ثقافة وادب

أسلم فقرّبه الخليفة منه، تعرّف على الطبيب الرائد في تشريح العين

شهدت الحضارة الإسلامية، في زمانها الذهبيّ ازدهاراً كبيراً في الحركة العلمية، وبدأ ظهور علماء عرب ومسلمين سبقوا حدود زمانهم ومكانهم باكتشافاتهم العلمية والطبية، وتركوا وراءهم إرثاً علمياً، استفادت منه الحضارات المتعاقبة. وفي هذا التقرير، سنتحدث عن شخصٍ فريد من نوعه؛ هو العالم الشامل والطبيب الرائد ثابت بن قرة، أحد أبرز أعلام عصر الخلافة العباسية.

وُلد ثابت بن قرّة في مدينة حرّان الشامية، الواقعة على أحد روافد نهر الفرات، جنوب تركيا اليوم، عام 221 هـ/836م، وهناك كان يعمل صيرفياً في مطلع شبابه، وكان من ديانة الصابئة قبل أن يسلم، وابنه أصبح طبيباً من بعده، وكذلك حفيده ثابت بن سنان بن قرّة.

يحكي لنا المؤرخ ابن خلكان عن قصة تحوُّل في حياة ابن قرّة في كتابه “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”، أنه وقعت بين ثابت بن قرّة وبين أهل مذهبه أشياء وأنكروها عليه، فحرّم عليه رئيسهم دخول الهيكل -معبدهم-؛ فخرج ثابت من حران إلى “كفر توثا”، وهي قرية بالجزيرة الفراتية.

وهناك لقي المؤرخ الدمشقي ابن شاكر الذي كان يعمل في بيت الحكمة ببغداد، فأعجب بذكاء ثابت ونبوغه وفصاحته، واصطحبه معه إلى بغداد وأوصله بالخليفة المعتضد الذي أكرمه وأغدق عليه العطايا والهبات وكانت مكانته عظيمة عنده، بعد أن عمل منجماً في قصره، وأسلم هناك، وظل في بغداد حتى توفي عام 288هـ/901م.

كان ثابت عالماً شاملاً بمعنى الكلمة، جمع بين عددٍ كبير من العلوم، وقد نبغ فيها جميعاً. فقد برع في الطب، والرياضيات والهندسة، حيث لُقب إقليدس العرب، وفي الفلك والموسيقى، وأتقن عدداً من اللغات التي يترجم وينقل منها، علاوةً على إتقانه وتمكّنه من اللغة العربية، وله العديد من المؤلفات في العلوم المختلفة، أشهرها في التفاضل والتكامل والجبر، والتي أفادت علماء أوروبا في القرن السادس عشر.

وقد أكد عدد من المؤرخين نبوغه في هذه العلوم، فقال عنه الذهبي: “إنه فيلسوف عصره، كان عجباً في الرياضة، إليه المنتهى في ذلك، وكان يتوقد ذكاء، فبرع في علم الأوائل”، وقال عنه ابن أبي أصيبعة: “إنه لم يكن في زمانه من يماثله في الطب وجميع الفلسفة”.

يعد ثابت أحد أهم الأطباء العرب عبر التاريخ، فقد استفاد ثابت من إتقانه لبعض اللغات الأجنبية في ترجمة المؤلفات الطبية القديمة، وكذلك من معرفته في العلوم المختلفة، ليُشكل حالة طبية جديدة في عصره، تُعرف اليوم باسم الأمراض الجلدية.

كان من أوائل الأطباء الذين اهتموا بالأمراض الجلدية ومستحضرات وأدوية التجميل، فقد تحدث بالتفصيل في كتابه “الذخيرة في علم الطب – معالجة الأمراض بالأعشاب”، عن الأمراض التي تصيب سطح جلدة الوجه مثل الكلف والقوابي، والبرش والنمش والثآليل والآثار السود والبيض الناجمة عن الجدري، وعن كيفية تنقية البشرة.

كما تحدث عن القروح والبّرَص والحكّة والبهاق بنوعية؛ الأبيض والأسود، والثعلبة والسعفة والحزاز، وأمراض الشعر، وكيفية المحافظة على الشعر، وعلاج القمل، وكذلك تحدث عن الهزال والسمنة وذكر أسبابها وآثارها ووسائل علاجها، وأوضح الأثر الضار للدسم والدهون على صحة الإنسان.

ويُعتبر كتابه “الذخيرة” أحد أعظم الكتب الطبية على الإطلاق، فقد كتب فيه أيضاً عن أنواع الصداع الذي يعتري الإنسان، وفرق بين أنواع الشقيقة، وذكر ما يقوِّي الرأس وينقِّي الدماغ من الأدوية والأغذية، وقدَّم شرحاً مطولاً في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية والباطنية، واستطاع أن يشخِّص السكتة القلبية والصرع ويفرق بينهما، كما وصف التشنُّج وذكر أسبابه وعلاجه، ووصف عدداً من الأمراض النفسية مثل الماليخوليا، والسبات.

كما أصدر كتبه في مجال الأمراض الجنسية وأمراض الذكورة، وذكر أسبابها وأوضح أعراضها، كما تناول أمراض النساء والتوليد فتحدَّث عن اختناق الأرحام، وإدرار الطمث وحبسه، وأسباب الحمل وانقطاعه، وعسر الولادة، وكيفية إخراج الجنين الميت والمشيمة في كتابه “مقالة في صفات كون الجنين”.

وعلى الرغم من أنّ ثابت وأطباء عصره، وما بعد عصره، لم يكونوا يعرفون الفروق في علم الأوبئة، إلا أنه اجتهد واهتم بطب الأطفال، وتحدّث عن الأمراض التي تصيبهم كالحصبة والجدري، في كتابٍ اسمه “الجدري والحصبة”، كما تحدث عن السموم وأنواعها والأوبئة والأمراض المعدية وأسباب انتشارها، وطرق العدوى ووسائل الوقاية منها.

اهتمّ ثابت كذلك بدراسة الجهاز الهضمي والأمراض التي تصيبه مثل انتفاخ المعدة وخفقان المعدة، وفقدان الشهية والعطش المفرط، والمغص وأمراض القولون والأمعاء، وأمراض الكبد والطحال وما يصاحبها من أعراض كالصفرة وفقدان الشهية. 

وتحدّث بشكل دقيق عن أمراض القلب، وأمراض الكُلى والمثانة؛ فقد تحدّث عن أسباب تولُّد الحصى في الكلى والمثانة في كتابه “رسالة في توليد الحصاة”، وذكر المواد والأغذية التي تسبب ذلك، وأثر تراكم تلك الجزئيات الصغيرة من المواد العالقة والأملاح في تكوين الحصوات.

وتعرض لأسباب إدرار البول، وذكر العديد من الأدوية والأغذية المدرّة للبول، وتحدث عن التبول اللاإرادي، وبيّن بعض الأسباب العضوية المسببة له مثل ضعف المثانة عند الأطفال والشيوخ، أو حدوث أورام أو جروح.

نجح ثابت بن قرّة في تشريح العين بدقةٍ عالية وأحدث طفرة في مجال الطب في زمانه، في كتابه “في علم العين وعللها ومداواتها”، وكان تشريحه للعين قريباً جداً من التشريح الحديث للعين، قبل ظهور الآلات الطبية الحديثة الدقيقة والمعدات الطبية المتطورة بمئات السنين.

شرح ثابت العين بقوله إنها مركبة من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، والبصر يكون بالرطوبة الجليدية، وسائر الطبقات والرطوبات خلقن المعونة هذه الرطوبة إما لتؤدي إليها منفعة أو لتدفع عنها مضرة، فهي کالخوادم لها محيطة بها من كل جانب.

تحدث ثابت في كتابه عن بعض الأمراض التي تصيب العين كالرمد والمياه البيضاء والزرقاء، كما ذكر ما يعتري العين من جحوظٍ أو غور، وتحدث عن ضعف البصر وذكر أسبابه، وقدّم النصائح التي تقي منه.

وبرع ثابت كذلك في أمراض الأنف والأذن والحنجرة؛ فقد ذكر الأمراض التي تصيب الأذن وتعرض لأسبابها، وقدّم العلاج لها، وتحدث عن العلل التي تصيب الأنف من تغير رائحته وفقدان حاسة الشم، وما يصيب الجهاز التنفسي من أمراض كالربو والزكام والنزلة، وفرّق بدقة بين النزلة والزكام، ووصف بعض الأمراض التي تصيب الرئتين.

حتى أنه تطرق أيضاً إلى أمراض الفم والأسنان؛ فذكر علل الأسنان وعلاجها، ووصف تركيب الأسنان ووظائفها، وتحدث عن أمراض اللثة وطرق علاجها، وحاول ثابت أن يتحدث عن كل ما يخص جسم الإنسان في مؤلفات عديدة، امتد أثرها ليصل إلى القرون اللاحقة؛ فقد ظلت آثاره مرجعاً مهماً لطلاب العلم والباحثين في أنحاء العالم لعدة قرون.

وقد توفي ثابت عام 901، وقد قال بعض المؤرخين إنّه توفي على دين الصابئة، لكنّ أغلب المؤرخين على أنّه توفي على الإسلام، وقد كان ولده وحفيده أحد أبرز الأطباء المسلمين في زمانهم.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى