ثقافة وادب

مجاعة كلّ سنة خلال ألفي عام وضحاياها يتخطون 100 مليون إنسان! تاريخ الصين المأساوي والطويل مع المجاعات

في سبيل مواجهة تحدي نقص الغذاء في الصين، دشّن الحزب الشيوعي الحاكم حملةً إعلامية واسعة تحت اسم “الطبق النظيف”، تستهدف تجنُّب إهدار الطعام في ضوء الظروف الجارية التي تمرّ بها البلاد، والتي قد تضعف قدرة الصين على تأمين احتياجات شعبها من الغذاء، ولذلك فعلى الصين الاعتماد على ذاتها في تأمين غذائها. وللصين تاريخٌ كبير وطويل مع المجاعات التي تسببت في إزهاق أرواح الملايين على مرّ السنين.

بدأت هذه الحملة بعدما أعلن الزعيم الصيني، شي جين بينج، الحرب على إهدار الطعام الذي وصفه بالصادم والمخزي، قائلاً: عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي، فعلى المواطنين الصينيين أن يشعروا بأن هناك أزمة بسبب المثالب التي أظهرتها جائحة كورونا.

وقد أحدثت هذه الحملة ردود فعل سريعة في المجتمع الصيني، تظهر حدة الخوف الشديد عندما يتعلق الأمر بـ”نقص الغذاء” داخل البلاد، فمثلاً قامت إدارة أحد المطاعم بوضع ميزان إلكتروني عند مدخله لوزن الزبائن، وكلّما كان الشخص نحيلاً يأخذ تخفيضاً، وذلك في محاولة إعراضهم عن طلب كثيرٍ من الطعام، كما قالت إحدى المدارس إنها ستمنع الطلاب من التقدم للمنح الدراسية في حال تجاوزت بقايا طعامهم اليومية مقداراً محدداً.

يقول عالم الأنثروبولوجيا والكاتب الأمريكي براين بالمر في مقاله “لماذا لم تعد الصين لديها مجاعات؟” إنّ الصين عانت من مجاعةٍ واحدة تقريباً بشكلٍ سنويّ، على مدى الألفي عام الماضية، وذلك يعود لأسبابٍ عديدة، إما بسبب طبيعة البلاد الجغرافية وكثرة الفيضانات والزلازل، أو بسبب الأوبئة أو بسبب سوء تقدير الحكومات.

لكنّ الملاحظ أن الحقائق الخاصة بالأرقام والأسباب التي تتسبب في حدوث المجاعات الصينية ليست واضحة بشكلٍ كبير في أغلب الأحيان، وذلك لأنّ الحكومات الصينية الحالية المتعاقبة -التي يحكمها الحزب الواحد- تعتمد سياسة الكتمان وعدم تقديم المعلومات الحقيقية.

وهنا نحاول جمع أبرز مجاعات الصين، وفق ما يتوفر من معلومات.

حدثت أول مجاعة معروفة في الصين بين عامي 875-884، على إثر اندلاع ثورة الفلاحين بقيادة الجندي هوانغ تشاو، الذي كان يعمل مهرِّباً للملح. وتعرف هذه الأحداث في البر الرئيسي الصيني باسم ثورة هوانغ تشاو ضد مملكة تانغ، التي ضعفت بشكل خطير بعد مرور بضعة عقود على هذه الثورة.

قامت الثورة بقيادة هوانغ تشاو ضد نظام عائلة يانغ الحاكمة، والتي كانت تتعامل بكل قسوة مع الفلاحين، وفرض الضرائب الباهظة عليهم، واعتمد في ثورته التي سانده فيها الفلاحون على الملح لسنوات، واستمرت الحروب بينه وبين عائلة اليانغ عقدين من الزمن.

كان أغلب الفلاحين يعتمدون على الملح مع بعض الأشياء الأخرى المتوفرة في أكلهم لمواجهة حصار أسرة يانغ لهم، ولكن حلّت المجاعة بعدما حاصرهم محافظ ينشوان الصينية في الشمال بشكلٍ محكم وقطع عنهم جميع الإمدادات، فضلاً عن الكوارث الطبيعية، لم يجد الناس ما يأكلونه، ويقال إنهم أكلوا لحوم الجثث، ولا يعلم أحد عدد الوفيات التي تسببت بها هذه المجاعة.

عرفت الصين إحدى أخطر المجاعات البشرية التي حدثت في العصور الوسطى، بين عامي 1333-1337، وقد حدثت بفعل الزيادة الكبيرة في عدد السكان الصينيين في ذلك الوقت، الذين لم تعد المحاصيل الزراعية تكفيهم أو تلبي احتياجاتهم، إضافة لحدوث الفيضانات المدمرة بفعل غزارة الأمطار، وانتشار الأوبئة بين الناس خلال تلك الفترة.

وبحسب السجلات الصينية المؤرخة، لقي حوالي 6 ملايين شخص حتفهم بسبب هذه المجاعة، ويعتقد المؤرخون أن من المحتمل أن تكون هذه المجاعة التي انتشرت خلالها الأوبئة هي السبب في انتشار الطاعون الأسود وانتقاله إلى أوروبا عام 1347، والذي تسبب في موت ثلث القارة.

كان سبب الطاعون نوع من البكتيريا تسمى يرسينيا طاعونية، تعيش مع القوارض كالفئران، وتتكاثر بداخلها وتنمو، وتنتقل عدواها إلى الإنسان عن طريق البراغيث التي تلدغ الفأر ثم تلدغ الإنسان، ظهر طاعون “الموت الأسود” عام 1331 في الصين، في مقاطعة هوبي، وهي المقاطعة التي ظهر فيها أيضاً فيروس كورونا الجديد وعاصمتها مدينة ووهان، بعدما انتشرت الجرذان بين الناس، إما لأكلها أو انتشارها.

في النصف الأول من القرن السابع عشر، انتشرت المجاعات في شمال غرب الصين بسبب الطقس الجاف والبارد الذي ضرب المحاصيل الزراعية، حتى إنها أدّت إلى خللٍ بيئي كبير يعرف الآن باسم “العصر الجليدي الصغير”، وحدوث كوارث طبيعية كثيرة، نتجت عنها مجاعة كبيرة في المنطقة.
وعلاوة على ذلك اجتاح وباء جميع أنحاء الصين، ما أسفر عن مقتل عدد كبير من السكان، ولكنه غير معروف حتى الآن.

في هذه السنوات لم تستطع الحكومة الصينية احتواء الموقف وإدارة أزمة المجاعة، بل زادت من الضرائب على المواطنين الجياع، حتى اندلعت ثورة شعبية كبرى نظمها الفلاحون بقيادة لي تسي تشنغ عام 1640 الذي أصبح إمبراطوراً فيما بعد، واستطاعوا إنهاء حكم إمبراطور سلالة مينغ عام 1644 وطردهم من بكين.

وقد حدثت هذه المجاعة بسبب عدة عوامل، أولها انهيار الاقتصاد في الصين خلال السنوات الأخيرة من عهد الإمبراطور وانلي، بسبب نقص الفضّة من خزينة الإمبراطورية نتيحة للغارات وحملات القرصنة التي كانت تشنها إنجلترا وهولندا على إسبانيا والبرتغال لسرقة الفضة.

كما أنهى حلفاء الصين في آسيا التجارة مع الأوروبيين عن طريق الصين في تلك الفترة، الأمر الذي أدى إلى الزيادة في شح الفضة وارتفاع كبير في قيمة الفضة، وجعل دفع الضرائب مستحيلاً تقريباً بالنسبة لمعظم المقاطعات، بسبب الخسائر التي تكبدها الفلاحون.

أما العامل الثاني فهو الكوارث الطبيعية المتكررة التي كانت تضرب شمال الصين في تلك الفترة، من الطقس الجاف والبارد غير العادي، والفياضانات، التي تم وصفها بأنها حدث بيئي يعرف الآن باسم العصر الجليدي الصغير.

العامل الثالث سوء إدارة الحكومة التي عملت على زيادة الضرائب، والتهجير العسكري الواسع النطاق، وتدهور نظام الإغاثة، وعجز الحكومة عن إدارة مشاريع الري ومكافحة الفيضانات على نحو سليم، حيث كانت الحكومة المركزية تعاني من نقص في الموارد، ولم يكن بوسعها أن تفعل سوى القليل للتخفيف من آثار هذه الكوارث. وما يزيد الطين بلة هو انتشار وباء واسع النطاق في جميع أنحاء الصين، ما أسفر عن مقتل عدد كبير، ولكن غير معروف من الناس.

يُشار إلى هذه المجاعات التي ضربت الصين في بدايات القرن التاسع عشر ومنتصفه، باسم المجاعات الأربع، ولا تتوفر معلومات حول هذه المجاعات، ويعتقد بعض المؤرخين أنها جميعاً تسببت في قتل ما لا يقل عن 45 مليون شخص. وقد حدثت بسبب قلة الأمطار وكثرة الفيضانات وتلف المحاصيل الزراعية.

في هذا العام حدثت مجاعة بسبب انتشار الجفاف والطاعون في شمال الصين، أدت إلى حركة تمرد اسمها “نيان” واندلاع انتفاضة مسلحة من 1851 إلى 1868، بالتزامن مع اندلاع حركة تمرد أخرى اسمها “تايبينغ” في جنوب الصين ضد عائلة تشينغ الحاكمة، وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 10 ملايين شخص فقدوا أرواحهم نتيجة للمجاعة والثورة.

تُعتبر هذه المجاعة التي ضربت الصين بسبب الجفاف الذي استمر لعامين، أكثر المجاعات فتكاً في تاريخ الصين الإمبراطوري الطويل الحافل بالمجاعات والكوارث، وقد سادت المجاعة في 5 مقاطعات في شمال الصين، حجمها مماثل لحجم فرنسا، ويُقدر عدد القتلى الذين لقوا حتفهم بسبب الجوع والأمراض المرتبطة بالمجاعة بحوالي 9-13 مليون شخص من إجمالي سكان المنطقة المتضررة، البالغ عددهم حوالي 108 ملايين نسمة، وبعد حوالي 10 سنوات أصيبت هذه المنطقة بمجاعة أخرى، ولكن لا أحد يعلم عدد الوفيات فيها.

حدثت المجاعة بسبب الجفاف الشديد الذي ضرب شمال الصين في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر، إضافة إلى ضعف الدولة التي لم تستطع تأمين الحبوب الغذائية للتصدي للجفاف والمجاعة بسبب كثرة حركات التمرد التي أدخلت الدولة في أزمة مالية، ضد حكم سلالة تشينغ، ومنها لتمرد تايبيينغ (1851-1864)، وتمرد نيان (1853-1868) وثورات المسلمين (1855-1873).

وقد شكلت النفقات العسكرية ما يقرب من ثلاثة أرباع إجمالي نفقات الحكومة، حيث دمرت حرب تايبينغ بعض أغنى مقاطعات وادي يانغتسي في الصين، وقطعت العاصمة عن ضريبة الأراضي وإيرادات احتكار الملح في 13 مقاطعة. 

في الوقت نفسه، عطل متمردو نيان الإدارة في أجزاء كبيرة من 4 مقاطعات شمالية، كما أن الثورات الإسلامية في الجنوب الغربي والشمال الغربي قد أخليت من سكان مناطق بأكملها، واعتمدت الحكومة في حروبها على تمويل جيشها بالحبوب، بغض النظر عن حاجة الشعب، بل رفعت سعرها وضرائبها، الأمر الذي تراكم، حتى نتج عن كل هذه العوامل مجاعة كبرى.

في هذا العام أصيب الشعب الصيني بمجاعة كبيرة اعتُبرت الأسوأ منذ 40 عاماً، ولكن هذه المرة بسبب غزارة الأمطار بشكل مستمر خلال موسم الزراعة، وبالتالي تلف محصول الموسم كله، ويُقدر عدد الوفيات بحوالي 25 مليون شخص. 

كانت الأمطار الغزيرة خلال موسم الزراعة وموت المحاصيل عام 1906، هي السبب في المجاعة الصينية في عام 1907 في شمال الصين في مقاطعات انهوى وهونان وكيانج سو، فقد غمرت هذه الأمطار المستمرة أكثر من 100 ألف كيلومتر مربع من الأراضي، وتقدر الإحصائيات أن حوالي 10% من سكان شمال جيانغسو وأجزاء من وسط الصين ربما لقوا حتفهم، وقدر عدد القتلى بأنه قد يصل إلى 25 مليون شخص، ما يجعلها ثاني أسوأ مجاعة في التاريخ المسجّل.

حدثت في هذه السنوات أكثر من مجاعة مع انتشار الجفاف على نطاق واسع في شمال غرب وشمال الصين، وتتراوح تقديرات الوفيات بين حوالي 3 ملايين إلى 10 ملايين شخص، وتُشير بعض التقارير إلى أن عدم كفاءة فرق الإغاثة الصينية فاقمت من عدد الوفيات.

فيما أصيبت البلاد بمجاعة أخرى عام 1937، ولم يتم الإعلان عن أسبابها ولا عن عدد الوفيات، ولكن تُشير بعض المصادر إلى أنه توفي حوالي 5 ملايين شخص خلالها.

حدثت تلك المجاعة في 1942-1943 بشكل رئيسي في مقاطعة خنان الصينية شرقي البلاد، في أثناء الحرب الصينية اليابانية الثانية 1937-1945، وقد حدثت بسبب عدة عوامل، أولها فيضان النهر الأصفر الموجود في المقاطعة، الذي أحدثته القوات الصينية بشكل متعمد لإيقاف الجيش الياباني، الأمر الذي أدى إلى تلف المحاصيل.

كما قامت القوات اليابانية بمحاصرة المنطقة ومنع الإمدادات عنها، فضلاً عن الجفاف وانعدام سقوط الأمطار، ما أدى إلى حدوث كارثة إنسانية وتوفي ما بين 2-3 ملايين شخص بسبب الجوع والأمراض.

تعتبر هذه المجاعة واحدةً من أشد الكوارث التي تسبب بها الإنسان على مر التاريخ، إذ يصل عدد القتلى الناجم عنها إلى عشرات الملايين، وقد حصلت هذه المجاعة الكبرى بسبب عدة عوامل، أولها التغييرات الجذرية في اللوائح الزراعية التي فرضتها الحكومة التي تحظر ملكية الأراضي للمزارعين، وفرض عقوبات وضرائب مشددة على المزارعين، بعد تولي ماو تسي تونغ -مؤسس جمهورية الصين الشعبية عام 1949- رئاسة البلاد.

 كما أدت الضغوطات الاجتماعية المفروضة على المواطنين فيما يتعلق بقطاعي الزراعة والأعمال التجارية، التي تسيطر عليها الحكومة المتسمة بسوء إدارتها الاقتصادية، إلى عدم استقرار الدولة، فضلاً عن الكوارث الطبيعية مثل الجفاف والفيضانات في المناطق الزراعية.

ومن أجل تحقيق الأمن الغذائي أطلق ماو قانون “الآفات الأربع”، الذي طالب فيه بضرورة القضاء على الفئران، والذباب، والبعوض، وطيور الدوري، بحجة أنها تقضي على المحاصيل الزراعية، وهذا ما تم، ولكن هذا الأمر أدى إلى حدوث كارثة بيئية وإحداث خلل في توازنها، بسبب هجوم الحشرات والجراد على المحاصيل وقضائه عليها، ليجد الشعب نفسه أمام مجاعة كبرى عام 1958.

وبعد انتشار المجاعة في جميع أرجاء الصين، توجه الشعب الجائع إلى أكل جميع الكائنات الحية، مثل الكلاب والقطط والخفافيش والحشرات والحيوانات النافقة، كما تم تسجيل حالات أكل لحم بشري، الأمر الذي سهل الطريق أمام الأوبئة التي فتكت بالناس.

أكدت التقارير الصينية نفسها موت حوالي 20 مليون إنسان في هذه المجاعة، إلا أن هناك تقارير دولية قالت إن العدد وصل لـ40 مليون شخص أو يزيد.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى