء السعودية 30 بالمئة من مشروع لأحد أكبر مُنتجي الغاز الروسي «Novtak» بقيمة 21 مليار دولار ..

وفي الأيام الماضية -19 أكتوبر/تشرين
اﻷول 2019- اجتمع مديرو «أرامكو» و «صندوق الاستثمار العام للمملكة
السعودية، و «صندوق الاستثمار المباشر الروسي» و «Rosnano»
لتوقيع اتفاق مبدئي تتخلى به الشركة عن 31 بالمئة من أسهمها في Novomet،
وهي الشركة التي تصنّع مضخات غمر إلكترونية فائقة الجودة.

ولا تقف الاتفاقات عند الطاقة، بل
تشمل المواد الغذائية، حيث فتحت السعودية أسواقها للقمح من أكبر مصدريه بالعالم –
روسيا- في أغسطس الماضي ووقعت SALIC اتفاقًا لبحث فرص
الاستثمار الزراعي في روسيا.

استراتيجيا، تحتل روسيا الآن عين
العرب ومنبج وتملأ الفراغ الذي تركه الانسحاب الأمريكي من  سوريا، وبالرغم من
شبكة تحالفاتها المعقدة في المنطقة، كون السعودية وإيران منخرطتين في حرب إقليمية
بالوكالة، بينما تدعم إيران وإسرائيل قوى متصارعة في سورياـ إلا أن الثلاثة
(السعودية، ايران، إسرائيل) يرون روسيا حليفا في المنطقة بينما تسعي روسيا للوساطة
بين السعودية وإيران كونها تمتلك علاقات قوية بالطرفين (!)

سواء في الطاقة أو الأمن أو الزراعة،
لا يتوقف التوسع الروسي بالمنطقة على حدود السعودية وسوريا ومصر وغيرها، بل أيضاً
الإمارات المتحدة العربية، ففي العام الماضي وقَّع البلدان إعلان الشراكة
الاستراتيجية في مختلف المجالات بدءاً من الطاقة إلى مكافحة الإرهاب، وتعد
الإمارات أكبر شريك تجاري لروسيا، حيث يبلغ حجم ميزانها التجاري 1.7 مليار دولار
عام 2018، وزارها قرابة مليون سائح روسي في العام نفسه، وهو ما يعني وصول 1.3
مليار دولار إلى الإمارات، كما يجعل السائح الروسي على قمة السياحة الإماراتية.

وفي زيارة أكتوبر/تشرين الأول الحالي
نفسها للمملكة السعودية، ذهب بوتين إلى الإمارات، لترتسم السماء بألوان العَلم
الروسي وليوقّع البلدان على اتفاقات بحجم 1.4 مليار دولار، في خمس اتفاقات سبقت
مباحثات أخرى عن أوجه التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي وتوريد الطائرات
والمروحيات الروسية للإمارات، وتابع البلدان مناقشات تطوير مقاتلات حربية كانت قد
بدأت في 2017.

تجد روسيا في الإمارات العربية قوة
إقليمية تسند الأنظمة العلمانية التي تسندها روسيا بقوة في ليبيا والسودان واليمن
وفي ليبيا تحديداً. ورغم تجنُّب بوتين إبداء التأييد لأي من الأطراف المتصارعة،
فإن روسيا ظلت عامين تطبع النقود للبنك المركزي في البيضاء، لدعم نظام خليفة حفتر
في الشرق، وترسلها بطائرات من خلال الإمارات العربية، ومنذ بداية 2019 قامت شركة نقل روسية بإرسال أسلحة اشترتها الإمارات لدعم
نظام حفتر.

ومن ثم، بينما تقوم العلاقات
الروسية-السعودية على المصالح التجارية الصرفة، تقوم علاقتها بالإمارات على
المصالح الجيو-استراتيجية، وتصوُّر البلدين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني و
«الإرهاب الإسلامي» في سوريا، كما تحب أن تذكر الإمارات. وتنافس
الإمارات العربية، السعوديةَ على كسب وُد الحليف الروسي، حيث لم تسفر الحرب
السورية عن خريف في العلاقات بينها وبين روسيا، وقبِلت الإمارات ضمناً بحل للأزمة
يشمل بشار الأسد -وهي مفارقة بينها وبين موقف السعودية- وفي أغسطس/آب 2015 وقبيل شن القوات الروسية أول هجوم
جوي في سوريا، شمل اجتماع بين المسؤولين من روسيا والإمارات ومصر والأردن تنسيقاً
لحلول لأمن بالمنطقة، وطبعاً لم تكن السعودية طرفًا في هذه المداولات.

ويأتي في قلب التعاون
الإماراتي-الروسي ذهنية الإمارات المتحدة عن الوسطية والحضارة المسيحية
«العظيمة» في روسيا، ودور الإمارات في حوار الأديان خاصة بين الإسلام
والمسيحية، فالحوار مع آخَر «مسيحي» أولى وأسهل من الحوار مع
«الحوثي» في اليمن حتي وإن أبقت روسيا على علاقاتها الاستراتيجية بحزب
الله في لبنان وبالقوات الحوثية باليمن. فهناك اعتراف فعليٌّ بدور روسيا في
المنطقة كفاعل دولي، ومُفاوض عن الأطراف المتنازعة كإيران ودول الخليج، وتحاول كل
الأطراف «مَوْضَعة» مصالحها في الاستراتيجية الكبرى لروسيا بالمنطقة.

أما تركيا، فرغم أنها الحليف
الاستراتيجي للولايات المتحدة بالمنطقة، فإنها بدأت في الخروج من طوق القوى
الإقليمية والتنسيق الذاتي مع القوى التي تعلو أسهمها بالمنطقة في مقابل خفوت
الحضور الأمريكي.

بعد الصمود أمام ضغوط الاتحاد
الأوروبي والولايات المتحدة لإلغاء صفقة الصواريخ «إس-400″، وإنفاذها
وتراجع الرئيس الأمريكي ترامب عن توقيع عقوبات على تركيا بدعوى أن «الشروط
المجحفة» لاتفاقية صواريخ «Patriot» هي التي دفعت
تركيا إلى التنسيق في دفاعها الجوي مع المنافس الروسي. إضافة إلى ذلك، فإن ما كان
يبدو تنسيقاً بين تركيا والولايات المتحدة على انسحاب الأخيرة من شمال سوريا
وتنفيذ تركيا عملية «نبع السلام» لتنفيذ مشروع المنطقة الآمنة وإحلال
اللاجئين السوريين فيها- اتضح أنه «موافقة على مضض» بعد إدراك الولايات
المتحدة جدية تركيا في إنشاء تلك المنطقة، وهو ما يفسر التصريحات المتضاربة من
الرئيس الأمريكي ذاته، والإدارة الأمريكية ومجلس النواب، ويفسر كذلك التوقيع
الجزئي لعقوبات على تركيا من طرف الخزانة الأمريكية.

والآن تنسق تركيا مع الطرف الروسي
اتفاقاً «تاريخياً» يمنح الأولى حق الوجود الحصري في مساحة 30 كيلومتراً
من الحدود السورية، والوجود المشترك مع القوات الروسية في 10 كيلومترات أخرى، في
حين تسيطر قوات النظام السوري على منبج وعين العرب بشرط خروج «قسد» منها.

ولأنها الدولة الأكثر إيواء
للمهاجرين من سوريا، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدركان حدود توقيع
عقوبات «تأديبية» لتركيا، فبينما توقّع الخزانة الأمريكية بعض العقوبات
على المسؤولين الأتراك ويرفع الرئيس الأمريكي ضرائب الواردات التركية إلى الضعف، فإن
الاتفاق التركي-الروسي دعا الولايات المتحدة إلى وقف تلك العقوبات وتجميد خطوات
الاتحاد الأوروبي في «معاقبة» عضو الناتو الأبرز بالمنطقة، لكونها في
الأخير تمنع فيضان اللاجئين من المرور إلى البلدان الأوروبية، وهو ما ظهر في
تهديدات مباشرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الداخلية بأن على أوروبا
تلقُّف السوريين والأكراد طالما تصمم على جعل الحياة أصعب لتركيا اقتصادياً.

ترسم تركيا وروسيا وإيران معالم
الشرق الأوسط الذي ليس فيه مركزية لأمريكا، فإدارة أوباما التي أدارت ظهرها
للحكومات السُّنية في 2011 (بمطالبة مبارك بترك الحكم)، وبعدها بمطالبة الأسد بعدم
الوقوف أمام الإصلاح، هي نفسها الإدارة التي دعمت الحكومات الشيعية في إيران أمام
مظاهرات الثورة الخضراء 2009، وعقدت الصداقات القريبة مع الأكراد في العراق وسوريا
بشكل أسهم في بلورة الانقسام السياسي والوقيعة بين أمريكا وتركيا (القومية
السُّنية). باختصار، ميل الإدارة إلى الأقليات في بلدان السُّنة ودعم القيادة
الشيعية في إيران منذ 2009 على حساب الحلفاء التقليديين كانا أبرز مؤشرات تحوُّل
إيران لأحد أبرز اللاعبين الإقليميين في المنطقة على حساب حليفة أمريكا التقليدية
(السعودية)، خصوصاً أن عنوان سياسة الشرق الأوسط منذ عهد أوباما هو «فك
الارتباط/الانسحاب».

وفي صراع إيران وروسيا على النفوذ في
المنطقة تعقد القوتان تحالفات غير دائمة ولا مستقرة، ولا تحب إيران إلا أن تظهر
بأنها المتحكم الرئيسي في الصراع على الأراضي السورية، وكلما أعلن الطرفان التركي
والروسي وقف إطلاق النار كانت إيران الأحرص على إفشال الهدنة، رغم أن الميليشيات
الموالية لها واجهت صعوبات متكررة في حيازة المواقع التي استهدفتها حتى مع الدعم
الجوي الكثيف الذي قدمته روسيا والولايات المتحدة لها سواء في سوريا أو العراق.

ومن ثم فالتحالفات المؤقتة التي
تعقدها إيران مع الطرف الروسي والتي تزامنت مع انسحاب الولايات المتحدة من
المنطقة، تعني أن روسيا وتركيا قد وجدتا نفسَيهما في صف واحد، لكون الطرف الروسي
يسعي في النهاية لحلفاء أكثر استقراراً من إيران.

تحوَّل العملاق الصيني في غضون سنوات
إلى أكبر شريك تجاري وسياسي بالمنطقة، فحاجتها إلى النفط من ناحية وكون المنطقة
تضم أكبر مُنتجي ومصدّري النفط بالعالم، أديا إلى استهداف الصين توسعة أسواقها
بالمنطقة في مجالات شتى.

في دبي تقطن أكبر جالية صينية بالشرق
الأوسط، نحو 200-300 ألف مواطن، وأفرع لأكبر 4 بنوك في الصين، ومقر 200 شركة صينية.

وفي مجال الإنشاءات الهندسية
والاستثمار، تتصدَّر الصين الشراكات التجارية بالمنطقة، وتنفذ عديداً من المشروعات
الكبرى لحلفاء الولايات المتحدة الأهم، مثل السعودية (مشروع رؤية 2030)، والعاصمة
الإدارية في القاهرة. وفي 2016 كانت الصين أكبر مصدّر لأموال الاستثمار الأجنبي في
الشرق الأوسط، بحسب China Global Investment Tracker،
وأعلنت في 2018 استثمارات بـ23 مليار دولار في بلدان عدة.

وتأتي باعتبارها أحد أهم مجالات
التبادل التجاري لصالح الصين، برامج وأنظمة التصنت والتعقب ومكافحة الإرهاب، من
ناحية، وصفقات السلاح من ناحية أخرى، فالأولى تسمح للحكومات بإقامة أنظمة تتبُّع
ومسح فائقة الجودة وواسعة الانتشار لأفكار المواطنين -التي قد تعارض الأنظمة
الحاكمة- في حين تسمح صفقات السلاح بإحكام القبضة الأمنية وإعمال أدوات القمع إزاء
المدنيين، خاصة أن ملف الصين حقوقياً شديد السوء والحساسية في الوقت نفسه.

ويبقى النفوذ المتعاظم للصين أداة
مؤثرة على توازنات القوى في المنطقة وإن لم تأتِ في سياق انتقاص هيمنة الولايات
المتحدة الأمريكية بشكل مباشر، لكنه يبدل الموازين بفعل القوة الاقتصادية والشبكات
الممتدة للصين في كل ركن من الإقليم.

بالتزامن، تنسحب الولايات المتحدة من
المنطقة التي ترتسم توازناتها الإقليمية من دونها. وبعدما انسحبت القوات الأمريكية
من سوريا، يعترف المسؤولون الأمريكيون بأنهم تسببوا في حرب دامية بالعراق؛ على
خلفية اتهام خاطئ لنظام صدام حسين بحيازة أسلحة دمار شامل، وترى أن الانخراط في
مصيدة الشرق الأوسط كان أسوأ قرار بتاريخ أمريكا.

يأتي هذا الموقف بعد مجموعة من
الهزائم السياسية والعسكرية المتتابعة في المنطقة (العراق، فشل تمرير صفقة القرن،
تغيير النظام الإيراني، دعم السعودية باعتبارها شرطي المنطقة، فشل إنهاء الحرب
باليمن وفي سوريا، فشلها في تحقيق السلام الأفغاني، إلخ). وعندما تطالب السعودية،
بضغط من محمد بن سلمان، الولايات المتحدة بتأمينها أمام العدوان الإيراني، تكتشف
أمريكا أن تكلفة الـ8 تريليونات دولار التي تنفقها سنوياً لـ «تأمين»
الشرق الأوسط لا جدوى منها، فالنفوذ الروسي أقوى وأكثر توغلاً على كل حال.

ويبدو أن الإدارة الأمريكية قد أدركت
-ربما متأخراً- أن توازنات القوى في المنطقة قد تغيرت، وأن التاريخ ليس 1945 عندما
تسلَّمت مقاليد السيطرة على العالم من المملكة المتحدة والقوى الأوروبية المنهَكة
بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تعد ترغب في ارتداء قناع السيطرة على مقاليد
السياسة العالمية -بنفقاتها العالية- في ظل حقيقة أن فاعلين إقليميين لديهم الوجود
الحقيقي على الأرض، خاصة في ظل العلاقة التي تتردد بين الرئيس الأمريكي ترامب
ونظيره الروسي.

أعقبت قرار الانسحاب المفاجئ الذي
أفضى إلى مصلحة النظام الروسي، انتقادات داخلية كبيرة تلمّح وتصرح بتواطؤ الرئيس
الأمريكي مع المصالح الروسية، وتستدعي الاتهامات المتعلقة بالتعاون بين إدارة
بوتين وحملة دونالد ترامب الانتخابية في 2016، ونتائج تقرير Mueller التي تشير إلى ممارسات تفتقر إلى النزاهة من
طرف الرئيس الأمريكي، بحسب معايير الأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية. لكن
المؤكد أن تلك الممارسات تدق مسماراً في نعش الهيمنة التقليدية لأمريكا على مقدرات
المنطقة، وتعني إمكانات خلق نظام دولي جديد في وقت قريب.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى