آخر الأخبارمقالات إضافية

هوانم حي اللبان

من ذاكرة اسكندرية

سلسة مقالات الأسكندرية من روائع الأديب الكاتب

المهندس/ محمود صقر

سأحدثكم عن هوانم المناطق الشعبية في اسكندرية زمان.
في بيتنا بحي اللبان 33 شارع باب الكراستة، كان بالبيت ثمانية عشر شقة، وكانت الحياة الأسرية في عموم البيت علاقات هادئة، وقلما نسمع شجارا بين زوج وزوجته، ولم تسمع أذني ولم تر عيني أي اعتداء لفظي أو جسدي من زوج تجاه زوجته.

داخل شقتنا كانت العلاقة بين والدي ووالدتي حميمية مثالية، يجمعهما الحب والود والاحترام، لم أسمع أمي يوما تنادي والدي باسمه مجردا، إما تناديه “أبو محمود” أو “سي راغب”، تستقبله من باب الشقة وتودعه عندها في قدومه وخروجه لعمله، وتهتم بأدق تفاصيل شئونه من مأكل وملبس ونظافة للبيت ورعاية للأولاد.

في حياة والدي لم تر أمي الشارع إلا ويدها في يده، لم تكن أمي تعرف مكان الأسواق، فقد كانت تلك مهمة والدي، ومات وهي لا تدري أين السوق، ولم أسمع له أو لها صوتا عاليا في البيت على الإطلاق، ولم أسمع من والدي كلمة تعنيف واحدة لأمي طوال حياته، ولا حتى لأبنائه.

مع جو السعادة الذي نحياه وعدم شعورنا بنقص من أي نوع، كان أبي محدود الدخل ولا يملك فائضا نعيش به رفاهية السفر للخارج، أو حتى التصييف خارج اسكندرية، وكانت نزهاتنا هي نزهات معظم سكان اسكندرية في المشي على الكورنيش ودخول حدائق أنطونيادس والنزهة وحديقة الحيوان والشلالات، وكل وقته مقسم بين العمل والبيت فقط.

أشهدُ أن هذه العلاقات الهادئة كانت هي حال الثمانية عشر أسرة التي يجمعها بيتنا، مع بعض التفاوت غير المُخِل، في حي شعبي من أحياء اسكندرية في النصف الثاني من القرن العشرين، بين أزواج متوسطي التعليم، وزوجات لم يكن لهن حظ من الشهادات العلمية، وكلهن سيدات بيوت (هوانم باللغة التركية).

لم يكن أيام هؤلاء الهوانم دعاة للمساواة بين الرجل والمرأة وجمعيات للدفاع عن حقوق المرأة، وأصوات عالية تصف مجتمعاتنا الشرقية العربية بالمجتمعات الذكورية، ولا أفلام سينمائية تصور الأحياء الشعبية على أنها غابة من الوحوش، ولكنهن عشن هوانم وفق وتعاليم دينا وثقافتنا وعاداتنا الشرقية الأصيلة.

في رحلتي لباريس شاهدتُ امرأة خمسينية تسير في الشارع وتتعثر في مشيتها من ثقل حقيبتَيْ سفر تجرهما في الشارع، عرضتُ عليها المساعدة، فسمحَت بذلك بترحاب، وبينما أسير معها نحو وجهتها كان يسير أمامنا بخفة ودلال رجل يجر حقيبة واحدة صغيرة، اكتشفت بعد وصولي لوجهتها أنه زوجها، وعرفتني عليه بكل فخر وابتسامتها تعلو وجهها، وهي لا تشعر إطلاقاً بما أشعر به من غيظ تجاه زوجها الذي تركها تجر حقائبها الثقيلة.

هذا الوضع الذي أراه من موروثي الثقافي غريبا، هو في الغرب أمر طبيعي جدا في إطار مفهوم المساواة بين المرأة والرجل، فالمساواة عقد اجتماعي يوزع أعباء الحياة بالتساوي، وبالورقة والقلم، كل منهما يتحمل مسئولية نفسه ومتطلباته، وإذا دخلا المطعم يسحب الرجل (الجنتلمان) الكرسي لرفيقته بكل أدب وذوق، حتى إذا انتهيا من طعامهما قام كل منهما بدفع فاتورة ما أكله.

مجتمعنا الذي فقد تلك العلاقات الأسرية المتينة ضمن ما فقده من معالم أخرى، ليس في حاجة لاستيراد أفكار من الغرب، هو فقط يحتاج العودة إلى جذور دينه وعاداته وثقافته الأصيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى