كتاب وادباء

دُولابُ جدتي

دُولابُ جدتي

بقلم الأديب الكاتب

 أحمد الحارون

أحمد الحارون

……

دولابُ جدتي.. لمن لا يعرفه من جيل (الأي فون) كان بعضُ الرفوفِ من الخشبِ، يتجاوزُ طوله المتر بقليلٍ، وعرضُه يقارب طوله، يبدو أنه كان أنفسَ ما في الجهاز(الجهاز لمن لا يعرفه عفش الزوجية) وكان هذا الدولاب يُرصُّ عليه الطواجنُ( والطاجن يُصنع من الفخار يضعون فيه اللبن) وفوق الدولابِ على مِسمارٍ أكله الصدأ تجد حصيرة الجِبنة( والحصيرة كانت أفضل وأهم ما في البيت لأنها آلة صناعة الجبن القريش) وعلى السطحِ وفي ركنٍ بعيد عن متناول الصغار تجد بلاصي الجبنة القديمة، وكنا صغاراً نبدأ يومنا مبكرين، فبعد صلاةِ الصبح وتناول الأفطار الخفيف وكوب الشاي على المنقد، أو وابور الجاز يبدأ يوم العمل فنأخذ الحيواناتِ إلى الحقل، وتتوزع الأدوار، فالكبار يعملون في الحرث والزراعة، والصغار يباشرون تجهيز العلف للحيوانات طول النهار، وتجفيف الحظيرة من الروثِ( على فكرة.. هذا الروثُ كان مادة الوقود لكانون الطبيخ)، ( والكانون أشبه اليوم بالبوتجاز سبع شعلات)، وغالباً كان يصحبنا الكتابُ المدرسي وكراسة الواجب التي تشبه أوراقها قراطيس الفلافل المشبعة بالزيت، وبقايا قلم رصاص نستجديه ليتمم لنا ما بدأنا كتابته. وحين يختفي قرصُ الشمس من دائرة الأفق تبدأ رحلة العودة إلى البيتِ ونقود الحيوانات من خلال ما يسمى بالرواسة( والرواسة لمن لا يعرفها حبل حول عنق الماشية تُسحب منه حين السير وتُربط من خلاله بالوتد في الحقل، وفي حظيرة البيت تربط به من خلال حلقة الطوالة(الطوالة لدى الحيوان… لمن لا يعرفها أشبه بمائدة الطعام لدى البشر أو ترابيز السفرة التي يؤكل عليها). وحين وصول البيت بعد المغرب تبدأ الحركة والحياة المتسارعة في البيت، فتبدأ الأم بحلبِ الماشية ووضع اللبن في طواجن الفخار، وهنا تأتي أهمية دولاب جدتي والحصيرة، حيث تُرص الطواجن حسب ترتيب الحداثة والقدم، ليُترك اللبن الحديث ليروبَ( يروب اللبن أي يتحول بفعل البكتيريا إلى رائبٍ، أي أكثر تماسكا ويشبه الزبادي على أيامنا)، وحين يروبُ اللبن وقبل النوم تُفصل القشدة ليُصنع منها الزبدة، ويوضع اللبن الرائب في الحصيرة ليتحول إلى جبنٍ نأكل منه، وما فاض من الجبن إما يباع كل أسبوع لأهل المدينة، أو تضعه أمي في البلاصي على السطوح لتتحول الجبن مع قليل من المِشِّ والمِلح إلى جبنة قديمة بعد عام أو يزيد قليلا، وهكذا كان البيت أشبه بخلية النحل، عمل وجد طوال النهار، وسمر وحديث بعد العشاء حول لمبة الجاز أو مشاركة المناسبات مع الأقارب والجيران.

وواقع الريف المصري للأسف فقد معناه، ونسي مبناه منذ ما يربو عن ثلاثة عقود، ومع هوجة الانفتاح وظاهرة تأنيث الأسرة المصرية، حيث سفر الأب وبيع الأرض ومن ثم الماشية، فبات دولابُ جدتي إرثاً عظيماً ويحمل تضاريس الزمن، وتعاريج الأيام، وشاهد عيان على غالبِ طعامنا صيفاً وشتاءً، وكنا حين عودتنا من المدرسة صغارا، أو من الحقل بعد عناء العمل، وألم البطن من الجوع ونسأل أمَّنا الطعام وهي مشغولة بأمرٍ ما…كان جوابها المعتاد: عندك الجبنة والقشدة في الدولاب رُوحْ كُل، وساعتها ينطق لسانُ حال الضجر والتأفف: كل يوم جبنة وقشدة، وكأني أرنبُ درس القراءة في الابتدائي الذي كان يتمرد على أمه قائلا: كل يوم خس وجزر!! وكنا ننتظر بشوقٍ كبير حين ترحل أمي إلى المدينة لتبيع أرطالَ الزبد والقشدة وتعود محملة لنا بخبز المدينة وأقراص الطعمية التي كانت رائحتها أنذاك كفيلة بأن يسيل لها لعابنا عن بُعدٍ، ناهيك عن طعمها ولذتها. ومع تغير البيت من الطوب الطيني إلى الطوب الأحمر بفعل عوامل السفر، فقد دولابُ جدتي رونقه، وانفضت الأفواه من حوله، وتناقصت الطواجن الخاوية من اللبن، فلا ماشية نحلب منها اللبن، وعادت الجبن والقشدة والزبد طعام القادرين وذوي الدخول المرتفعة، وفقدنا بلاصي الجبنة القديمة، وننتظر السنوات ليحدث لنا نوعا من الكفاية المادية أو تفيض بعض الجنيهات عن الحاجة لنشتري بها عينات زبدة وقشدة وجبنة قديمة رغم أنها لا تشبه بضاعة دولاب جدتي من قريب ولا من بعيد. وظلَّ دولابُ جدتي متوقفاً عن العمل لسنوات كثيرة، لكنه يشغل مكانه ويحتفظ بعبق الماضي وذكرياته، وبات يشبه الحلسَ القديم الذي لا تُرجى منه فائدة فيُحفظ، وتضيقُ به حاجاتُ البيتِ ثم لا يُطرد، إلى أن مللناه وحلَّ مكانه دولابُ التلفاز وترابيزة الكمبيوتر، وامتلأ البيتُ بالأسلاك الموصلة بالكهرباء والنت، والكلُّ ينظر في هاتفه أضعاف ما ينظر وينصت لأهله وذويه ومعلميه ومن ثَمَّ قرآنه. ودولابُ جدتي المتوقف عن العمل والخاوي من طواجن اللبن، والحصيرة المترملة على الحائط أشبه بجامعة الدول العربية واجتماعاتِ القمة التي مللناها وباتت تشغل حيزاً من الحديثِ المعاد والممل والمقزز كل فترة، نفس الوجوه ..نفس المشاكل…نفس الأماني، ونفس قضية فلسطين وبعض التوصيات حبيسة الأدراج، لكن هذه المرة ورغم العدوان على غزة  الذي تجاوز الشهر كانت الجامعةُ شيطاناً أدمن الخرسَ، فما سمعنا حتى كلماتها الغثة( ندين ونشجب ونستنكر) لكن لا بأس.. فاجتماعاتها دائما لا يأتي منها أيُّ جديدٍ سوي بعض القبلات وكثير النفاق، وزحام العدسات، ونفس الوجوه من كلِّ وطنٍ كـــ دودِ الأمعاءِ في كلِّ بطنٍ، لا نطيق ذكرهم، فما بالك برؤيتهم والتعايش معهم!! ومهما حاولنا التخلص منهم ينبتون من جديد.. كما يتناسل الدودُ ذاتياً، ويبقى لوجودهم حكمة يعلمها الله، فلله الحمد والمنة على ما كشفه لنا دود الوطن من أشياء كنا نجهلها. وسيظل تناسل الدود مستمراً، وستظلُّأغلى ثلاث كلمات في تاريخ العرب… ندينُ ونشجبُ ونستنكرُ، ولو حسبنا تكلفة هذه الكلمات وتكلفة الاجتماعات ستجدها فاقت ميزانيات دول كبرى، بلاها جامعة .. يعني لو كانت مدرسة وألا دار حاضنة مش كنا تقشفنا ووفرنا النفكات؟؟؟. والآن أسأل.. متى نتخلصُ من إرث جامعة الدول العربية كما تخلصنا من دولاب جدتي الذي لا فائدة منه؟

 (يوميات مواطن مفروس من الجامعة العربية).

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى