تقارير وملفات إضافية

بعدما نبذ اليسار الفرنسي خدعته الرأسمالية.. كيف ستؤثر الانتخابات البلدية في مستقبل ماكرون؟

بدا أن الهزائم التي مُني بها الحزب الحاكم في فرنسا (حزب الجمهورية إلى الأمام) في الانتخابات البلدية الفرنسية، بمثابة تصويت على سياسات وشخص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وما يشير إلى ميل الناخبين الفرنسيين لمعاقبة ماكرون تحديداً إلى أنه رغم هزائم حزب الرئيس فإن رئيس الوزراء إدوار فيليب، حقق فوزاً لافتاً علماً بأنه لم يترشح تحت قوائم الحزب.

تشير النتائج إلى أن الرجل الثاني في فرنسا تزداد شعبيته بينما تتفاقم النقمة على الرئيس.

واكتسب فيليب حب وثقة الفرنسيين من خلال طريقة إدارته الهادئة لأزمة فيروس كورونا.

ووصل الاهتمام الشعبي برئيس الوزراء إلى لحيته.

إذ تابع الفرنسيون بإعجاب، الانتشار المنتظم للشيب على خده الأيسر، في تجسيدٍ مادي لانتشار جائحة كورونا بالبلاد، وذلك خلال إطلالته المتكررة على شاشة التلفاز لنقل تفاصيل الأزمة الصحية وإعلان تدابير الإغلاق.

الاهتمام العام بلحية فيليب -التي يُطلَق عليها في البحرية الملكية اسم “اللحية المستديرة”- يُسلّط الضوء على وجه رجل كان يُنظَر إليه على أنّه يفتقر إلى الجاذبية، لكنّه ساعد فرنسا في اجتياز الجائحة بوقاره ونبرته المُطمئنة ونكاته الساخرة العرضية.

وسجل فيليب زيادة في الشعبية في الأسابيع الأخيرة، متجاوزاً ماكرون في استطلاعات الرأي.

وعلى الرغم من أن القانون الفرنسي يسمح لفيليب بشغل منصبين تنفيذيين، فإن وظيفته قد تكون مهددة مع احتمال حدوث تعديل حكومي متوقع.

لكن الأمر الأكثر إثارة للصدمة في الانتخابات هي نسب التصويت المنخفضة، حيث بلغت نسبة الامتناع عن التصويت مستوى غير مسبوق.

وأدلى 40٪ فقط من الناخبين بأصواتهم. وصوّت الناس وهم يرتدون أقنعة الوجه، وحافظوا على التباعد الاجتماعي وهم في الطابور، وحملوا أقلامهم الخاصة للتوقيع على سجلات التصويت، بعد ثلاثة أشهر ونصف شهر من الدورة الأولى التي سجّلت أيضاً معدل إقبال ضعيفاً.

حتى أن السياسي اليساري جان لوك ميلينشون قال إن ذلك يرقى إلى “إضراب مدني”.

لكن بعيداً عن الامتناع غير المسبوق عن الانتخاب، استأثرت “الموجة الخضراء” بالاهتمام.

وكان أحد مظاهر هذا التقدم الأخضر حصول عمدة باريس آن هيدالغو على ولاية ثانية في منصبه يوم الأحد، متغلبةً بشكل كبير على منافستها المحافظة رشيدة داتي.

وتم انتخاب هيدالغو عمدة لباريس في عام 2014 وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب.

وسيسمح فوز العمدة الاشتراكي بالإشراف على دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2024.

هيدالغو مدعومة من قبل حزب الخضر (EELV) وما يعرف بـ(إيكولوجيا أوروبا)، الذي شهد طفرة كبيرة في العديد من المدن الكبيرة.

وبحسب استطلاعات الرأي، من المتوقع أن يفوز الخضر وحلفاؤهم اليساريون في ليون ومرسيليا ويتقدمان في السباق نحو بوردو سيتي هول.

ومع ذلك، كان أكبر انتصار للخضر في مدينة ليل الشمالية، حيث أطاح الحزب بالوزيرة الاشتراكية السابقة مارتين أوبري كعمدة.

كما ادعت مارين لوبان، الزعيمة القومية اليمينية المتطرفة، النصر في مدينة بربينيان الجنوبية، وهي المرة الأولى التي سيطر فيها الحزب المناهض للاتحاد الأوروبي على مدينة فرنسية يبلغ عدد سكانها أكثر من 100 ألف نسمة منذ عام 1995.

ويُنظر إلى لوبان على أنها المنافس الرئيسي لماكرون في الانتخابات الرئاسية المقبلة المتوقع إجراؤها عام 2022.

فشل حزب ماكرون في تحقيق تقدم كبير في الانتخابات المحلية، التي اعتبرت اختباراً في منتصف ولاية الرئيس الفرنسي، قبل عامين من خوضه الانتخابات الرئاسة القادمة.

وقال قصر الإليزيه إنه اعترف بأن “موجة خضراء” اجتاحت الانتخابات.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يخوض فيها حزب ماكرون، الذي تم إنشاؤه قبل وقت قصير من التصويت الرئاسي لعام 2017، الانتخابات البلدية على مستوى البلاد.

وقال المتحدث باسم الحكومة سيبيث ندياي: “هناك أماكن أدت بها انقساماتنا الداخلية إلى نتائج كانت مخيبة للآمال للغاية”.

واللافت أن مرشحة الحزب الحاكم في باريس حلت في المرتبة الثالثة.

ثبّت الخضر أنفسهم عبر هذه الانتخابات كأكبر قوّة يسارية في فرنسا، تواصلاً لعملية إعادة ترتيب المشهد السياسي في عدة دول أوروبية، حيث يحقق أنصار البيئة تقدماً مع ازدياد أهمية قضية المناخ.

ويوجد وزراء خضر في السويد وفنلندا والنمسا، ويحققون صعوداً في ألمانيا.

يأتي البروز الجديد لليسار في صورة الأحزاب البيئية في وقت صار فيه قسم من الرأي العام ينظر إلى حزب ماكرون باعتباره ينفّذ سياسة قريبة من اليمين، وذلك بعد أن حقّق نجاحه في البداية بتبنّي سياسة وسطية.

وشهدت الأسابيع الأخيرة عدة انشقاقات لنواب من حزب “الجمهورية إلى الأمام” أدت إلى خسارته الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية.

أما اليمين التقليدي ممثلاً بحزب “الجمهوريون”، فيفترض أن يحافظ على رئاسة بلدية تولوز ويفوز في عدة مدن متوسطة، لكنه سيخسر معاقل مثل مرسيليا وبوردو لصالح الخضر.

منذ بداية ظهوره، كان شعار إيمانويل ماكرون “التجمع” (التقارب): كان يهدف إلى توحيد أمة منقسمة.

وزعم أن الانقسامات السياسية كانت مصطنعة، قائلاً إن الانقسام بين اليسار اليمين من قبل الأحزاب كان لأن هدفها الوحيد هو التغلب على منافسيها إلى السلطة.

وفقاً لرؤية ماكرون فإن السكان لديهم تطلعات ليبرالية مشتركة ومن خلال إنشاء حركة شعبية جديدة، كان ماكرون يجمع الطاقات الخاملة في المجتمع المدني، ويتجاوز الانقسامات السياسية ويحدث ما لا يقل عن “ثورة” (على حد تعبير عنوان كتابه).

وكان جزء من سر نجاح ماكرون أنه يلجأ إلى التركيز على شخصيته وسيرة حياته، واللجوء إلى الشعارات والعروض الخفيفة.

لكن في الواقع إن أساليبه وخطبه التي تغازل اليسار لا تنفي هويته الرأسمالية، التي يسعى لتجميلها، عبر الدفاع عن الحرية الاقتصادية في سياق “ثورة ثقافية” حسب، كلماته التي من شأنها أن تجدد الطبقة الوسطى وتمكنها من أداء دورها التاريخي كطبقة بارزة مع مسؤوليات تجاه الآخرين.

من وجهة النظر هذه لا يوجد مكان للصراعات الاجتماعية أو النقابات، ولا يوجد دور للطبقة العاملة، ولذا يتألق ماكرون عند مخاطبة الطبقة الوسطى، وهو متلهف لشرح كيف يجب على رجال الأعمال والمهنيين استغلال الفرص التي سيفتحها لهم لخلق فرص للآخرين.

لكن اليسار التقليدي واليسار الأخضر الذي وقف معه في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2017 في مواجهة لوبان، مرشحة اليمين المتطرف، لم يقتنع بأطروحات ماكرون التوفيقية.

يبرز تساؤل الآن حول أثر نتائج الانتخابات في توجّه إيمانويل ماكرون خلال العامين الأخيرين من ولايته. فهل سيتعامل مع الخضر؟ وهل سيبقي رئيس الوزراء الذي انتصر في لوهافر؟

الرئيس الفرنسي، الذي يجري مشاوراته ولكنه لا يكشف عن نواياه، يملك وحده مفاتيح تعديل وزاري محتمل.

وقد لمّح ماكرون إلى أن أزمة فيروس كورونا المستجد ستغيّر الأوضاع بشدة.

ويجب أن يؤمّن الرئيس توازناً هشّاً بين رغبة الجناح اليساري في حزبه في تبني توجه بيئي، والخيارات الليبرالية التي طبعت بداية ولايته.

وماكرون الذي من المحتمل أن يسعى للتخلص من عبء هذه الانتخابات المرهقة في أسرع وقت ممكن، يعتزم إلقاء كلمة اليوم الإثنين 29 حزيران/يونيو.

ومن المتوقع أن يقدم ردّه الأول على التوصيات التي قدّمها مؤتمر المواطنين بشأن البيئة، وهي جمعية مؤلفة من 150 مواطناً تم تنظيمها في إطار الديمقراطية التشاركية في البلاد.

لكن لفهم وضع ماكرون الحقيقي يجب تذكر أنه فاز في الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية عام 2017 لأنه منافسته كانت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان.

واللافت أنه رغم الحشد السياسي ضدها من كل التيارات فقد حصلت على عدد كبير من الأصوات بالنظر إلى الوصمة التي كانت تطاردها باعتبارها مرشحة اليمين المتطرف.

إذ نال ماكرون 20 مليون صوت مقابل 10 ملايين للوبان (4 ملايين أكثر مما نالته في الجولة الأولى)؛ و16 مليوناً امتنعوا عن التصويت أو أفسدوا أوراق اقتراعهم.

ويظهر ذلك أن ماكرون اعتمد على الأصوات الخائفة من لوبان أكثر من المقتنعة به، كما أن هناك 4 ملايين فرنسي فضّلوا اليمين المتطرف على ماكرون (أغلبهم يمين محافظ على الأرجح).

وهذا يظهر أن الرجل اعتمد في نجاحه على خلطة من ناخبيه الليبراليين الموالين له منذ البداية، والمحافظين المعتدلين واليساريين الذين لم يصوتوا له في الجولة الأولى.

وتشير نتائج الانتخابات البلدية إلى أن الفرنسيين عادوا لهذه الانقسامات مرة ثانية، بل على العكس يبدو أن هناك صحوةً يسارية وإن كانت تتكأ أكثر على توجه صديق للبيئة أكثر منه يسار تقليدي.

وقد يعبر ذلك أن ماكرون وحزبه لم يقنعا هذا التيار بوصفته التوفيقية بين الليبرالية واليسار الجديد.

لكن الإشارة الأخطر بالنسبة لماكرون ستكون هي أن أي مرشح يساري معتدل قد يشكل له منافساً خطيراً في الانتخابات القادمة، فقد يصعد معه للجولة الثانية أو الأسوأ أنه قد يتأهل مع مرشح يميني محافظ أو متطرف بعد الإطاحة بماكرون كما فعل الأخير بمرشحي اليسار واليمين في الانتخابات الأخيرة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى