الأرشيفتقارير وملفات

” وخلق الإنسان ضعيفا “

من روائع الأديب الكاتب

 السعيد الخميسى k

السعيد الخميسي

*وقفت كثيرا متعجبا ومتأملا فى قول الحق عز وجل ” وخلق الإنسان ضعيفا . “  وحدثتني نفسي  ووسوس الخناس فى صدري , أليس هذا الإنسان الضعيف هو الذي ملأ الأرض مع ضعفه  فسادا وإفسادا , ظلما وظلاما , طغيانا واستكبارا , قتلا ودمارا ؟ فما بالكم لو كان الله خلقه قويا ؟ ماذا كان هذا الإنسان سيفعل فى الأرض أكثر مما يفعل بها الآن ؟ هذا الإنسان الضعيف بشهادة الله عز وجل , هو الذى اخترع الديناميت فاحرق الحرث والنسل , وهو الذي اخترع القنابل النووية فدمر الأرض ومن عليها , هو الذى اخترع الأسلحة الكيماوية فأصاب العقول المستقيمة السوية بالمرض والهلوسة , هو الذى اخترع الصواريخ العابرة للقارات والقادرة على حمل رؤوس نووية فسوى القرى والمدن بالأرض وكأنها لم تكن . هو الذي زرع حقول البانجو والمخدرات فى الصحراء ليفسد بها عقول البشر حتى لاتصلح إلا للشر . هذا الإنسان الضعيف هو الذى أوقد نار الحروب الأهلية ,والنزاعات العرقية , والخصومات الطائفية . هذا الإنسان الضعيف هو الذى قال ” أنا ربكم الأعلى ” هو ذاته الذي قال ” ماعلمت  لكم من إله غيرى ” هو نفسه الذى قال ” أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى ” هذا الإنسان الضعيف هو الذى غش ونافق وكذب وقتل وسرق ونهب وبدل وغير . كيف يكون الإنسان ضعيفا مع هذه الصفات الفرعونية الاستعلائية المتغطرسة ؟ هكذا حدثتنى نفسى , وهكذا وسوس الخناس فى صدري.

%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%85%d9%8a%d8%b3%d9%89

* فقلت لامفر من اللجوء لتفسير العلماء لهذه الآية حتى تستريح نفسى ويطمئن قلبى  . فوجدت السادة العلماء يقولون أنه كلما كان من الممكن حمل معاني القرآن على العموم والشمول كان أقرب إلى الصواب ؛ وأن الأقوال إذا لم تكن متناقضة ،

وأمكن حمل الآية عليها جميعها كان أوفق في التفسير . يقول ابن كثير :” ينبه الله تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق، حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً، ثم حدثاً، ثم مراهقاً، ثم شابا وهو  القوة بعد الضعف  . ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم وهو – الضعف بعد القوةفتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة، ولهذا قال تعالى:  ” ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء  , أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد  وهو العليم القدير.  ويقول العلامة السعدي رحمه الله :يريد اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل ، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه ، ضعف البنية ، وضعف الإرادة ، وضعف العزيمة ، وضعف الإيمان ، وضعف الصبر ، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته . أما ابن القيم رحمه الله فيقول :” ” والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله ، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر : فَإنه ضعيف البنية ، ضعيف القوة ، ضعيف الإرادة ، ضعيف العلم ، ضعيف الصبر ، والآفات إليه مع هذا الضعف أَسرع من السيل في الحدور.” .


3 *
أما فضيلة الشيخ الشعراوى فقال معلقا على تفسير الآية :” فهنا يقول: تأمل في نفسك أنت: ” ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍفإنْ قال الإنسان المكلف الآن: أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُلِقْتُ منها. نقول: نعم لم تشاهدها في نفسك، فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة، لكن شاهدتها في غيرك، شاهدتها في الماء المهين الذي يتكوَّن منه الجنين، وفي الأم الحامل، وفي المرأة حين تضع وليدها صغيراً ضعيفاً، ليس له قَدَم تسعى، ولا يَدٌ تبطش، ولا سِنٌّ تقطع، ومع ذلك رُبي بعناية الله حتى صار إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الآن. إذن: فدليل الضعف مشهود لكل إنسان، لا في ذاته، لكن في غيره، وفي مشاهداته كل يوم، وكل منا شاهد مئات الأطفال في مراحل النمو المختلفة، فالطفل يُولَد لا حولَ له ولا قوة، ثم يأخذ في النمو والكَِبَر فيستطيع الجلوس، ثم الحَبْو، ثم المشي، إلى أنْ تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد والفتوة  .

*. ويقول العلماء  ” ولذلك فالأنسب في تفسير أوجُه  الضعف البشري  في الآية الكريمة حملها على إطلاقها ، لتشمل جميع جوانب الضعف : النفسية ، والبدنية ، والعقلية ، والعاطفية ، والتركيبية ، فالإنسان ضعيف النفس بسبب نوازع الخير والشر المخلوقة فيه ، إلى جانب الوساوس والأهواء التي تعرض له أيضا ، وهو ضعيف البدن أيضا بسبب ما يعرض له من الآفات والأسقام ، وبالمقارنة مع كثير من المخلوقات عظيمة الخلق ، وهو ضعيف العقل بسبب قدراته المحدودة التي تخوله من النجاح والإبداع ولكن في حدود المنظور في هذا الكون وما يمكن القياس عليه ، كما أنه ضعيف في الجوانب العاطفية والشعورية ، فيتأثر أسرع تأثير بما يبكيه أو يفرحه أو يُجبِنُه أو يُبخِله أو يشجعه أو يخوفه . ويزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله ومشاعره حيث يجد نفسه عاجزاً عن دفع مشاعره والخلاص من وساوسه والتغلب على مخاوفه أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان ، ليدرك المرة تلو المرة أنه مع طموحه إلي السيادة على الأرض وغزو الفضاء قاصر عن السيطرة على نفسه  .


* أما أبو بكر الصديق قد وضع معيارا أخلاقيا لمفهوم القوة والضعف فى خطبته الشهيرة عندما تولى الخلافة , تصلح أن تكون نبراسا للزعماء والأمراء والرؤساء ليهتدوا بها . يقول رضى الله عنه :”
أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم“. إن القوى هنا فى مذهب أبو بكر السياسى هو صاحب الحق وإن كان ضعيفا . والضعيف هنا هو الذى عليه الحق حتى ينتزع منه ما أخذ وإن كان قويا . هذا معيار أخلاقي تربوي سياسي , ليت كل زعماء العالم وقادتهم يتعلمون منه ويسيرون على نهجه حتى لايتكبر قوى بقوته , ولاييأس ضعيف من استرداد حقه . القوى هو القوى بالحق , والضعيف هو الضعيف بالباطل مهما علا وتكبر. فهل تفعلون وتنتهجون نهج الصديق قبل أن تستغيثون كالغريق فلا يستجاب لكم .
 

* تتراءى أمامي  عدة أسئلة مهمة وجوهرية  بعد عرض هذه التفاسير العظيمة لمعنى ” وخلق الإنسان ضعيفا ” وهى : من أين استمد هذا الإنسان الضعيف جبروته وهو الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف الذي جاء إلى الدنيا من مجرى البول مرتين قوته وطغيانه ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته وجبروته وطغيانه مع أنه فى الأصل شديد الضعف والهوان  ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته وشره وظلمه ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته بعدما أحرق الحرث والنسل وعاث فى الأرض فسادا ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته وهو ضعيف الإرادة , ضعيف الجسد , ضعيف العزيمة ,ضعيف البصر والبصيرة ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته فى ظلم أخيه الإنسان وحبسه وقتله وتدميره بدون وجه حق ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته وهو قد جاء إلى الدنيا بإرادة الله وسيخرج منها محمولا على الأعناق بإرادة الله ؟ من أين استمد هذا الإنسان الضعيف قوته وأيامه معدودة ولياليه محدودة على وجه هذه الأرض ؟ “ فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون ” هل استمدها من سلطته كفرعون , أو من ماله كقارون , أو من كذبه وغطرسته كالنمرود الذى قال لإبراهيم عليه السلام ” أنا أحيي وأميت ؟” كل ذلك زائل لامحالة ,وإن بقيت ولم تزل , فسيزول هو من على الأرض شاء أم أبى . عجيب أمر هذا الإنسان الذى سيصبح فى لحظة فى طى النسيان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى