آخر الأخبارالأرشيف

الحــــــــــــرية

بقلم الأديب الكاتب

د. محمد سعيد آل تركي

أمة اقرأ لابد أن تقرأ

مقدمة

       يتفاخر الغرب والشرق في العالم بالديموقراطية، ويرفعون أعلامها ويمنون الناس بها وبعدالتها وصلاحها للأمم والمجتمعات، وقد جعلوها المطلب الأسمى الحريّ بالأمم والدول الفوز به وبنواله، والسعي لتغيير أنظمتهم إليها، لما في الديموقراطية من إطلاق لحريات الناس في عقائدهم وأحوالهم الشخصية وأموالهم وآرائهم وحرية تعبيرهم، وبالتالي حرية انتخابهم لمن يريدون، واختيارهم للنظام والتشريع الذي يريدون ويهوون.

فهل دعاوى الديموقراطية صحيحة؟ وهل أن إطلاق حرية البشر كما يصفون هو ما تحتاجه البشرية؟ وهل الحرية بالمفهوم الذي يحملونه تحقق السعادة للناس؟ وتنشر العدل بينهم وتحقق الأمن في العالم، وتقي العالم شر الحروب والفتن، وتنزع العداوة والبغضاء بين الأفراد والشعوب والأمم؟ وهل بالحرية تُبنى الشخصيات القويمة والأسر السعيدة والمجتمعات المترابطة؟ وهل بهذه الحرية التي جعلوها مطلبا سامياً سيُوأد الفقر والجوع والمرض والمجاعات في مهدها، وهل بها يعتدل مزاج الأرض وتُحمى البيئة ويحارب التلوث؟ فتصبح جنة لسكانها؟

  1. أهمية الحرية لحياة الإنسان
  2. اختلاف حياة الناس باختلاف تعريف الحرية بين المبادئ المختلفة
  3. كيف نشأت فكرة الحريات؟
  4. كيف تؤثر الحرية على حياة الناس والأمم، وعلى سعادتهم أو شقائهم؟
  5. أنواع الحريات في الرأسمالية
  6. الحرية في الإسلام

       حرية الإنسان من القضايا الأساسية لبناء شخصية الإنسان التي تعطيه الحق في إشباع غرائزه وحاجاته العضوية وهو عزيز مكرم، غير ذليل ولا مهان، وتعطيه الحق في حيازة المال وفي التصرف فيما يملك، وفي بناء علاقاته بنفسه وبالمحيط الذي حوله، وتعطيه الحق في رفض ما يضره ويضر المحيط الذي يعيش فيه، وتعطيه الحق في قول الحق والنهي عن الباطل وإنكار المنكر، وتعطيه الحق في محاسبة من يلي أمره، وتعطيه الحق في أن يكون سلطانه بيده، وتمنع أن يكون لأحد من البشر سيادة عليه، وتعطيه الحق في طلب العلم ونشر العلم، فيعيش عزيزا كريما، غير مهان ولا مقهور ولا مجبور، ولا مكره على ما يؤذيه ويضر مصالحه ويكسر عزته وفخره بنفسه.

الحرية مطلب كل إنسان، وهي عمود حياته، ومصدر سعادته ورضاه وطمأنينته، ولقد جاءت الرسالات السماوية منذ خلق سيدنا آدم تخدم حرية الإنسان، حتى الدول التي تقوم، يُقاس نجاحها عادة أو فشلها على مستوى تفسير الحرية التي تقدمها للناس وتعطيهم إياها، ومستوى ونجاح الأنظمة التي تفرضها عليهم.

لذلك تعددت الاجتهادات التي تناولت موضوع الحرية، وتنوعت وكثرت عندما بعدت عن فكرة الحرية التي يقدمها الدين السماوي، فالدين الذي أرسله الله للناس عن طريق الرسل كان مفاده أن يُعطى الناس حرية تامة ومنضبطة، وذلك بأن لا يكون للناس على أنفسهم أو على غيرهم سيادة، أي حكم أو أمر أو نهي، وتكون السيادة لله وحده من خلال الأوامر والنواهي التي يرسلها الله للناس، ويخضع لها البشر جميعاً فقيرهم وغنيهم، كبيرهم وصغيرهم، ضعيفهم وقويهم، رجالهم ونساؤهم، صاحب السلطان فيهم أو غيره، أي أن لا تكون السيادة لأحد من البشر على أحد، فلا يكون فيهم السيد الذي يأمر وينهى ويفرض أحكاما على الناس من رأيه وهواه، ويقرر أنظمة حياة البشر، وإنما السيادة تكون لله وحده، وهو الآمر الناهي والمقرر لحياة الناس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها من أنظمة الحكم والقضاء، خدمة للناس أجمعين، دون أن يكون أحد من البشر خاضعاً لأحد، ويكون سلطان الحاكم على الناس مقيّداً ومسيّراً بحكم الله وأمره وليس بأمر السلطان، أي في إطار الأحكام التي يقررها الله سبحانه وتعالى على الجميع، فلا يمس أحدٌ حرية أحد من البشر، بل يحافظ عليها ويحميها القانون والسلطان، فلا يعتدي بهذه الأحكام أصحاب القوة والسلطان على حرية الناس وحقوقهم، ولا يعتدي الأغنياء على ثروات البلاد أو الناس، فالقوي ضعيفا في الإسلام حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قويا حتى يؤخذ الحق له.

هذه فكرة الحرية كما بينها الله سبحانه وتعالى للناس في دينه، متمثلة في الدعوى بأن لا إله إلا الله، بصفة أن الإله هو الذي يُخضع الإنسان لسيادته أي حكمه، أيا كان هذا الإله، فتنفي دعوة الله للناس جميع الآلهة في الأرض ما عاداه سبحانه وتعالى، فكانت دعوى الإسلام هي تحرير العباد من عبادة العباد والأنظمة إلى عبادة رب العباد وحده، أي تحرير العباد من طاعة أحد من العباد أو الولاء له أو من اتباع الهوى إلى طاعة الله والولاء له وحده، وقد تمثلت هذه الدعوى أعظم تمثيل في دين الإسلام بصفته آخر الأديان السماوية التي نزلت، وتم المحافظة على مصادر هذا الدين من قرآن وسنة في أحسن صورة وأتم محافظة.

صورة الحرية التي أنزلها الله على عباده وأمر بها لم تعد موجودة في العالم الإسلامي اليوم، ولا في أي مكان في العالم، وأصبح الناس خاضعين لعبودية أشياء عديدة وأشخاص، أي أن الناس في العالم كله اليوم يرزحون تحت العبودية كما صورها لنا الإسلام، وحتى المسلمين اليوم سقطوا في العبودية، بعد أن كانوا هم أنفسهم حاملي ألوية تحرير الناس منها.

سبب ذلك السقوط أن الأنظمة التي حملها الإسلام للناس لتحريرهم من عبودية العباد والهوى والأشياء تم تعطيلها ومحاربتها والوقوف ضد عودتها، لأنها تخالف وتحارب السادة الجدد أصحاب الأنظمة المخالفة لفكرة التحرر من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، فأنظمة الإسلام التي خضع الناس بها لله وعبدوه بها وتحرروا بها من العبودية لغيرهم، تقف هذه الأنظمة دون مصالح الرأسماليين وتعطلها، وتُعطِل نهب ثروات البلدان والناس، وتعطل الاحتكار والظلم وأعمال الحرية والتحرر.

لذلك أمست الحرب في العالم اليوم بين فريقين، فريق يعمل على تحرير الناس من عبودية الأنظمة الرأسمالية والشيوعية والحكام الطغاة، وفريق يعمل على بقاء الناس تحت عبوديتهم وسيادتهم وحتى سلطانهم، وهؤلاء هم الرأسماليون والشيوعيون والديموقراطيون والحكام الطغاة وأمثالهم.

كيف نشأت فكرة إطلاق الحريات؟

عندما قامت الثورة الفرنسية في القرن السابع عشر الميلادي وقام الناس يطالبون بالتحرر من تسلط الكنيسة وسيادتها وسيادة أنظمتها على الناس، وكذلك التحرر من سيادة الملوك والقياصرة، كان لهم ذلك، ولكنهم وقفوا أمام معضلة السيادة لمن تكون، وأمام معضلة التوفيق بين الأنظمة وحرية الإنسان، فخلصوا إلى فكرة أن تكون السيادة للناس أنفسهم على أنفسهم، بعيداً عن فكر الدين وسيادة القياصرة والملوك، بحيث يضع الناس بأنفسهم لأنفسهم الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها التي يختارونها ويحبونها، فكان ما يُسمى بالحكم الديموقراطي أي حكم الشعب لأنفسهم، فأنشأوا بذلك المؤسسات التي تخدم هذه الفكرة كالنواب والبرلمانات والمجالس التشريعية التي تعين الحكام وتضع الأنظمة، وتقرر الأحكام والعلاقات بين الناس، وبحيث يقوم الناسُ أنفسُهم على وضع الأحكامِ أو من ينوب عنهم من النواب الذين ينتخبهم الناس للتشريع، واعتبروا وضع الأحكام بهذه الكيفية غاية الحرية ومنتهاها.

وبالرغم من هذه العملية الثورية وابتداع ما يسمى بالديموقراطية، أي أن يضع الناسُ الأحكامَ بأنفسهم لأنفسهم، عجز الناسُ وعجزت المجالس التشريعية وكل المفكرين أن يقرروا كثيرا من المسائل الأصولية الجذرية والأنظمة والعلاقات، من أهم هذه المسائل علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بخالقه وعلاقته بغيره من البشر والحيوان والبيئة، وقد عجزوا لأن هذه العلاقات وتلك في حاجة إلى تقريرها أولاً، أي تقرير العلاقات ذاتها، وتقريرها في حد ذاته معجز للبشر أجمعين، وبالفعل لم ينجحوا في تقريرها، ولو نجحوا في ذلك جدلاً، فإنها تفتقد إلى كيفية إلزام الناس بها واتباعها، ناهيك عن  محاسبتهم عليها، وذلك معجز أكثر من إعجاز تقريرها للناس.

تقرير هذه العلاقات للبشر أجمعين مُعجز في حد ذاته، لأنه لا بد له أن ينطلق من إقناع الناس جميعاً بها وبصحتها، فما يراه بعضهم صحيحا يراه آخرون خطأ، وما يراه بعضهم نافعاً يراه آخرون ضاراً، فأهواء الناس متفاوتة ومختلفة ومتناقضة، ومن المعجز جمع كل الناس على فكرة واحدة ونظام واحد، يرسم خطاً واحداً يُرضي الناس جميعاً، ويسعدهم في آن واحد، حين يُطبق عليهم ويخضعون له دون أن يمس حرية أحد منهم أو يمس حقوقه ومصالحه بسوء. إضافة إلى ذلك، وهذا هو موطن التحدي للمشرعين والمفكرين والعالم أجمع، فإن تنظيم هذه العلاقات تتطلب بطبيعتها تنفيذَها في السراء والضراء، والسر والعلن، وفي الشدة والرخاء، وحتى عند مخالفتها للمصالح الشخصية عند الأفراد والمؤسسات، بعيدا عن مراقبة الدولة والقانون، وهذا يستحيل على كل المبادئ العالمية.

وهناك أيضاً معضلة كبرى وهي معضلة الأخلاق الحميدة أو الأخلاق الذميمة، فهذه تستحيل على واضعي الأنظمة والمشرعين وعلى الناس الاتفاق عليها وتقريرها وجعلها من النظام الواجب اتباعه، فالصدق والأمانة والبر والرحمة والوفاء والشكر والنجدة والتضحية والإيثار والرأفة والحلم والأناة والإحسان وحماية إنسانية الآخرين، كل هذه الأخلاق الحميدة وغيرها كثير، تعجز كل أنظمة الدنيا والمجالس التشريعية أن تقررها للناس، وتعجز كذلك أن تلزمهم بها، وحتى تعجز النصح لها وتجعلها عرفاً يعيش به الناس، ويرتضونه في مختلف الأحوال والظروف، ففاقد الشيء لا يعطيه، ناهيك عن الأخلاق الذميمة التي يجب منع الناس من فعلها وجعلهم يقتنعون بعدم فعلها، كالكذب والخيانة والسرقة والغش والغيبة والنميمة والشتيمة والقول الفاحش وغيرها  كثير.

ومن هذا المنطلق قرر القادة الغربيون والشرقيون وواضعو الأنظمة والسياسيون والمفكرون، قرر هؤلاء جميعاً جعل كل هذه المسائل متروكة لحرية الإنسان واختياره، ليس كرماً منهم ولكن من منطلق عجزهم بتقرير غيرها، فالناس جميعهم ونوابهم ومشرعوهم ومفكروهم وفلاسفتهم وقضهم وقضيضهم عاجزون عن الإتيان بقوانين وتشريعات وأحكام وأفكار في العلاقات والأخلاق يخضع لها الناس جميعاً، وتضمن في آن واحد سعادتهم جميعاً، وتسير مع منظومة حريتهم وتحررهم من آلهة أهوائهم جميعاً، وبالتالي فما كان لهم إلا أن يقرروا التخلي عن هذه المسؤولية المعجزة، وسموا هذا التخلي عن المسؤولية في التشريع وقيادة الناس للخير، سموه الحرية، فقاموا بإعلان إطلاق فكرة الحريات التي تدغدغ الحواس والمشاعر للناس أجمعين، فقرروا الحرية للإنسان في أربع اتجاهات، وتم إطلاقها وتعريف الناس بها، وجعلوها من ضمن النظام والتشريع، وكذلك جعلوا عدم محاسبة الناس عليها وعلى ما يترتب عليها من أحوال وظروف وحياة وعادات وتقاليد وأعراف،  جعلوه أيضا من الشرع الرأسمالي، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك بأن جعلوا القانون نفسه يحمي هذه الحريات ويدافع عن أصحابها بقوة الجندي.

الحرية الشخصية:

على رأس هذه الحريات، كانت الحرية الشخصية التي تتناول سلوكيات الإنسان الفرد المتعلقة بمأكله وملبسه ومشربه وقضاء حاجاته ونظافته وطهارته، وتتناول علاقاته الاجتماعية داخل أسرته وخارجها، وجميع الأفعال المتعلقة بذاته والمنطلقة منها، وتتناول كيفية إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، وكذا تتناول نوع الأعمال التي يمارسها الفرد، وكيفية سعيه لطلب الرزق، والأخلاق التي يتصف ويتعامل بها.

وبالتالي فإن للإنسان الفرد أن يأكل ما يشاء دون قيود، وأن يشرب ما يشاء دون قيود، فله أن يشرب اللبن وله أن يشرب السم، وله أن يشرب عصير العنب وله أن يشرب الخمور، وله أن يشرب النجاسة كما يشرب الماء دون قيود، فهو حرٌ في ذلك كله، وللإنسان أن يأكل ما يشاء من أنواع اللحوم أو الحشرات أو الديدان أو الضواري أو الميتة أو حتى لحوم البشر أو النبات، ليس منها ما يحرمه أحد عليه أو يمنعه منه، وللإنسان أن يلبس بالكيفية التي يراها تعجبه دون الالتزام باتباع نظام محدد أو مقيد فيما يتعلق بالعورة أو ما شابهها، فله أن يبدي عورته أو يخفيها كيفما يشاء ولمن يشاء دون قيود أو شروط، وله في نظافته وطهارته أن يتنظف أو يتطهر بالكيفية التي يريد، إن أراد ذلك ومتى أراد ذلك.

أما عن علاقات الإنسان الاجتماعية، في إطار الحرية الشخصية، فذلك عجزت عن تقريره الأنظمة، ولم يستطع المشرعون أن يقرروا بشأنه شيئاً، فجعلوه متروكا لأهواء الناس، يمارسون في تلك العلاقات ما يريدون، وبالكيفية التي يريدون ويهوون، دون قيد أو شرط، ما عدا شرط أن لا يعلن أحدهم تضرره الجسدي أو النفسي من صاحب العلاقة، فيخضع هذا الأخير للمحاكمة، وتتم العقوبة على المتسبب في الضرر لتعديه على حرية غيره، وليس انطلاقا من مخالفة ما تم تبنيه من أحكام متعلقة بالحياة الاجتماعية، فليس هناك نظام علاقات تبنى النظام فيها شيئا.

أي أن حرية الآخرين شيء مقدس لا يجوز المساس به، ويحظر على أحد من الناس التعدي على حرية آخرين بصرامة القانون، فهناك ضمان لحرية الإنسان وحمايتها من التجاوز، على مبدأ أن حرية الإنسان تقف عند حرية الآخرين.

إن العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وبين المرأة والرجل، وبين الرجل وأبنائه وبناته وبين الأبناء والبنات بالرجل، والعلاقات بين المرأة وأبنائها وبناتها وعلاقات الأبناء والبنات بأمهم، وعلاقات الأبناء والبنات ببعضهم البعض بالتبادل بصفتهم الأخوية، وعلاقات أفراد هذه الأسرة المرأة والرجل والولد والبنت بالأسرة وعلاقاتهم مع الأعمام والأخوال والأجداد من طرفي الأم والأب، وعلاقة هؤلاء بهم وعلاقتهم بأحفادهم، وعلاقة جميع أفراد هذه الأسرة بالجيران والمجتمع، وعلاقة المجتمع بهم فرداً فرداً، وعلاقة هؤلاء جميعهم رجالا ونساء ببعضهم البعض بصفة أنهم محارم لغيرهم أو غير محارم لغيرهم، أو بصفة أنهم ذوي قربى أو ذوي رحم.

 كل هذه العلاقات المتشابكة التي ذكرناها لم تفتِ فيها الأنظمة الرأسمالية أو الشيوعية أو غيرهم في العالم بشيء، ولم يضعوا لها تعاريفا أو فقهاً أو تسمية ولا حتى أحكاماً، أي لم يقوموا بتنظيمها، وتُركت هذه العلاقات لحرية الناس يفعلون فيها ما يشاؤون ويفسرونها كما يشاؤون، ويتناولونها بالكيفية التي توافق هوى كل فرد فيهم، جاهلهم وعالمهم، سفيههم وعاقلهم، كبيرهم وصغيرهم، وكل فئات الناس وألوانهم.

أي أن أمر العلاقات الاجتماعية التي ذكرناها مفصلة ليس للأنظمة أي دور فيها، ولا تتدخل في شأنها ولا تُلزم بها أحداً، وهي متروكة للهوى وفي مهب الريح، أي أن كل رجل أو امرأة أو عائلة أو أسرة أو مجتمع يفعل ما يريد بالكيفية التي يريد، وبالكيفية التي توافق ميول كل شخص فيهم وتوافق أهواءه ومصالحه، بغض النظر عن صلاح هذا أو فساد ذاك، أو صلاح هذه الكيفية أو فسادها، وهذا ما فتح الباب للتعاملات المتناقضة والمتغايرة والمتفاوتة لتلك العلاقات الكثيرة والمتشابكة، فتحه على مصراعيه داخل الأسرة وخارجها، وفي كافة المجتمع، استناداً إلى الأهواء والميول والمصالح المادية، وأدى إلى إنكار أو تجاهل كلّي لشيء اسمه ذوي القربى أو ذوي الرحم، وبالنتيجة إنكار صلة هؤلاء وقيمة تلك الصلة أو ضرورة وجودها.

آلى ذلك بديهياً إلى تكوّن المجتمع الرأسمالي الذي يتصف بصفات تميّزه عن غيره، بأنه مجتمع يعيش الفرد فيه وحيداً معزولاً، لا تربطه بغيره في المجتمع أي روابط فكرية أو شعورية أو نظامية، وآلى ذلك بديهياً إلى غياب الكيانات الأسرية والروابط الاجتماعية وإلى تفرق الناس، ثم إلى تصادمات بين الرجال والنساء والأبناء والبنات داخل الأسر إن وجدت وخارجها، وإلى فتح أبواب الأخلاق والصفات السيئة كالغيرة والحسد والتنافس والبغضاء والتشاجر والتشاحن، فتكون الضحية بالتالي كل فرد في المجتمع، الذي إذا اشتكى أو ضاقت به الدنيا او احتاج فليس هناك من يسمعه أو من هو مكلف بسماع شكواه أو الوقوف على حاجته أو عجزه.

بالتالي لا نملك إلا القول بتفكك المجتمع الرأسمالي السائد اليوم بامتياز، ولا تنطبق عليه بحال من الأحوال صفات المجتمع المترابط الموحد، ولا المجتمع المتزن القويم السعيد، لا بأفراده ولا بأسره ولا بمجموعه، وليس ذلك بخاف على الجميع اليوم، وليست البغضاء والكراهية والخوف والتشتت والأعمال الاجرامية الاجتماعية التي تعيشها المجتمعات الشرقية والغربية الرائدة لفكرة الحرية الشخصية بخافية على أحد، حتى ولو أرادوا تكذيب أنفسهم وتلميعها ببعض الأفلام والمسلسلات.

أما عن إشباع الغرائز والحاجات العضوية، فقد تركت كيفية إشباعها للناس، بما يسير مع منظومة الحرية الشخصية، ليقرروا بأنفسهم لأنفسهم الكيفية التي تعجبهم في إشباعها، فالإنسان بما يملك من غريزة النوع وميوله الجنسية وهواه للتكاثر وإنجاب الأبناء، لم تقرر الأنظمة الغربية أو الشرقية له نظاما يبيّن كيفية إشباع هذه الغريزة، ولا كيفية التعامل مع هذه الحاجة الغريزية المتمثلة في الميل الجنسي، إلا أن تترك للإنسان ذكراً  كان أو أنثى التعامل مع هذه المسائل بحرية تامة، فللرجل أو المرأة الالتقاء الجنسي مع أي من كان وبأي كيفية كانت دون قيد أو شرط، محارم كانوا أم غير محارم، مُحصنين كانوا أم مسافحين، بعقد قران أو سفاحا، يتناكحون في وقت الحيض أو في غير وقته، من موضع القُبُل أو الدُّبر، بالغسل والطهر أو بدونه، بعوض من المال أو بدون عوض، التقاء جنسي مأجور أو تمتّع غير مأجور، وللرجال الحق في فعل الفاحشة مع بعضهم البعض وللنساء حرية السحاق، ليس هناك شيء يمنع أو يقيد أو يُشترط في إشباع هذه الغريزة.

ولنتصور ماهية النتائج والثمار التي يحصدها الرجال والنساء والأطفال وأفراد المجتمع كافة من خلال هذه الحرية وبهذه الكيفية، ولنتصور صفة التركيبة الاجتماعية بعد هذه الحرية الشخصية المتعلقة بالعلاقات الجنسية. ولنتصور واقع المرأة كأنثى وأم ومربية لأطفال في هذا الكيان الخالي من الضوابط والتنظيم والقيم، ولنتصور واقع الإنجاب والأطفال وبناءهم العقلي والنفسي، ولنتصور هوية الأجيال الناشئة وهوية التربية التي يظفرون بها.

المرأة، هذا المخلوق العظيم يتعرض بهذه الكيفية التي ذكرنا إلى أقبح المعالجات وأشنع المعاملات، فهي الحلقة الأضعف، وهي بهذه الكيفية تُهان كرامتها وتتدنى قيمتها الاجتماعية والنهضوية وعزتها، حيث أصبحت هي وأنوثتها وجمالها سلعة تباع وتشترى لإشباع شهوة الرجل الجنسية، وهذا معلوم للجميع. ولقد تم بهذه الكيفية التأثير على كيان المرأة العقلي والنفسي والشعوري فباتت أجمل الصفات التي تخص المرأة منكرة، كصفة الحياء والخجل والتعفف والتمنع ورقة السلوك، وأصبح سلوكها لا يختلف كثيرا عن سلوك الرجل وجرأة طبعه، فقد وصلتها القناعة من خلال الحرية الشخصية أنها كالرجل لا تختلف عنه، وبدأت بالتالي الفواصل السلوكية بين الرجل والمرأة وفي تعاملاتهما تختفي، حتى أصبح الرجل يتحدث مع أي امرأة وتتحدث هي معه حديث الرجال، ويتعاملان بكيفية ليس لأنثويّتها فيها أيُّ اعتبار، وتكونت قناعاتٍ للمرأة أنها كالرجل سواء بسواء، وأنه من غير الضروري أن تكون أمّاً لأبناء، ومن غير الضروري أن تنجب الأطفال وتلتزم بإرضاعهم وتربيتهم والعناية بهم في بيتها، وإنه من غير الضروري إن أرادت الحصول على طفل أن تكون لها أسرة، وهذا ما حصل حقيقة.

أما فيما يتعلق بالتكاليف والأحكام والعلاقات بين الرجل والمرأة بحكم اختلاف جنسيهما، فليس بينهما على أساس اختلاف جنسيهما أنظمة تحكمهما أو أحكام أو تكاليف أو مسؤوليات، وليس هناك أحكام تنظم العلاقة بينهما كزوجين أو غير زوجين إلا من نافذة الحرية الشخصية.

ومن هنا ذهب الفلاسفة والمنظرون إلى أكثر من ذلك خارج منظومة فطرة المرأة وفطرة الرجل، وخرجوا بفلسفات تقول بأن المرأة مجرد مخلوق لا يفصله عن الرجل إلا صفة الأعضاء التناسلية، والخروج بفكرة المساواة بين الرجل والمرأة، وفكرة عدم ضرورة بناء الأسرة بالنتيجة، وأنه لا يربط بين الرجل والمرأة أكثر من الحب والعلاقات الجنسية غير المُلزمة بتكاليف أو واجبات، وآراء طائلة وكثيرة لا قيمة لها ولا منفعة، ولا تصب في أفكار بناء الأسرة والمجتمع.

أي بهذه الحريات تجاهل المنظرون والمشرعون تباعاً واُجبروا على تجاهل فكرة وحدة الفكر في المجتمع، أو وحدة المجتمع أو الترابط الاجتماعي أو الأسرة المتماسكة وما شابه هذه الأفكار، وتم النظر إلى الإنسان في المجتمع بصفته الفردية فقط، ضاربين بعرض الحائط كل ما يترتب على ذلك من تشتت عائلي أو تفرق اجتماعي أو أمراض نفسية ومشاكل اجتماعية للأطفال والشيوخ والنساء والعاجزين وغيرهم.

في إطار الحرية الشخصية لم يعد هناك مجال للحديث عن الأخلاق الحميدة أو الذميمة، بكيفية ملزمة أو غير ملزمة، ولا حتى الحديث عن تعريف مفرداتها، وتعريف مفهوم كل خلق منها، ففي إطار الحرية الشخصية تختلف المفاهيم عن كل صفة خُلُقية وتتفاوت من شخص لآخر كما ذكرنا، ومن فيلسوف لآخر ومن حين لآخر.

هذا فيما يتعلق بالحرية الشخصية التي أطلق لها العنان المشرعون الذي رفضوا فكرة التشريع الإلهي في الإسلام، أو في غيره “إن وُجد”.

حرية العقيدة:

أما فكرة أن الكون والإنسان والحياة مخلوقة أو غير مخلوقة لخالق، أو أن هناك خالقاً لهم، فقد توقفوا عند هذا الأمر، توقفوا عنده وهم في الأصل رافضون لفكرة الخلق ومنكرون لوجود خالق للكون، ولكن بصفتهم مشرعين وواضعي أنظمة للناس رأوا عدم الخوض في هذه الحقيقة لا بالإثبات ولا بالنفي، حتى ولو كانت فكرة الخلق من غرائز الإنسان وفطرته، فجعلوا العقيدة منوطة بحرية الإنسان وإرادته، إن أراد أن يؤمن بأي شيء أو أراد أن يكفر بأي شيء فلا حسيب عليه ولا رقيب، بل تؤيد الدولة قراره، ولن يضره في قراره ذلك أحدٌ، لذا أطلقوا للناس ما يسمى حرية العقيدة.

حرية العقيدة تحمل في مضمونها عدة أفكار أو مفاهيم، على رأسها رفض فكرة الالتزام بعقيدة محددة “إلهية أو أرضية” تقرر نظاما أو تشريعاً أو صورة من صور الحياة، فذلك محظور، فالإيمان بوجود الله أو عدم وجوده، والرغبة في اتباعه أو عدم اتباعه لا تلتزم به الدولة، ولا تُلزم به أحدا من البشر، وتجعله متروكاً لقرار الفرد.

الدول الرأسمالية الشرقية والغربية ترفض فكرة أن الكون والإنسان والحياة مخلوقة لخالق، وتتبنى فكرة الإهمال التام لهذه المسألة، وتعتبر الدين في نظامها وتشريعها وفكرها أفيون الشعوب، أي من المخدرات التي تخدر الشعوب ولا تنفعهم بشيء، ولذلك فصلت الدين عن الحياة، وعزلته عن التشريعات الدنيوية عزلاً تاماً، بل إن الشيوعية ذهبت لأكثر من هذا فقامت بمحاربة الأديان وفكرة خلق الكون والإنسان والحياة وأنها مخلوقة لخالق، وعلى العموم فقد وظف كلا الفريقين من الرأسماليين والشيوعيين جميع المفكرين والفلاسفة الفلسفاتِ الفكرية التي تعمل بجد واجتهاد وتقول بفكرة أن الكون كان خالقاً لنفسه “استنادا إلى نظرية التطور المادي”، حيث قد اعتمد الكون في خلقه ونشأته على نفسه، وفي تطوره على سلسلة من الصدف المتتابعة والمتكررة، دون تفسير لمصدر مادة هذا الكون أصلاً، ودون الاشتغال بكثير من الأفكار المبهمة وغير المعقولة وغير المقنعة، وغير المنضبطة بضابط العقل والحقائق والبديهيات.

أنكرَت هذه الأفكار بالطبع “الاستدلال العقلي”، كما أنكرت فطرة الإنسان التي تقول أو تشعر بوجود الخالق ولم تضعها في الميزان، ولم تجعل لها نصيباً في تقرير سلوك الفرد والمجتمع والأمة.

هذا من ناحية فكرية، أما من ناحية ميول الإنسان الفطرية إلى التعبد والصلاة والصيام والحج والزكاة، فلم ير المشرعون بُداً من الاعتراف بها وترْكها للناس وإعطائهم الحق بممارستها، والاعتراف بهذا الحق والإقرار به، طالما أن هذه الشعائر ليس لها مطالب في الحكم أو التأثير على التشريع الرأسمالي في الحياة العامة او الخاصة، ولذلك فقد أقروا من خلال فكرة حرية العقيدة وجود المساجد والكنائس والدير وغيرها وسمحت ببنائها، وكما ذكرنا دون أن يكون لها أي دور في شرع الدولة أو التدخل في شؤون التشريع في الدول، أو التدخل في شؤون الناس وتصرفاتهم، فسلطان المسجد والكنيسة محصور داخل جدرانها فقط.

النشاطات الفكرية والفلسفات في الدول تعمل بجد وبقوة من خلال المدارس والجامعات ومن خلال جميع المؤسسات ضد فكرة خلق الكون والإنسان والحياة، بجديّة تصل إلى درجة السخرية منها، والاستخفاف بمن يتبع فكرة الإيمان بوجود خالق، ولذلك نشأ الأطفال وترعرع الكبار على فكر يعتمد على عدم الإيمان بوجود الله، وهذا ما جعل الناس في حيرة من أمرهم، فهذه الافكار تخالف فطرتهم وغريزة التدين عندهم، وتُسبب لهم جميعاً، كبارهم وصغارهم، كثيراً من الاضطراب النفسي والشعوري، ومن هنا في ظل حرية العقيدة يبدأ هذا الاضطراب عند كل فرد من البشر خضع للنظام الرأسمالي.

 حرية العقيدة فرضت على الأفراد والمجتمعات واقعا يجعل وجود أي عقيدة وعدمها واحداً، فالخيارات المتعددة المتناقضة والمتباينة والمتفاوتة لتبني عقيدة لا تصنع وحدة فكرية وتراضياً بين الناس، ولا تصنع أفكاراً تنطلق منها أعمال أو آراء أو أنظمة فردية أو اجتماعية، وتنتفي بحرية العقيدة فكرة صناعة أعراف وعادات وتقاليد بين الناس في المجتمع الواحد، كما تنتفي بها فكرة اتصاف الفرد الغربي أو الشرقي بهوية معينة، وينتفي معها بالنتيجة وجود مرجعية فكرية أو سلوكية للأفراد والمجتمعات.

من الطبيعي فإن هذا  كله يسبب درجة خطيرة من الضياع، والتشتت والاختلاف والتفرق والانعزال في المجتمع الواحد، وبين الأمم وبين الأفراد، وبالنتيجة فإن اختلاف الفكر والعقيدة واختلاف الأهواء والآراء والأفكار، واختلاف طريقة العيش ثمرته الحتمية انعدام الأمان والطمأنينة بين بني الإنسان، وزيادة خوف الناس وحذرهم من بعضهم البعض، وانعدام الثقة بينهم، ومآله إلى كراهية وعداوة وبغضاء، يحصل ذلك بين مختلف الشعوب والأمم وفي المجتمع الواحد، وداخل المنزل الواحد والأسرة الواحدة، والمؤسسة الواحدة.

حرية العقيدة، أيُّ عقيدة، دينية كانت أو دنيوية، فلسفية أو خيالية، تقرر للإنسان الذي اختارها أفكاراً ومفاهيم معينة عن الحياة وعن الأشياء في الحياة، كالموت، والسعادة والشقاء، والخير والشر، والأخلاق، والعلاقات بكافة اتجاهاتها، فإن كانت عقيدة خير نشأت عنها أفكارٌ ومفاهيمٌ خيرية، وإن كانت عقيدة شر قررت بالتالي أفكاراً ومفاهيم شريرة، وهذه الأفكار والمفاهيم تصنع للإنسان بدورها مقاييس محددة للأعمال، أي أن الإنسان سيكون مرتهنا بخياره العقدي في نهاية المطاف، لكن الإنسان بتفرده بخياره دون الآخرين والآخرين كذلك، سيجعلهم جميعا غير منتمين لعقيدة محددة أو لأمر ما محدد في الحياة، وهذا واقع يؤدي حتما للاختلاف والتفرق والتضارب والتيهان.

أما إذا اتفق الناس بحسب ما تسوقهم إليه عادة الغرائزُ والحاجات العضوية، فإنهم سيصلون إلى وحدة عقدية تحاكي مصالح كل فرد منهم على حدة، وستكون تلك بالتأكيد العقيدة المصلحية النفعية، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من خيار، وهذا ما بات عليه الناس أجمعون، حيث أصبحوا يعيشون لا يفكر أحد منهم إلا في نفسه، ويندفع هو وغيره إلى التسابق على الأموال والشهوات على المستوى الفردي وحتى على المستوى الدولي، مهما كلفهم ذلك الأمر من أنانية وصراعات واقتتال.                                

إن اختيار الإنسان لعقيدة لا تربطه بالله يشعره بالوحدة والضياع في هذا العالم الفسيح، وخاصة أن الإنسان يحمل بين أضلعه الشعور بالحاجة إلى الله الذي يحميه ويشعره بالأمان والطمأنينة بوجوده، وخاصة في ظل الأزمات الصحية والنفسية، وعند الكوارث الطبيعية أو المصائب التي تمر على البشر.

حرية العقيدة لا تتحدث ولا تعترف ولا تدعو لوجود القيم وتبادلها بين الناس ولا تلزمهم بها، لا في السراء ولا في الضراء، ولا في السر ولا في العلن، فكل إنسان بهذه الدعوى مكلف بنفسه فقط، عند الأغنياء وكذا عند الفقراء والمعدمين، وهذا أمر مؤلم للإنسان ومضرٌ لحياته ويشقيه، ومفكك لعرى العلاقات بين الناس والمجتمعات وتماسكهم وتبادل الخير بينهم.

مع حرية العقيدة ينتفى التمتع بالنظام الإلهي، فهو ملغي أساسا في ظل الأنظمة الرأسمالية، حتى لو أراد الإنسان أن يتبع النظام الإلهي أو يطالب به أو يدعو إليه، فليس له الحق في ذلك، وليس هنالك اعتراف به، وليس للإنسان ولا للشعوب أن تختاره، فأمر الدين مرفوض ومحظور أساساً في منظومة الحكم الديموقراطي الرأسمالي أو الشيوعي.

حرية التملك:

بقي جانب مهم وربما يكون الأهم في الأنظمة الرأسمالية، وهي المسائل المتعلقة بالمال والمسائل الاقتصادية، فالمسائل المتعلقة بالمال من ناحية كسبه ومن ناحية حيازته ومن ناحية صرفه، فقد أطلقت هذه الأنظمة للإنسان حرية كيفية الحصول على المال وكيفية كسبه ومصادر كسبه، وحرية حيازته وحرية صرفه، بدون ضوابط أو قيود، تحت ما يسمى بحرية التملك.

حرية التملك هي التي أعطت النظام الرأسمالي اسمه، فالمال والسعي الحميم له والمنافسة عليه والاقتتال المشروع من أجله هو عصب النظام الرأسمالي، وقد انطلقت هذه الفكرة وهذا الموقف من حقيقة أن النظام الرأسمالي ألغى الملكية العامة وملكية الدولة، وجعل الملكية الفردية هي الأصل في التملك، وهذا يعني أن الإنسان يستطيع أن يمتلك من الأموال العامة كالأرض وثروات الأرض ما يشاء، ويمتلك من الخدمات العامة كالصحة والتعليم وخدمات الماء والكهرباء ما يشاء دون الناس أجمعين، وليس لأحد من عامة الناس الحق بمطالبة الدولة للحصول على شيء من  الخدمات العامة أو المشاركة فيها بدون مقابل، وليس أمامه إلا أن يدفع مقابلاً لها للحصول عليها، وإلا لن يحصل عليها، وليس هناك من يوفر له ما عجز عن الحصول عليه منها، حتى ولو كان من الحاجات الأساسية لحياة الإنسان، مما في حاجة إلى إشباع حتمي كالأكل والشرب.

إذن فإن الإنسان في إطار الحرية الملكية خاضع لمن يملك المال، ومن يملك المال يمتلك الثروات والخدمات، ومن يمتلك الثروات والخدمات هم أصحاب رؤوس الأموال وهم  أصحاب الهيمنة والسلطان، وهم أصحاب القرار، وهم أصحاب الأعمال، فهم بالتالي الإقطاعيون الجدد.

أما من لا يملك المال، طفلاً كان أم شيخاً، رجلاً كان أم امرأة، عاجزاً كان أم قادراً، فليس هناك من يتولى أمره أو من هو مسؤول عنه، لا الدولة ولا أحد من الناس، وذلك كما هو في النظام وحسب الحرية الملكية، فكل إنسان بحسب القوانين والتشريعات مكلف بنفسه فقط، والدولة غير مكلفة برعاية من ليس لديه مال، أو من هو عاجز عن كسب المال، أو لم تسعفه الظروف لأن يجمع من المال ما يكفيه ويغنيه، وهذا بالتأكيد فيه غاية الشقاء والبؤس للإنسان جسديا ونفسيا وعقليا.

إن الإنسان في الحياة الرأسمالية يعيش وحيداً بعقيدة مبهمة، وغيرُ ملزمة له أو لغيره بشيء، ولا ترسم له موقفاً في الحياة، فما بالنا عندما تصبح أو تكون العقيدة النفعية هي السيد في كل شيء، وفي كل تعامل وتفكير وموقف، وهذا بؤس وشقاء في حد ذاته للإنسان.

والإنسان يعيش تحت مظلة الحرية الشخصية بالعقيدة النفعية التي تعطيه الحق له ولغيره أن يعيش كما يريد، ويبني علاقاته بالكيفية التي يريد، علاقاتٍ ليس لإنسانيته أو للقيم فيها مساحة أو اعتبار، وليس فيها التزامات أو وضوح أو نظام، وهذا أمر إضافي يزيد في شقاء الإنسان وبؤسه، ويزيد في شقاء المجتمع بأكمله، ويصنع أشخاصا ومؤسسات ودولاً شريرة، جديرة بأن تقود حروبا ودماراً وتقتيلاً كما فعلت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكما تفعل وهي تقود حروباً متفرقة اليوم في العالم أجمع، تفوق الحربين العالميتين في القرن الميلادي الماضي.

وتزيد الحريةُ الملكية شقاءَ الإنسان، وقد ازداد حقا، حيث أزاحت المال والقوة والسلطان كله غلى عرين أصحاب رؤوس الأموال ولمؤسساتهم واحتكاراتهم، فظهرت البنوك بالنتيجة، واستولوا على أموال الناس، وأصبحوا هم المتصرفون فيها، وأصبحوا هم الذين يديرون عجلة الاستثمارات والمشاريع في المجتمعات، فكان الضحية هم الأفراد والشعوب في الداخل والخارج.

الحرية الملكية خلقت الهيمنة الاقتصادية لصالح المؤسسات عابرة القارات وللدول المستبدة، التي يسودها السياسيون العالميون، الذين هم أنفسهم أصحاب رؤوس الأموال في البلاد الواحدة، فانزاح السلام والأمن والاستقرار عن بلدان العالم لصالح أو في اتجاه البلدان الأخرى القوية، التي قامت دولها “الرأسمالية” باحتلال بلدان العالم الأضعف، وقامت بنهب ثرواتها وقتل وتشريد شعوبها، وإثارة النزاعات السياسية والثورات والحروب الأهلية الطاحنة داخلها.

إذن فمنظومة الحريات الشخصية والملكية والعقدية، منظومة قاتلة للقيم الإنسانية والأخلاقية والروحية ومدمرة لها، وللناس وعلاقاتهم، ولا تنفع لأن يعيش بها الناس، فالإنسان قد خُلق بفطرة محبةٍ للخير والأمن والسلام، كارهةٍ للشر والخوف والحرب. هذه الفطرة لا يخدمها إطلاق الحريات للبشر أجمعين، صغيرهم وكبيرهم، مصلحهم ومفسدهم، أبيضهم وأسودهم، نساؤهم ورجالهم، ولا يخدم إطلاقها حسنَ علاقات كل هؤلاء وغيرهم ببعضهم، ولا تخدم بناء مجتمعات موحدة متماسكة لها عادات وتقاليد وأعراف موحدة، ولا تخدم الدعوة إلى الخير والبراءة من الشر. بل هي بطبيعتها التي تحدثنا عنها تخدم الشر بعينه، بكل أشكاله وألوانه وتعدد مشاربه.

حرية الرأي:

لقد ارتبط لزاماً بهذه المنظومة الاعتراف والإقرار بإطلاق حرية الرأي للناس أجمعين، فللإنسان الحق في قول ما يريد، خيراً كان أم شراً، والدعوة إلى ما يريد، خيراً كان أم شراً، وإبداء الرأي في كل ما يشاهد ويسمع، والموافقة على ما يرى ويسمع أو إنكاره كيفما يشاء، وله الحق والمطالبة بأي أمر يريد، خيراً كان أم شراً، لا يُحاسَب ولا يُؤاخَذ بشيء من هذا أو ذاك، فليست هناك أصلاً مقاييس أو مفاهيم ثابتة عن الخير أو الشر، فللإنسان أن يعيّن الخير والشر كما يهوى وبالكيفية التي يقدرها بنفسه.

حرية الرأي وهي مصحوبة بحرية العقيدة تفتح للإنسان كمّاً هائلا من الأفكار والآراء المختلفة والمتناقضة والمتباينة، يستحيل معها أن يهتدي الإنسان إلى منهج صائب يسعده، ويمنعه من انتهاج سلوك معين واتباع رأي معين، أو قول رأي صائب، فيظل الناس يشككون في كل فكرة يسمعونها وفي كل رأي يُقال.

بحرية الرأي تُعطى الأبواق للعالِم والجاهل والحصيف والسفيه على حد سواء، فيأخذ السفهاء والجاهلون يزاحمون آراء العلماء والفقهاء والحكماء ويروجون لأفكارهم هم ولآرائهم، ويتحدثون ويتشدقون بما يريدون، فتضيع الحجة القوية والآراء الحكيمة والأفكار النيرة، وتزداد غلبة الرجل على غيره كلما ازدادت قدرته على امتلاك الوسائل والأساليب الابداعية الإعلامية، وكلما امتلك القدرة والوقت والإجادة في استخدامها، فلا تكون الغلبة بالتالي لصاحب الحجة القوية أو الأفكار المستنيرة، بل لمن يملك الوسائل الإعلامية.

حرية العقيدة والحرية الشخصية والحرية الملكية وحرية الرأي، كل هذه الحريات وما يترتب عليها من أقوال وأفعال وأحوال اجتماعية وسياسية، أعطاها النظام الرأسمالي للناس وأطلقها لهم، وجعلهم هم المكلفين بها والمستثمرين لها والجانين ثمرتها الخبيثة، فكان الذي ذكرنا من اختلال أركان المجتمعات وتفككها وتفكك علاقات الناس أجمعين، واعتلال أحوالهم وبؤسهم وشقاؤهم.

الإسلام والحريات:

من الجدير معرفة موقف الإسلام من هذه الحريات التي أطلقتها الأنظمة الرأسمالية للشعوب، ويجدر إجابة السؤال القائل هل في الإسلام حريات كهذه؟

كما ذكرنا فإن الحرية في الإسلام هي خلاف العبودية لغير الله، وتعني التحرر من أي أنظمة دنيوية ومن أي حكم أو أمر أو نهي من عند غير الله، فليس لأحد من البشر أو أي حاكم أو دولة الأمر والنهي بغير ما أنزله الله على عباده، فالحرية هي العبودية بعينها لله وحده دون سواه، وإذا ما أعطى أحدهم الطاعة والولاء لأي حكم من عند غير الله فقد وقع في العبودية لما أعطى ولاءه له وأأتمر بأمره وأنتهى بنهيه، ولم يصبح بالتالي حراً.

وبالتالي فإن حرية الرأي في الإسلام منضبطة بالضابط الشرعي والأحكام الشرعية، وليس هناك رأي ليس له دليل شرعي من الكتاب أو السنة، فمن الرأي في الإسلام ما هو مُلزم لصاحبه قوله، كقول الحق والشهادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكار المنكر، والإنكار على الحاكم، ومن الرأي ما هو محرم على الإنسان قوله، كقول الباطل أو قول فيه شر أو دعوة إلى شر، أو ما فيه غيبة أو نميمة أو تحريض على باطل، ومن الرأي ما هو مندوب قوله كالنصيحة، ومن الرأي ما هو مكروه قوله كالتنابز بالألقاب ومدح النفس وتزكيتها، ومن الرأي ما هو مباح قوله على الإطلاق وذلك في كل ما يتعلق بالحياة العامة وبالعلوم الطبيعية والبحوث والأعمال المتعلقة بكافة فنون الصناعة والزراعة والتقنية والتجارة، فكل هذه ليست لها علاقة بعقيدة ولا بكيفية عيش محددة، أو بوجهة نظر عن الحياة والخلق.

ليس في اﻹسلام حرية عقيدة، وخيار الإنسان ليدخل في الإسلام شأن يخصه وحده، فإن دخل غير المسلم في الإسلام فله ما للمسلمين من خير وسعادة وطمأنينة، ويصبح أحد أفراد الرعية في الدولة الإسلامية، أما إن لم يختار الإنسان الدخول في الإسلام فهذا شأنه، وعليه ما على غير المسلمين من تكاليف في الدولة وعليه عقاب الآخرة، ولكن هذا لا يعني أن الإسلام يرتضي حرية العقيدة، فهي ليست من فكره ونظامه. ولذا فإن لم يدخل أحدهم في الإسلام، فهذا من شأنه ومن حرية اختياره خارج منظومة الإسلام.

الإسلام ونظام الإسلام وحياة المسلمين وعلاقاتهم وأفكارهم ومشاعرهم كلها مجتمعة تقوم على وحدة العقيدة بينهم، وعلى وحدة أفكارهم ومشاعرهم وأنظمتهم وعلاقاتهم. على رأس هذه الأمور والضابط لها دولة الإسلام العظمى بعقيدتها ونظامها. أما إن اختار أحدهم عقيدة غير عقيدة الإسلام فذلك قرار فردي، لن يؤثر شيئا في كيان الدولة والبنية الصحية للمجتمع والعلاقات بين الناس، ولن يؤثر في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، بل سيتفرد الخارج من هذه المنظومة بالشقاء دون باقي الناس والمجتمع السعيد.

وكما ذكرنا فإن أفعال الإنسان كلها مقيدة بالحكم الشرعي الذي قرره الله سبحانه وتعالى، وليس سيدنا محمد ولا أحد من البشر، فوَلاءُ الناس كلهم لله وحده وللحكم الشرعي الذي فرضه الله عليهم، يؤدونه بكيفية حددها الله لهم جميعاً، دون تفريق بين أحد منهم ولا تمييز ولا تقديم، ويؤدونه ليس إرضاء لأنفسهم، وإنما يقومون به جميعا تعبداً لكسب رضوان الله، بوجود رقيب عليهم أو بعدم وجود رقيب، والنتيجة والمحصلة هي توحد أفكارهم ومشاعرهم، وتوحد علاقاتهم بالتالي جميعا، في سائر الأحوال والظروف والأوقات، وتوحد عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم.

إن الحديث عن الحرية الشخصية كما في الأنظمة الرأسمالية أو الشيوعية ليس لها واقع ولا مكان في الإسلام ولا تسمح به، وهذا ما يصون المجتمع، ويصون أفراده شيوخا وأطفالا ونساء ورجالا من الفساد والتفرق والتشتت والضياع، ويحميهم من الضلال. فالالتزام بقواعد الطهارة والنظافة، والمأكل والمشرب والملبس، والالتزام بالعلاقات مع الأبناء والبنات والزوجة والأسرة والأقارب والأرحام وغيرهم بكيفية نظام الإسلام، والالتزام من ناحية شخصية بالعورات، والالتزام بالأخلاق الإسلامية، كل ذلك واجب اتباعه والالتزام به، ويخضع الناس جميعا لأحكامه، ويُحاسب عليها الإنسان في الدنيا والآخرة، وليست للحرية الشخصية المفسدة لهذه المنظومة أي مكان فيها.

وكذا الحال عندما نتحدث عن حرية التملك في الإسلام، فكل المسائل المالية والعلاقات فإن الشارع (الله سبحانه وتعالى) هو الذي يقررها على الناس جميعاً سواء بسواء، فليس هناك حرية تملك، وإنما هناك إباحة كسب الأموال وحيازتها بإذن من الله سبحانه وتعالى، فكيفية حيازة المال وكيفية التصرف بها وكيفية توزيع الإرث وغير ذلك كثير مقررة ومنظمة من الله سبحانه وتعالى، يلتزم بها الناس جميعاً، فهناك الملكية العامة التي ينتفع منها الناس جميعا بدون مقابل كالأراضي والمياه والمراعي وكالبترول والغاز وغيره، يُمكّن منها الناس جميعا، ولا يستأثر أحدهم بامتلاكها، وكذا الخدمات العامة كالمواصلات العامة والعلاج الطب والتعليم، كل ذلك ملك للناس أجمعين تقوم الدولة بتنظيمه، وهذا وغيره من الأحكام الاقتصادية الإلهية في الإسلام تمنع انحياز المال للأقوياء وأصحاب رؤوس الأموال دون الناس، وتمنع من حرمان العاجزين والمحتاجين والفقراء والمساكين منها،للقوللأقوياكسب  وتمنع الاحتكارات، واستئثار الأغنياء وأصحاب السلطان بالأموال دون الناس، وبها يُحارب الفقر والظلم والهيمنة والاقتتال على الأموال، وبها يُمنع ظلمٌ وفسادٌ كبير.

هذه هي الحرية في الأنظمة العالمية التي ترفض الدين والعدل والخير الكثير للناس جميعا، ونحن نرى اليوم مردودها وانعكاسها على الشعوب، ولم يكن انطلاق الحريات في الأنظمة الرأسمالية وغيرها من الفطنة والحكمة، بل انطلقت من حقيقة عجز كل هذه الأنظمة على هداية الناس، فانطلقت تشقي القاصي والداني وتسبب في استعمار واحتلال البلدان الأخرى، وإلى الهيمنة على الأموال والثروات، بالقهر والظلم وقتل الشعوب المستضعفة، واستعبادهم لمصالحهم الشخصية ومؤسساتهم التجارية وتجريدهم من حريتهم.

أما في الإسلام فقد أنزل الله الأمر بحرية الإنسان من عبودية أحد من الناس أو الحكام أو الأهواء، وقامت الفتوحات على تحرير الناس من هذه العبودية أو تلك، وتمكين الناس من ثرواتهم وصناعاتهم وزراعاتهم، وعمل على نهضتهم حتى طال ذلك غير المسلمين.

قال الله تعالى

وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى