تقارير وملفات إضافية

سد النهضة بين الفساد والعملاء المصريين.. كيف يستغل آبي أحمد أزمة النيل لشيطنة المعارضة الإثيوبية؟

منذ بدأت إثيوبيا تشييد سد النهضة الكبير في 2011، قوَّضت العلاقات بين دول حوض النيل، كما أن سد النهضة ساهم في تعزيز الاستبداد بدول حوض النيل أو بعضها على الأقل.

وتعتبر مصر السد تهديداً وجودياً؛ نظراً لأنها تعتمد على النيل للحصول على جميع احتياجاتها تقريباً من المياه العذبة، وظلَّت تتمتع بالهيمنة على منطقة حوض النيل لما يقرب من 60 عاماً.  

لكن موقف القاهرة في السنوات الأخيرة أنها سعت للوصول إلى تسوية من خلال التفاوض مع إثيوبيا، لكنها لا تزال تنظر للسد على أنه تهديد لمصالحها القومية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.

في حين يعلَق السودان في وسط هذا النزاع، حرفياً ومجازياً؛ إذ يقع جغرافياً بين القوتين الإقليميتين على النيل، إضافة إلى أنه مؤهل للانتفاع من السد، لكن في الوقت نفسه يرغب في تقليل الآثار السلبية الاجتماعية والبيئية المحتملة للسد.

وأحرزت المفاوضات بين الدول الثلاث بعض التقدم، لكنها فشلت في حلِّ القضايا الحرجة، مثل الآلية المناسبة لحل النزاعات أو قواعد تشغيل سد النهضة في فترات الجفاف الطويلة. 

وطلبت مصر والسودان أن تتوصل الأطراف الثلاثة إلى اتفاق قبل شروع إثيوبيا في ملء خزان السد، لكن أديس أبابا مضت قدماً في تخزين المياه باستخدام قوة هندسية وبنائية غير مدروسة لتغيير ما تعتبره توزيعاً غير عادل للموارد الطبيعية.

بيد أنَّ تأثير النزاع على المياه الأكثر إثارة للقلق ربما يتجلى داخل دول حوض نهر النيل وليس فيما بينها؛ إذ أدّت سياسات دول النيل المسمومة إلى تعقيد التحول الديمقراطي الهشّ في إثيوبيا من خلال توسيع الهوّة السياسية بين الحكومة ومعارضيها، إلى جانب أنها رسَّخت أنماط الشراكة المصرية مع السودان، التي تُعزز قدرات الجيش السوداني والأجهزة الأمنية على حساب القادة المدنيين في البلاد. بعبارة أخرى، قوَّضت النزعة القومية على نهر النيل اثنين من أكثر التحولات الديمقراطية الواعدة في منطقة القرن الإفريقي.

إذا كان النزاع على النيل قد أدى إلى مزيد من الاضطراب في العلاقات بين دول القرن الإفريقي، فلم يكن أفضل حالاً بالنسبة للسياسات الداخلية للبلدان المعنية، وتحديداً في إثيوبيا حيث الوضع محفوف بالمخاطر. 

فلم تكَد إثيوبيا تحظى بفرصة تنظيم انتخابات وطنية، مباشرةً عقب تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء في 2018، حتى بدأ التحول الديمقراطي يتداعى، وأدت نوبات العنف العرقي المتكررة، التي أجَّجها الاقتتال الداخلي بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد إلى تضييق مساحة السياسات الديمقراطية.

وفي ظل هذه الظروف أصبح سد النهضة مصدراً لوحدة الإثيوبيين وانقسامهم في نفس الوقت، إذ أصبح السد رمزاً وطنياً للتقدم، ويؤيده جميع الإثيوبيين تقريباً، لكن الفصائل السياسية استخدمت المشروع سلاحاً لنزع الشرعية عن خصومها، بطريقة أعاقت الحوار الوطني.

واتهم منتقدو آبي أحمد مراراً وتكراراً رئيس الوزراء الإثيوبي بالتأثير سلباً على أهمية سد النهضة وتعريض المصالح الوطنية للخطر، مستندين في ذلك إلى تحقيق كبير في فساد المقاول العسكري، الذي أسهم بدور رائد في بناء سد النهضة، من بين أمور أخرى.

وفي المقابل، بدا أنَّ حزب “الرخاء” الحاكم، الذي يتزعمه آبي أحمد، يعيد في بعض الأحيان توظيف قواعد اللعبة التي اتبعها أسلافه من خلال تصوير منافسيه من الإثنيات الأخرى على أنهم عملاء مصريون يشاركون في حملة واسعة من التخريب. 

هذه الحملة المتبادلة من نزع الشرعية هي أحد العوامل العديدة التي تدفع إثيوبيا إلى الاقتراب من الصراع الأهلي.

إلى جانب ذلك، تؤدي السياسات المرتبطة بملف النيل إلى تعقيد التحول الديمقراطي الجاري في السودان المجاور. ولطالما كانت مصر مهتمة بضمّ الخرطوم إلى صفِّها فيما يتعلق بقضايا المياه، ولم تعتبر حكومة البشير السابقة شريكاً موثوقاً به؛ نظراً لتأييد البشير لبناء سد النهضة. وعندما اقتربت نهاية نظام البشير في أوائل عام 2019، أعطت الأجهزة الأمنية المصرية، ومعها شركاؤها في الخليج، الضوء الأخضر للانقلاب العسكري الذي أنهى حكمه الذي دام 30 عاماً. ومنذ أبريل/نيسان إلى يوليو/تموز 2019.

استخدمت مصر رئاستها للاتحاد الإفريقي لحماية المجلس العسكري الانتقالي (عصابة الجنرالات السودانيين التي ملأت فراغ السلطة الذي خلفته إطاحة البشير). ويرتبط الجيشان المصري والسوداني بعلاقات تمتد جذورها عميقاً، إذ تدرب العديد من ضباط الجيش السوداني في الأكاديميات المصرية، ويحافظون على علاقات شخصية مع نظرائهم المصريين، ونتيجة لذلك يظل شريك مصر الأول في السودان هو الجيش، حتى في الوقت الذي سعى فيه المجتمع الدولي إلى تمكين القادة المدنيين داخل الحكومة الانتقالية السودانية الجديدة، بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك.

من جانبها، أعربت أديس أبابا عن دعمها العام لحمدوك، والانتقال السياسي الذي يقوده المدنيون في السودان، لكنها تحتاج إلى تجنّب النأي بنفسها كثيراً عن الجيش؛ خشية أن تتحول الرياح السياسية في السودان ولا تجد إثيوبيا لنفسها موطئ قدم في الخرطوم، التي يسيطر عليها رجالٌ بزيّ رسمي. ومن ثم، فإنَّ سياسة التنافس الإقليمي تُمكِّن الديمقراطيين في السودان من الاحتفاظ بقبضة جزئية على السلطة، فالجنرالات أضعف مما كانوا عليه في ذروة عهد البشير، لكنهم يظلون عقبة كبرى في طريق الإصلاح الديمقراطي.

حتى عقب تشغيل سد النهضة بالكامل والتوصل إلى تسوية، من المرجح أن تظل مصر وإثيوبيا على خلاف. لذلك يجب على الفاعلين من خارج المنطقة الذين لهم نفوذ في منطقة حوض النيل التركيز على إدارة الآثار الإقليمية للمنافسة الاستراتيجية طويلة الأجل على النيل، وليس فقط على تأمين صفقة بشأن السد.

بيد أنه لم يعد هناك سوى القليل من القوى الخارجية القادرة على التوسط في هذا الخلاف، إذ صارت إثيوبيا تعتبر الولايات المتحدة تميل لصالح مصر في المفاوضات الخاصة بسد النهضة. إلى جانب ذلك، تربط المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بعلاقات قوية بالقاهرة والخرطوم وأديس أبابا، لكن الدولتين الخليجيتين تميلان إلى تغليب الاستقرار المصري في الأمور المتعلقة بنهر النيل. وأيدت كلتاهما القرارات المصرية الصادرة تحت مظلة جامعة الدول العربية التي تنتقد إثيوبيا. ومن المؤكد أيضاً أنَّ الصين تتمتع بالمكانة التي تسمح لها بممارسة دور الوسيطة، لكنها لم تُظهِر أي رغبة في ممارسة الدبلوماسية عالية المخاطر إزاء الخلافات في القرن الإفريقي.

ومن هنا، يُرجَّح أن ينشأ الاستقرار في حوض نهر النيل والقرن الإفريقي من داخل المنطقة نفسها، هذا إن تحقق أصلاً. ويبدو أنَّ الجهود الأخيرة التي بذلها الاتحاد الإفريقي للتوسط في نزاع سد النهضة هي اعتراف بهذه الحقيقة، لكن مثلما كان الحال في المفاوضات السابقة، ثبت أنه من الصعب الحفاظ على استمرار الزخم الدبلوماسي. وفي غياب جهد قوي متعدد الأطراف لحل مشكلات المياه العالقة في المنطقة سيظل نهر النيل مصدراً لعدم الاستقرار السياسي لسنوات قادمة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى