ثقافة وادب

اتهموه بالإلحاد وأنه “أبوالنازية”.. ما حقيقة الفيلسوف الألماني نيتشه؟

يكثر وينتشر اليوم قراء الفيلسوف الألماني المثير للجدل نيتشه، وتلقى اقتباساته وأقواله رواجاً كبيراً، وأصبحت أفكار مثل “موت الإله”، و”الإنسان الأعلى”، و”إرادة القوة” تزدحم بها المقالات والنصوص. لتعتقد لوهلة أن المفاهيم النيتشوية أصبحت في متناول الجميع، لكن المؤكد أن فلسفة نيتشه غالباً ما يساء فهمها، وكان هذا من قبل فلاسفة كبار فما بالك بالعامة.

لقد وصف نيتشه نفسه بعبوة الديناميت، وإذا كان التعامل مع الديناميت خطراً لأن الخطأ الأول على الأرجح سيكون الأخير. فإن التعامل الخاطئ مع نيتشه أشد خطورة، فالهلاك لن يصيبك وحدك، بل سيطال الكثيرين.

قال نيتشه إن آخر من سيفهمه هم أبناء جلدته الألمان، ويبدو أن توقعه كان صائباً فهم أكثر من أساء إليه. ومن حسن حظه أنه تم إحياء إرثه في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، في زمن كان فيه الفكر النيتشوي متهماً بجلب المصائب. لَطالما أراد نيتشه أن يكون فرنسياً، وامتدح كثيراً علو كعب الثقافة الفرنسية. ويبدو أن الفرنسيين جازوه على ذلك التمني.

عادة ما يقفز الناس صوب فلسفة نيتشه ظناً منهم بوضوحها وسهولتها، وهذا تفكير -لا شك- فاسد. نيتشه لن يفهم جيداً دون فهم عميق لكل من كانط وهيغل، هذا ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي لوك فيري. وحتى بفهمهما يبقى فهم نيتشه محل شك وصعوبة.

إن سوء فهمه ولد بالأساس من قدرته العجيبة على تحطيم الحدود بين الأدب والفلسفة، لغة نيتشه الشعرية وأسلوب الشذرات جعل الجميع يفضل كتاباته. لكن تأويلها واستخراج المفاهيم منها يبقى مهمة صعبة. أشهر كتب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت: كتاب للجميع ولا لأحد”؛ الجميع سيعتقد أنه يفهم نيتشه عند قراءته، ولا لأحد حق التشكيك في القدرة على الفهم والقراءة. هذا ما يشير إليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بالتداخل بين القراءة الأدبية والقراءة الفلسفية للنص الفلسفي.

الكثير من كبار الأكاديميين كانوا يعتبرون نيتشه متهوراً وأن نقده ضعيف. ولا شك أن هذا الرأي فيه الكثير من السطحية، رغم وجود بعض التناقض في فلسفته. وهذا راجع لمرضه، ما أجبره أحياناً على الكتابة بسرعة، لكن تبقى أصول وركائز فلسفته متماسكة.

بهذا، يمثّل دولوز صفّ نيتشه في مقابل صفّ هيغل، في سعي حثيث منه لتجاوز ما بات يعرف بالهاءات الثلاث المسيطرة على دوائر الفلسفة الفرنسيّة آنذاك: هيغل، هوسرل، هيدغر. وفي سياق فكر جديد ما بعد بنيوي في أعقاب الحرب العالمية.

اتبع دولوز صرامة علمية، مدققاً في كل مقولات نيتشه ومفاهيمه، ما كتبه دولوز مختلف وأكثر إبداعية لدقة قراءته وتمكنه المنقطع النظير من المفاهيم النيتشوية.

عادة ما يتم اعتبار “نيتشه، فرويد، ماركس” محطمي القيم الأوروبية التي كانت سائدة في الماضي، ويوصفون بـ”فجر الثقافة الأوروبية المعاصرة”، لكن حسب “دولوز” فإن نيتشه مختلف أنه “فجر ثقافة أخرى”. لقد كان هدف فرويد وماركس هو “إعادة الترميز”، فهما في النهاية ينتصران للبيروقراطية (الدولة، العائلة) ومحاولة تشكيلهما بطريقة مغايرة، مع ارتباطها ببعض الأفكار الأفلاطونية (مثل مبدأ اللذة). أما نيتشه فيحطم كل شيء ويعيد البناء.

“موت الإله” هي واحدة من أشهر الجمل المعروفة في الفلسفة، وتتردد كثيراً، لكن غالباً ما يتم إخراجها عن سياقها.

“موت الإله” لم يكن هجوما إلحادياً بالمعنى الذي يتم ترويجه اليوم، بل على الأرجح كان هجوماً على العلاقة المحكمة بين المنطق واللاهوت، والذي بدأ مع أفلاطون، وامتد للتعاليم المسيحيَّة. في كتابه “العلم المرح” ينادي نيتشه بإعادة اكتشاف الذات بالكامل، في سبيل العيش بحق في هذا العالم. نيتشه لم يُعلِ المنطق إلى إله أيضاً، وهذه فكرة تخالف ما يروج له الإلحاد اليوم.

بيّن المفكران “توماس التيزر” و”ويليم هاملتون” في كتابهما “اللاهوت الراديكالي وموت الله” غموض القول بموت الله، وذهبا إلى أنّ هذه العبارة الغامضة قد تحتمل عشرة تفسيرات مختلفة، تتراوح ما بين الإلحاد والأصولية الدينية واللاهوتية.

– أنّ الله غير موجود، ولم يكن له وجود مطلقاً.

– كان هناك إله جدير بالعبادة، ولكن هذا الإله غير موجود الآن.

– إنسان اليوم يشعر أنّ الله مختفٍ وغائب.

– وجود معنى تصوّفي في المقولة يفيد أنّ الرب يجب أن يموت في العالم حتى يمكن ولادته فينا. 

اعتقد نيتشه أن موت المعنى يضع معظم الناس في مواجهة خطر اليأس وعدم جدوى الحياة. لذلك لم يعتبر نيتشه موت الإله شيئاً جيداً تماماً.

قال نيتشه محذراً من العدمية: “ما أعزو إليه هو تاريخ القرنين القادمين. أصف ما هو قادم، ما لم يعد يمكن أن يأتي بشكل مختلف: بزوغ العدمية، فلقد تحركت ثقافتنا الأوروبية كلها منذ بعض الوقت متجهةً نحو كارثة”.

إرادة القوة 

“إرادة القوة” التي يساء فهمها أيضاً، حيث يصورها البعض بحق القوي في سحق الضعفاء مادياً وجسدياً، وسبب هذا الخطأ يعود للتشويه والتزوير الذي قامت به أخت نيتشه لأرشيفه، وقامت بنشر كتاب “إرادة القوة” بعد وفاته، ورغم إثبات زيف الكتاب سنة 1937، مع تدخلات الفيلسوف “كارل ياسبرس” وتأكيد “هيدغر” أن الكتابة تبدو غير علمية ولا تعود لنيتشه (أثبته دولوز كذلك بحجج أخرى فيما بعد)، فإن الكتاب تواصل نشره وترويجه، وهو ما استغله الفيلسوف “ألفريد بيوملر” المنظر الأبرز للنازية.

هذا التشويه الذي جعل الكثيرين يربطون نيتشه بالنازية في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى رأسهم الفيلسوف الإنجليزي الكبير “راسل”.

يقول جيل دولوز: إن هتلر هو عبد نيتشه الذي نبذه في أفكاره، حيث سعى إلى السيطرة والتدمير، إنه العبد الذي يعتقد أنه تحرر، لكنه في الواقع لم يقترب من الحرية.

حسب نيتشه يملك الجميع إرادة القوة، وليس كما هو منتشر بين الناس اليوم أن الأقوياء وحدهم من يملكون هذه الإرادة. تنقسم إرادة القوة إلى إثباتية ونافية. تعمل هذه الإرادة على نمذجة القيم، وتقييمها، تبعاً لأي إرادة قوة تسيطر عليها. فإن كانت إثباتية فهي قوى فاعلة، وإن كانت نافية فهي قوى ارتكاسية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى