ثقافة وادب

عدنان مندريس.. رئيس الوزراء الذي ندم الأتراك على إعدامه وكرَّمه أردوغان

قبل 60 عاماً، وتحديداً في 27 مايو/أيار 1960، شهدت تركيا انقلاباً على رئيس الوزراء عدنان مندريس، أول رئيس منتخب بعد حرب الاستقلال، وصفه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان بأنه أسوأ انقلاب في تاريخ الدولة. 

فمن هو عدنان مندريس؟ وما هي أسباب ونتائج هذا الانقلاب؟

وُلد عليّ عدنان مندريس عام 1899 في ولاية أيدين (غرب)، من أب يدعى أدهم، وأُم تدعى توحيدة. 

وفي 1928 تزوج مندريس السيدة “فاطمة برين” ورُزق منها بثلاثة أطفال ذكور: هم “يوكسال”، و”موتلو”، و”أيدن”.

التحق بالمعهد الأمريكي في إزمير، ثم جامعة أنقرة، حيث حصل على شهادة في الحقوق.

انضم لاحقاً إلى “حزب الشعب الجمهوري” الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، والذي أسس بدوره جمهورية تركيا الحديثة وجعل أنقرة عاصمتها، ليلغي السلطنةالخلافة العثمانيةالإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى، ويعلن تركيا دولة حديثةعلمانية.

كان مندريس نائباً عن حزب أتاتورك بالبرلمان، لكنه في عام 1945 قرر مع 3 نواب آخرين أن يعارض زعيم حزبه ورئيس الوزراء آنذاك عصمت إينونو، الذي كان سيخلف أتاتورك.

شكَّل النواب الأربعة حزباً جديداً سمّوه “الحزب الديمقراطي” بقيادة مندريس، ليشارك عام 1946 في الانتخابات العامة ويحصل على 62 مقعداً فقط.

ولكن في انتخابات عام 1950، فاز حزبه بأغلبية ساحقة، مكَّنت مندريس من تشكيل حكومة جديدة، أنهت هيمنة حزب الشعب الجمهوري الذي كان يملك مفاتيح السلطة منذ تأسيس الجمهورية التركية في العام 1923.

تعد أهم أسباب نجاح مندريس الساحقة هي وعوده الانتخابية التي تمحورت حول ما يلي:

وبالفعل تمكنت تركيا خلال عهده من تصدُّر الدول الأوروبية والشرق الأوسط في إنتاج القمح والبندق والتين المجفف والعنب والقطن والشاي ومختلف أنواع الفاكهة والخضار، وأنشأ عديداً من مخازن الحبوب، كما ربط جميع القرى بشبكات طرق، وأنشأ معامل النسيج ومعامل عصير الفواكه ومعامل الأسمنت ولوازم البناء ومصانع الأحذية ودباغة الجلود ومعامل الصابون والأدوية.

كما رفعت حكومة مندريس جميع القيود أمام الواردات، وخفضت نسبة الفائدة؛ لتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار.

وأقرت تعديلات قانونية لخصخصة المؤسسات الاقتصادية الحكومية، بهدف تشجيع دخول الأموال الأجنبية إلى تركيا.

واستفادت الحكومة من مخصصات “مشروع مارشال” الأمريكي، لبناء منشآت صناعية جديدة في تركيا، كما تم تأسيس بنك “وقف” التركي، في 1954.

وخلال هذه الفترة حقق الناتج القومي الإجمالي لتركيا نمواً بنسبة 9%.

في عام 1954، فاز حزب مندريس مجدداً بأغلبية ساحقة (93% من مقاعد البرلمان)، فاستمرت حكومته على نهجها، وانضمت تركيا في عهده إلى حلف الناتو وأقامت علاقات قوية مع أمريكا، إذ أرسلت قوات تركية إلى كوريا الجنوبية، وكانت الحكومة في حالة مواجهة مع التيار الناصري القومي الصاعد في مصر آنذاك.

لكن الإصلاحات الزراعية أغضبت مُلاك الأراضي، والكيان العسكري لم يكن راضياً عن تولي مدني حكم تركيا.

طوال فترة حكمه، لم يعلن عدنان مندريس أنه كان إسلامياً أو مؤيداً للإسلاميين، وفي الوقت الذي كان يتقرب فيه من العالم الغربي، كان يعيد الحريات الدينية للمسلمين في تركيا بعدما قيدها أسلافهأتاتورك.

وحتى الإصلاحات الزراعية والاقتصادية التي دعمها بقوة لم تكن كافية لإنقاذ الاقتصاد التركي من التدهور.

في 6 و7 سبتمبر/أيلول من عام 1955، شهدت إسطنبول أعمال شغب كانت بالدرجة الأولى ضد الأقلية اليونانية في المدينة.

أدارت الاحتجاجات مجموعةٌ من الجيش التركي، واندلعت أحداث شغب بعد أنباء تفيد بأن القنصلية التركية في مدينة سالونيك شمال اليونان والبيت الذي وُلد فيه مصطفى كمال أتاتورك في عام 1881، كان قد قُصف في اليوم السابق. 

وبعد ذلك تبين أن القنبلة زرعها الحاجب التركي في القنصلية.

نقلت الصحافة التركية الأخبار حول شائعة قصف بيت أتاتورك، في حين بقيت صامتة عن اعتقال الحاجب، وبدلاً من ذلك لمَّحت إلى أن اليونانيين قد فجروا القنبلة.

على أثر ذلك، هاجم بعض الأتراك حي الفنار ذا الكثافة السكانية اليونانية، وقد استمرت الاعتداءات على الأرواح والممتلكات لمدة تسع ساعات، استهدفت اليونانيين والأرمن واليهود. قُتل نحو 12 شخصاً، واغتُصبت مئات النساء، وأحرقت كنائس.

تسببت هذه الأحداث في تهجير عدد كبير من الأقليات بالمدينة، وشكَّلت السبب الرئيسي لمحاكمة مندريس فيما بعد بتهمة مخالفة الدستور.

خسر مندريس جزءاً من المقاعد النيابية في انتخابات عام 1957، ومع نهاية الخمسينيات، كانت القوى العلمانية تمكنت من حشد غضب شعبي داخل الجامعات والجيش لمعارضة سياسة الحكومة.

شهدت إسطنبول وأنقرة أحداث شغب ومظاهرات، كما نفذ طلاب مدرسة القوات البرية مسيرة صامتة إلى مجلس الشعب بأنقرة؛ احتجاجاً على سياساتة مندريس.

كان أكبر هذه الاحتجاجات في ميدان “قزل آي” وسط العاصمة أنقرة، في 19 أبريل/نيسان 1960.

وفي 5 مايو/أيار، اجتمع الطلاب مجدداً في “قزل آي”، فذهب مندريس إلى الميدان واختلط بين المتظاهرين.

في هذه الأثناء لفَّ شابٌ يديه حول عنق مندريس محاولاً خنقه، فسأله مندريس: “ماذا تريد؟”.

وأجاب الشاب: “أريد حرّية”، فردَّ مندريس: “أنت الآن تلفُّ عنق رئيس الوزراء.. هل توجد حرية أفضل من هذا؟!”.

وفي مظاهرة بجامعة إسطنبول، قُتل شاب برصاص الشرطة. وتناقلت وسائل إعلام شائعاتأخبارا كاذبة ادعت أن مندريس “جمع الطلاب وفرم لحمهم في مفرمة، وألقاهم على قارعة الطريق”.

وهو ما أثار ضجة كبيرة في تركيا، ولم تُكشف حقيقة هذا الادعاء الكاذب إلا بعد انقلاب 1960.

ثم اتُّخذ قرار إزاحته.

في صباح 27 مايو/أيار من عام 1960، نفذ الجيش أول انقلاب عسكري في الجمهورية التركية الحديثة، وأوقف نشاط الحزب الديمقراطيالجمهوري.

وبينما كان مندريس يقوم بجولة في ولاية كوتاهية، اعتقله الجيش مع رئيس الجمهورية جلالا بايار وعدة وزراء، ليتم سجنهم في جزيرة “يسّي أدا”.

كان الجيش يتحرك بأوامر 38 ضابطاً برئاسة الجنرال جمال جورسيل، الذي سيتولى رئاسة الجمهورية لاحقاً بعد الانقلاب، كما أحيل 235 جنرالاً وخمسة آلاف ضابط، بينهم رئيس هيئة الأركان، إلى التقاعد.

وفي محاكمة صورية، صدر حكم بسجن رئيس الجمهورية مدى الحياة وإعدام عدنان مندريس مع وزيري الخارجية والمالية بتهمة قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية. 

وفي اليوم التالي لصدور الحكم، نُفذ الإعدام في 17 سبتمبر/أيلول من عام 1961.

كان شعور عدد كبير من الأتراك لاحقاً بأن مندريس ورفيقيه تعرضوا لظلم، وفي عام 1990 قرر الرئيس تورغوت أوزال أن يستجحيب لهذه المشاعر فاتخذ قراراً جريئاً بردِّ الاعتبار إليهم.

ثمَّ أصدر أمراً بنقل رفاتهم من جزيرة ياسّي أده، حيث دُفنوا بعد إعدامهم، إلى مقبرة خاصة أقامتها بلدية إسطنبول على تلة مطلة على أحد أوسع شوارع منطقة طوب قابي. وفي 17 سبتمبر/أيلول 1990 بالذكرى الـ29 لإعدامه، شارك أوزال بنفسه مع أركان الدولة وقادة الجيش ورؤساء الأحزاب وجماهير غفيرة من الشعب في استقبال الرفات.

وفي عام 2020، حرص أردوغان على إعادة إحياء الذكرى، حيث اختار موعد الانقلاب ليفتتح جزيرة ياسّي أدا مجدداً للسياحة تحت اسم “جزيرة الديمقراطية والحريات”.

تضم الجزيرة اليوم مسجداً يتسع لـ1200 شخص، ومركزاً للمؤتمرات، وفندقاً، ومعرضاً، ومكتبة، ومتحفاً، وحدائق، وهي تقع بالقرب من جزر الأميرات في ولاية إسطنبول. 

يُذكر أن جزيرة “ياسّي أدا” استُخدمت كمنفى منذ القرن الرابع للميلاد، وبُنيت عليها كنيسة ودير في الماضي، وتناقل ملكيتها عديد من الأشخاص إلى أن اشترتها القوات البحرية التركية عام 1947، حسب ما أفادت به وكالة الأناضول. 

وبقيت الجزيرة مهجورة منذ عام 1993 حتى عام 2015، عندما قررت السلطات التركية إعادة تنظيمها وتحويلها لوجهة سياحية شهدت على أحد أهم فصول تركيا السياسية منتصف القرن الماضي.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى