دنيا ودينكتاب وادباء

( 14 ) القصص القرآني و وقعنا المعاصر

  • ==============
  • من روائع الكاتب الأديب
  •  

    الدكتور جمال محمد

الهجرة الشريفة … بين التوكل الله و الأخذ بالأسباب :

================

الا تنصروه فقد نصره الله اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا , فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلي , و كلمة الله هي العليا , و الله عزيز حكيم “.

مما لا شك فيه أن الهجرة النبوية الشريفة لم تكن الحدث الأهم في تاريخ الأمة الاسلامية فقط , لكنها الحدث الأهم في تاريخ البشرية كلها …و ليست فقط لأنها كانت فتحا للاسلام , و لكن لأنها كانت منهجا للهجرة الدائمة المطلوبة من المعصية الي الطاعة , و من عبادة الأرباب و الطواغيت و العجول الذهبية الي عبادة رب الأرباب , بل و الي الحرية المطلقة المتمثلة في الخضوع و العبودية لله وحده دون سواه , تعلو فوق الانتماء الي عرق أو بلد و لون .. بتجرد تام لله عز و جل .

و قصة الهجرة تضعنا أمام منهجا ربانيا متكاملا في الأخذ بالأسباب , بعد التوكل علي رب الأسباب و مسببها في حينها …منهجا ربانيا اصطفي به الله أمة خير الأنام عليه الصلاة و السلام , علي سائر الأمم الي قيام الساعة , خاصة اذا عقدنا مقارنة بية اصطفاء أمم سابقة كبني اسرائيل , أو نبي مرسل مصطفي كموسي عليه السلام , كما سيتبين من السياق التالي .

اصطفي الله رسولنا الكريم عليه أفضل السلام علي سائر الأنبياء و المرسلين , كما اصطفي أمته علي سائر الأمم , و يكفي أنها أول الأمم دخولا الي الجنة ان شاء الله . ولكن هذا الاصطفاء كان له ثمنه ” العملي ” , و ايعازا بانتهاج نهج الأخذ بالأسباب و ليس الركون و التواكل كما فعل بنو اسرائيل بالقاء المسئولية علي أنبيائهم علي الدوام : – اذهب أنت و ربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون , – ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها …الآيات , بل جاءهم التابوت تحمله الملائكة تثبيتا لهم و ظلل الله عليهم الغمام و أنزل عليهم المن و السلوي , و لكن المحصلة كانت استحقاقهم للعنة من الله عز و جل .

فكان من أهم دروس الهجرة الشريفة أهمية الأخذ بالأسباب مع التوكل علي رب الأسباب , يرسمه لنا رسولنا عليه السلام في قصة الهجرة , طريقا ليضع لنا خطا فاصلا بين التوكل و ….التواكل.

ضرب لنا رسولنا الكريم عليه السلام أعظم الأمثلة في الأخذ بالأسباب و التخطيط السليم للأحداث العظام من خلال هجرته الشريفة . فالاستعداد للهجرة لم يأتي في عدة أيام بل سبقه اعدادا طويلا , أوله السرية التامة و حتي خل الرسول في الهجرة , أبو بكر الصديق , لم يعلم بهذا الأمر الا في آخر اللحظات .

” و اذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك , و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين .”

و لنا هنا وقفة قصيرة , فالله سبحانة وتعالي و حاشاه ليس من أسمائه الماكر …فما معني مكر الله ؟؟ مكر الله = الذي يحبط مكر من سواه . و امعانا في المكر بالكفار جاءت الهجرة في توقيت قمة استعداد الكفار لاحباطها و النيل من الرسول عليه السلام و قتله , ليس قبلها و لا بعدها بليلة , ليتأكد معني الآية الكريمة ..” و الله غالب علي أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون .” , و ليتيقن المؤمنون الي قيام الساعة أن مكر أولئك هو يبور و أنهم ما هم بمعجزين , مهما خططوا و أعدوا العدة و صرفوا الأموال و جيشوا الجيوش و قاموا بانقلابات , و مهما كذبوا و دلسوا , فمكرهم الي بوار .

و ليصدق فيهم قوله عز و جل …” قد مكر الذين من قبلهم فأتي الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ” .

اجتمع أربعون فارسا من القبائل ليقتلوا الرسول عليه السلام و يتفرق دمه في القبائل , و في ذات الليلة أمره الله بالخروج , و لنا هنا وقفة مع الفدائي الصغير الذي علمنا معني العمليات الاستشهادية التي لنا معها عودة في قصة الغلام من سورة البروج و استدلالاتها و التي فيها الرد علي علمائنا المأفونين الذين كانوا يصرون علي تسمية تلك العمليات بالانتحارية ( مقال : أصحاب الأخدود و اعلام الدجال .. الجزء الثاني ) . بات علي بن أبي طالب في سرير الرسول عليه السلام ليلة الهجرة , زيادة في الحيطة و التخطيط…..فماذا حدث ؟ بعد ايمان راسخ و يقين بالله و أخذ بالأسباب يليه توكل علي رب الأسباب , و هنا فقط تدخلت ( يد القدرة ) ليخرج الرسول بين ظهرانيهم ويضع التراب علي الرؤوس , فأغشاهم الله و لم يبصروا ” و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ” , و لكن هل هزتهم تلك الآية ؟!

” و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون .”

هذا هو حال أهل الكفر و النفاق و أعداء الدين و المنهج الرباني دائما لا يرتدعون و لا تهزهم الآيات و لنا في أهل الانقلاب عبر كثيرة أشرنا اليها في مقالنا السابق .

موعد الهجرة لم يعلمه الا القلة القليلة في حينه , منهم أبناء أبي بكر عبد الله و أسماء اللذان كانا يأتيان بالطعام و الأخبار الي الغار , و عبد الله بن اريقط الدليل الكافر الذي اختاره الرسول عليه السلام أخذا بالأسباب ولتيقنه بكنمانه و ائتمانه للسر , وليتبين لنا المغزي , لنقرأ سويا هذه الآيات من سورة القصص ” و لما توجه موسي تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل .”

كان من الممكن أن يدعو الرسول عليه السلام ربه ليرشده الطريق , و لكنه يعلمنا الأخذ بالأسباب و التخطيط السليم , حتي في طريق هجرته لم يأخذ الطريق الدارجة انما أخذ طريق البحر غير المطروق , امعانا مرة أخري في الأخذ بكل أسباب التخطيط و الحيطة . ثم هناك من كان يسير خلفه لمحو آثار السير ….الي هنا أخذ رسولنا الكريم بكل الأسباب البشرية يعلمنا اياها ويرسم لنا طريقا نسلكه علي الدوام ……و مع ذلك و مع كل هذا التخطيط و الحيطة و الحذر , وصل اليهم الكفار والرسول عليه الصلاة و السلام في الغار معه صاحبه ليعلم البشر أجمع معني التوكل علي الله بجملة “ لا تحزن ان الله معنا ” , و التي تعكس أعظم درجات التوكل علي الله , في وقت يقول له صاحبه يا رسول الله لو نظروا تحت أقدامهم لرأونا , و هنا أعمي الله أبصارهم فلم يروا الرسول عليه السلام و لا صاحبه و هم ينظرون اليه مباشرة , هنا تدخلت ( يد القدرة) الالهية مرة ثانية , بعد نية صادقة و يقين ثابت و توكل مع الأخذ بالأسباب , فأغشي الله أبصارهم فلم يروهم , و ما يعرفه الناس عن نسيج العنكبوت و اليمامتين علي باب الغار لم يثبت عنه أي دليل في الأثر

***

و حتي يرسخ المعني و لا يتسرب اليأس أو القلق الي القلوب , فمهما كان التخطيط و الأخذ بالأسباب , فالله ” الوكيل ” , هو الذي يكمل النقص في الاستعداد و التخطيط البشري , فالأمر منه و اليه علي الدوام .

حدث بعد ذلك أن لحقهم سراقة علي فرسه , و هنا أيضا تتدخل ( يد القدرة ) الالهية , فاذا بفرسه يغوص في الرمال فعلم أن الرسول عليه السلام معصوم , فأعطي العهد و الأمان للرسول عليه السلام و خذل عنهم و وعده الرسول عليه السلام سواري كسري , و هو في قمة المحنة , و هنا تأتي العظمة و المعجزة .

ثم يصل الرسول عليه السلام الي المدينة المنورة , ايذانا بفتح للاسلام و بزوغ فجر جديد , ليتيقن الجميع أن الله بالغ أمره بعز عزيز أو ذل ذليل , و مهما حاول الكافرون و المنافقون و المرجفون محاربة الدين و النهج الرباني , ليثق المسلمون في وعد ربهم و نصره لهم اذا ساروا علي نفس النهجو كان حقا علينا نصر المؤمنين ” , ما دام اعلاء كلمة الله و الدين هو الهدف و الغاية , و ما كان الله مخلف وعده رسله . و كما أن الشئ بالشئ يذكر أضيف تصحيحا لمعلومات مغلوطة توارثناها جميعا , فلم يثبت أن استقبل أهل المدينة الرسول عليه السلام بنشيد ” طلع البدر علينا ” , و انما أنشد هذا النشيد عند عودة الرسول عليه السلام من غزوة تبوك , و في ذلك استدلالات تاريخية و جغرافية

***

ليس مجال ذكرها الآن .

انها معادلة , آخرها نصر الله , فقط نحقق المطلوب منا كمسلمين كما رسم لنا الرسول عليه السلام الطريق الي ذلك , بعد معاناة مع أنه كان من الممكن أن يدعو الله فيصل الي المدينة في طرفة عين , مثلا كحادثة الاسراء و المعراج و لكن , و حتي لا يتسرب اليأس أو الوهن أو التواكل الي القلوب , أخذ بكل سبب ممكن مع صدق توكل علي الله ليخط لنا تلك المعادلة :

( ايمان بالله مع توحيد خالص + صدق النية + أخذ بالأسباب + توكل علي الله = نصر من الله و فتح قريب ) .

و نحن الآن في انتظار( يد القدرة ) , ليحق الله الحق بكلماته و لو كره الكافرون و لو كره المنافقون و لو كره الانقلابيون , فقط …. اصدقوا الله و أروه منكم خيرا , و أحسنوا التوكل عليه و التقرب اليه ( موسي …و فرعون و عباد العجل .. الجزء الثاني ) , و اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون .

فالبشري كل البشري , أراها قد اقتربت , و أرانا و قد هاجرنا الي الله و رسوله و تركنا عاداتنا الموروثة بل و أهلنا , بعد أن أحببنا في الله و أبغضنا في الله , و صارت تلك سمتنا , و أصبح اعلاء كلمة الله غايتنا غير متعصبين لشخص و لا فئة , لا يعنينا الا رفعة شأن ديننا و الذود عنه , نركب سفينة الايمان , رايتها التوحيد , و أشرعتها اليقين بالله و الأخذ بالأسباب و التوكل علي الله و الثقة في موعود الله , نبحر في بحر متلاطم غير آبهين بمخاطر و هانت علينا الحياة و قدمنا الشهداء , فأبشروا و أبشروا ثم أبشروا بنصر من الله و فتح قريب …………

و بشر المؤمنين .

فستذكرون ما أقول لكم و أفوض أمري الي الله , ان الله بصير بالعباد .

و كل عام و أنتم بخير و من الله أقرب.

——————————————————————————————————————-

***

كتاب الرحيق المختوم = لصفي الدين المباركفوري , و هو بحث متقدم حول كل المعلومات المغلوطة المتعلقة بالسيرة النبوية و الهجرة .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى