سفر وسياحة

وردة من تحت الركام.. عائلة لاجئة سورية تزرع حياة جديدة بلبنان

حين يمتلئ الدلو البلاستيكي
بالورود، تأخذه نهلة الزردة إلى المطبخ، حيث تفصل البتلات عن البراعم، ثم تنقعها
في الماء المغلي الذي يُكتسى باللون الوردي.

وقالت نهلة لصحيفة The Guardian البريطانية.: «أحب هذا اللون. ستشتد درجته حين يكون المشروب
جاهزاً».

في حين خرج زوجها سالم
العزوق، وهو رجل في منتصف الأربعينات من عمره، ليقطف الورود من الحقل الصغير
الموجود خلف منزله والذي تملؤه ورودٌ لها اللون نفسه.

وقال مشيراً إلى مزارع القمح
على جانبي الحقل: «لم يكن هناك شيءٌ هنا حين أتينا قبل خمس سنوات. كان المكان
يبدو على هذه الشاكلة».

لقد مضت ست سنوات على قدومهم
إلى لبنان، وخمس سنوات منذ انتقالهم إلى المنزل المؤقت الواقع على حافة المزرعة.
وقبل ذلك، كانوا في مخيِّمٍ للاجئين مثل العديد من السوريين في لبنان الذين يتراوح
عددهم بين مليون ومليوني شخص. 

يعمل العزوق بسرعة ويُسر.
فكُلُّ ما في الأمر أنَّه يقطف البراعم الكبيرة، ويترك الأصغر منها ليقطفها
لاحقاً. والآن، في أثناء موسم حصادها، يحصد الورود مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع،
ويُفضِّل فعل ذلك في الصباح الباكر.

إذ قال: «هذا هو أفضل
وقت. فالوردة لا تزال نائمةً ومحتفظةً بعطرها».

وفي أثناء حديثه، كانت سلسلة
الجبال التي تفصل لبنان عن سوريا تقع خلف ظهره على مسافةٍ بعيدة. وتقع قريته الأم،
ومسقط رأسه، وراء تلك الجبال في منطقةٍ زراعية بالقرب من العاصمة السورية دمشق.

بدأ العزوق يسافر إلى لبنان
في عام 2006 من أجل العمل الموسمي، تماماً مثل مئات الآلاف من السوريين الآخرين.
وكان يعمل دائماً في الزراعة، إذ كانت الورود والأشجار من اختصاصه. ثم اندلعت
الحرب، فهرب الزوجان مع ابنتيهما الصغيرتين وابنهما الرضيع.

وقال العزوق: «كُنَّا قد
أنفقنا للتو جميع مدخراتنا على بناء منزل، لكنَّه دُمِّر تماماً الآن ولم يتبق منه
شيء. حتى أنَّك لم تعد تسمع طيوراً تشدو في قريتنا اليوم».

كان ابنه الأصغر، أحمد
(عامين)، يسير خلفه في الحقل. وحين كانا يمران بجوار صنبورٍ ودلاءٍ تُملأ، كان أحمد
يتوقف ليلعب بالماء. وأشار العزوق إلى النباتات المختلفة التي يزرعها: ورود حمراء
وبيضاء للحدائق الخاصة، وأشجار على وشك أن تؤتي ثمارها، وإكليل الجبل، والريحان،
والخزامى. لكنَّ النبتة الأهم كانت وردة ذات لونٍ وردي ساطع ورائحةٍ عطرة، وهي تلك
التي كان يقطفها سابقاً.

وقال: «هذا هو الورد
السلطاني، أفضل أنواع الورود. لا يوجد نوعٌ لديه نفس النكهة القوية».

وبالنسبة لمزارعي الورد في
لبنان وسوريا (اللتين منحتا الورد السلطاني اسم الوردة الدمشقية، التي اعتزَّ بها
شكسبير والبابليون والمصريون القدماء)، فهذا النوع هو الأهم في الأساس. إذ تذهب
معظم وروده إلى صناعة أحد أهم المنتجات التي تُستخدَم في الطهي بالمنطقة: وهو ماء
الورد.

ويستخدم هذا السائل المعطر،
الذي ما زال يُنتَج بنفس تقنية التقطير التي ابتكرها ابن سينا، عالم الطب في القرن
الحادي عشر​، في مجموعةٍ من وصفات الأطعمة الشرق أوسطية. إذ يضيفه اللبنانيون
والسوريون إلى حلوى الكنافة وكعك التمر والبقلاوة. في حين يضيفه الأتراك
والإيرانيون إلى الآيس كريم والحلوى التركية، أما الهنود فيُضيفونه إلى مشروب
اللاسي.

وبغض النظر عن الحلويات،
دائماً ما كان ماء الورد يحظى بمكانةٍ مهمة في الطب الشعبي، ويُستخدَم لعلاج
العديد من الأمراض، بما في ذلك أمراض الجهاز الهضمي وارتفاع ضغط الدم والأرق، بحسب
الصحيفة البريطانية.

وقالت عنه باربرا مسعد،
الكاتبة اللبنانية ومؤلِّفة كتب الطهي: «إنه جزء من تقليد المونة الشائع
لدينا، وهو حفظ الطعام وتخزينه من أجل استخدامه في فصل الشتاء».

وتجدر الإشارة إلى أنَّ
العزوق وزوجته لا يُنتجان ماء الورد بأنفسهما؛ فهما لا يملكان المعدات اللازمة،
فضلاً عن أنَّ خبرة العزوق تكمن في الزراعة ورعاية النباتات. لذا يبيعان النبات
لأشخاصٍ آخرين في لبنان يختصون في التقطير، في كلٍّ من وادي البقاع وساحل لبنان.

وعلى الرغم من التاريخ
المشترك بين لبنان وسوريا، والعديد من الروابط العائلية العابرة للحدود، فإنَّ
المواقف المعادية لسوريا تتزايد في البلاد. إذ تعرَّضت بعض مستوطنات اللاجئين
السوريين في لبنان للمداهمة، وطُرِدَت عائلات سوريا من هناك، وفرضت بعض البلديات
حظر تجولٍ على السوريين.

وقالت دوحة عدي، من
«جمعية سوا للتنمية والمساعدات»: «لا يُسمح للعائلات بمغادرة
المخيمات دون تصريح، ولا حتى لشراء المياه أو زيارة الطبيب».

جديرٌ بالذكر أنَّ لبنان
يعانى أزمةً اقتصادية بعد عدة سنوات من تقديم الضيافة الرائعة للاجئين السوريين،
وقد أصدر وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل مؤخراً عدة تصريحاتٍ معادية للاجئين
عبر موقع تويتر وفي بعض الخطابات التي ألقاها.

وقالت دوحة: «بهذه
الطريقة، يُوجَّه الناس نحو إلقاء اللوم في همومهم على اللاجئين، حتى لو لم تكن
لهم علاقة بها».

وليست هناك سوى ثلاثة قطاعات
فقط مفتوحة قانونياً أمام السوريين للعمل فيها: وهي الزراعة والبناء وإدارة
النفايات. وتجدر الإشارة إلى أنَّ العزوق وزوجته يدفعان إيجار الأرض التي
يزرعانها، كما يفعل جميع اللاجئين، بما في ذلك غالبية الذين يعيشون في المخيمات.

وقال العزوق: «الزهور
التي نزرعها آتيةٌ من سوريا. لقد جلبنا البذور معنا حين غادرنا».

وكان العزوق يمد يده لقطف
وردة وكان على وشك الإمساك بنحلةٍ، لكنَّه قال إنَّ هذا الأمر ليس به مشكلة، فهو
عادةً ما يُلدَغ من النحل مرةً كل يوم.

وأضاف: «أنا سعيد بوجود
النحل. فهذه علامة على أن الحقول سليمة».

ثم أدخل العزوق ابنه أحمد،
الذي يبلغ من العمر عامين، إلى المطبخ. وكان على وشك الذهاب وإحضار أطفاله الآخرين
من المدرسة، ثم المرور على المزرعة العضوية التي يديرها مع أشخاصٍ سوريين
ولبنانيين آخرين، وأخٍ وأخت فرنسيين. وهم يهدفون، باستخدام تقنياتٍ طبيعية، إلى
حماية التنوع البيولوجي في المنطقة، لا سيما الأنواع التي تضرَّرت من الحرب في
سوريا. ويزرعون هناك مجموعةً من الفواكه والخضراوات، لكنَّهم لا يزرعون وروداً،
فزراعتها مقصورةٌ على الفناء الخلفي في منزل عائلة العزوق.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى