الأرشيفكتاب وادباء

رسالة المعلم بين التقدير والتكدير

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
*  إن دور المعلم في الحياة لا يبارى ولا يجارى ولا يقدر بثمن لأنه هو الذي يروى العقول  ويغذى الأفهام ويشرح مفهوم الكلام . المعلم هو ذلك القلب الكبير الذي يضخ مزيدا من الأدب والعلم فى شرايين أبنائه وتلاميذه على مر الزمان . المعلم الحق لم يكن ولا يجب أن يكون سلعة تباع وتشترى فى سوق المال لأن ذلك من تردى وسوء الأحوال . يقول جبران خليل جبران :
قوم الأوطان على كاهل ثلاثة : فلاح يغذيه ، جندى يحميه ومعلم يربيه .
فالمعلم فى المقام الأول  كان وسيظل مربيا حكيما فاضلا قبل أن يكون مصدرا للمعلومات فى مجال تخصصه . لقد بلغ من شرف وكرامة  مهنة  المعلم  ورسالة التعليم أن جعلها الله من جملة المهام التي كلف بها  رسوله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى ” لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ “ . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر , وقد أقر القرآن الكريم  فى كثير من آياته بدور الرسول صلى الله عليه وسلم فى تعليم وتهذيب وتزكية الناس فقال تعالى : ”  رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ  “ وهذا شرف كبير لكل من قدر الله له العمل فى هذه المهنة العظيمة عند الله وعند رسوله .
*  ورغم كل ماسبق ذكره من تعظيم وتقدير لدور المعلم فى تربية وتهذيب وتزكية الأجيال ,  إلا أن  المعلم في مصر أصبح ككرة القدم تتقاذفها أقدام الصبيان فى الشوارع والنواصي والطرقات بلا كرامة أو احترام  . والحق أقول أن المعلم نفسه يتحمل قدر من هذه المسؤولية لأنه هو الذى قبل أن يكون سلعة تباع وتشترى لمن يدفع أكثر . صارت شرائح غير قليلة من المعلمين يعملون فى مهن لا تتناسب ووقار المعلم , كأن يكون مثلا سائق توكتوك بعد الظهر أو بائع للفول والطعمية أو مساح أحذية أو حلاق أو بائع متجول يحمل حقيبته فوق ظهره ويدور بها على المصالح الحكومية  , مع احترامي  وتقديري لأصحاب هذه المهن . أضف إلى ذلك المغالاة والمبالغة فى المقابل المادى للدروس الخصوصية بما يفوق قدرة أولياء الأمور على دفع هذه المبالغ الضخمة .   لقد صار المعلم ” ملطشة ” وشماعة يعلق عليها كبار المسؤولين أخطاءهم وفشلهم فى وضع خطط  واستراتيجيات بعيدة المدى للرقى بالمعلم وبرسالة التعليم .  الكل يتطاول على المعلم  بداية من أولياء الأمور والطلاب أنفسهم حتى المسؤولين فى تصريحاتهم الاستفزازية والتي تذيب جبل الجليد من شدة سخونتها وحرارتها وسعيرها .  فهذا يصف المعلمين بأنهم حرامية  وغير أكفاء وذاك النائب يصف المعلمين  بأنهم بلطجية يتعاطون المخدرات ويطالب بتحليل مخدرات للمدرسين . أرأيتم مهانة وذلة وانكسار للمعلم أكثر من وصفه بأنه بلطجى يتعاطى المخدرات ؟
*  لن تتحقق أي تنمية ولن يتحقق أى تقدم فى أى مجال من مجالات الحياة إلا بالمعلم والتعليم , فإذا سقط المعلم , سقط البنيان , وإذا سقط البنيان, فلا دولة ولا وطن  ولاشعب ولا صلاح  ولا إصلاح . إصلاح التعليم يبدأ بالمعلم وكرامة المعلم من كرامة الدولة . ويوم أن يهان المعلم من صغار وكبار المسؤولين , يوم أن تفشل العملية التعليمية فشلا ذريعا .كيف يقف المعلم مرفوع الرأس وكرامته مهدرة …؟ وكيف ينظر الطلاب إلي معلم بلا كرامة ؟ وكيف يعمل المعلم من طابور الصباح حتى خروج  آخر طالب من المدرسة وراتبه لايكفيه ثلاثة أيام  ؟ هب جدلا أن المعلم رفض أن يعطى دروسيا خصوصية , وهذا موجود بالفعل عند البعض , فهل يستطيع المعلم أن يكفل زوجته وأبناءه من طلوع الشمس إلى مغربها ثلاثة أيام  ؟ هل يستطيع المعلم أن يقوم بمتطلبات الحياة من مأكل وملبس ومشرب ودواء وعلاج وفواتير وأطباء وروشتات ومواصلات وراتبه لايتعدى ألفى جنيه بعد عشرين عاما من العمل المتواصل فى الوزارة  ؟ أعطوا المعلم مايكفيه ويرضيه , وإن مد يده بعد ذلك فحاسبوه حسابا شديدا , أما إذا تركتموه بلا رعاية صحية ومادية ونفسية , فلا تلوموه إن هو بحث له عن مهنة أخرى يسد بها جوعته , ويكفى بها فقره وحاجته . ياسادة يامسؤولين : لوموا أنفسكم عن فشل التعليم فى وطننا قبل أن تلوموا المعلم الذى تاه وضاع وصار كريشة فى مهب الريح .
* ما الذي جعل مصر فى المركز قبل الأخير فى مؤشر ﺟﻮﺩﺓ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﺘﺪﻯ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ ﺩﺍﻓﻮﺱ ﻟﻌﺎﻡ -2015 2016 ﻡ ﻓﻲ 30 ﺳﺒﺘﻤﺒﺮ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻋﻦ ﺗﺪﻧﻲ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﺃﻏﻠﺐ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﺎﻝ ﺟﻮﺩﺓ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ  ?. ﻓﺎﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺣﺼﺪﺗﻬﺎ ﺳﻨﻐﺎﻓﻮﺭﺓ، ﺛﻢ ﺳﻮﻳﺴﺮﺍ ﺗﻠﻴﻬﺎ، ﻭﻓﻨﻠﻨﺪﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ الثالثة . ﻓﻴﻤﺎ ﺍﺣﺘﻠﺖ ﻣﺼﺮ، ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ 139 ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﻗﺒﻞ ﺍﻷﺧﻴﺮ . ﻭﻗﺪ ﺍﻋﺘﺒﺮ ﺍﻟﻤﺆﺷﺮ ﻛﻼً ﻣﻦ: ﻟﻴﺒﻴﺎ والسودان ﻭﺳﻮﺭﻳﺎ ﻭﺍﻟﻌﺮﺍﻕ ﻭﺍﻟﻴﻤﻦ ﻭﺍﻟﺼﻮﻣﺎﻝ ﺩﻭﻝ ﻏﻴﺮ ﻣﺼﻨﻔﻪ  ﻻﻧﻬﺎ ﺩﻭﻝ ﻻ ﺗﺘﻮﻓﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﺑﺴﻂ ﻣﻌﺎﻳﻴﺮ ﺍﻟﺠﻮﺩﻩ ﻓﻰ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ . إن رواتب المعلمين في ألمانيا أعلى من رواتب القضاة والأطباء والمهندسين الألمان . وقد تظاهر القضاة في ألمانيا مطالبين بمساواة رواتبهم بمعلمي الابتدائي , فردت عليهم المستشارة الألمانية ميركيل قائلة: “تأدبوا، كيف تطالبونني أن أساويكم بمن علموكم؟  أما فى اليابان فقد سُئل الإمبراطور الياباني، ذات مرة، حول هذه المسألة، فقال: ” إن دولتنا تقدّمت، في هذا الوقت القصير؛ لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير”، حيث يحظى المعلّم في اليابان، بدعم مادي كبير، فإلى جانب راتبه الأساسي، الذي يتراوح بين 32 و68 ألف دولار في السنة . وكانت قد انتشرت صورة لطلبة يابانيين في حفل تخرجهم، وهم يقومون بغسل أرجل معلميهم، تكريماً لهم على مجهوداتهم، فأين نحن من ذلك التقدير لدور المعلم؟
 
 
*  أما فى دولة سنغافورة  فيتراوح راتب المعلّم بين 24 و47 ألف دولار في السنة، ويمنح حوافز مجزية، إضافة إلى البدلات والإعانات، كما يُصرف له نحو ألف دولار سنويــًّا، لتطوير قدراته الذاتية، من خلال حضوره لدورات تدريبية، في معاهد خاصة، أو شراء مستلزمات تقنية، ذات صلة بالتعليم المتقدّم. أما  بريطانيا فهى  من أكثر الدول اهتمامــًا بالمعلم، ماديا ومهنيا ومعنويا، ويقدر متوسط رواتب المعلمين بنحو 31000 جنيه إسترليني في العام جانب المكافآت والحوافز، التي ترتبط بأداء المعلم، ومدى كفاءته، فبحسب قانون حقوق المعلّم لعام 1983م، فقد كفل للمعلّم، الذي لم يرق إلى منصب أعلى، مكافأة تـعا، إلى دل 69% من بدء تعيينه، إلى تقاعده، بينما يمنح من يرقى إلى منصب أكبر 102%. . أما عن التجربة الماليزية، فقد تراجع معدل الفقر في فترة قصيرة من 70% إلى 5%، كما ارتفع دخل الفرد من 350 دولارً إلى 18 ألفًا. ولعب التعليم دورًا بارزًا في النهضة الماليزية، فقد اهتم مهاتير محمد رئيس وزراء مالزيا الأسبق، بإدخال التكنولوجيا الحديثة، كما قام بالاهتمام بتعلم الطلاب اللغة الإنجليزية، من أجل تحقيق التواصل مع العالم الخارجي، وإرسال بعثات تعليمية للخارج، وهو ما تفتقره حكومات البلاد العربية، فلم يتم تطبيق تلك النظرية منذ ولاية محمد علي باشا، وهي من ضمن أبرز أسباب تأخرنا تعليميًا عن باقي الدول.
 
* إن تجارب الدول المتقدمة أمامنا ونراها رأى العين , ولكننا للأسف الشديد لانبدأ من حيث انتهى الآخرون . وهل هناك أسوا من أن يتولى طبيب أطفال لا علاقة له بالتربية والتعليم الوزارة  فى عهد مبارك أربعة عشر عاما متواصلة ؟ بل فى كل مرة تأتى حكومة جديدة ووزير جديد فيبدأون فى التفكير فى كيفية تطوير التعليم . وعندما ينتهون من التفكير ويبدأون فى التطبيق يأتيهم قرار الإقالة بياتا وهم نائمون من غير أسباب واضحة جلية . إننا نجد اليوم من بين خريجى الجامعة من لايجيد الكتابة لا القراءة باللغة العربية ولا حتى بأى لغة أخرى . فمن المسؤول عن هذا الفشل الذريع فى تدنى وهبوط مستوى التعليم ؟ إننا فى مصر تأخرنا عن دول كثيرة كانت تتعلم منا فى الماضي القريب ,وصارت اليوم فى مقدمة الدول الراقية المتقدمة تعليميا واقتصاديا . فما بالنا نحن نركب آخر عربة فى قطار التعليم واضعين رؤوسنا بين أرجلنا نغط فى سبات عميق لا ندرى مايدور حولنا . لا تقدم   ولا رخاء ولا ازدهار ولا تنمية مادام قطار التعليم فى بلادنا يسير كالسلحفاة على القضبان  . ياسادة : إبدأوا من حيث انتهى الآخرون أو استقيلوا من مهامكم لتفسحوا المجال لأجيال جديدة تؤمن برسالة العلم وقيمة المعلم . قم للمعلم ووفيه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا . فهل المعلم فى بلادنا وصل لهذه المرتبة , أم أنه مازال يسال الناس كالمتسول على أبواب المساجد وفى النواصى والطرقات أعطوه أم منعوه   ؟  أكرموا عزيز قوم ذل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى