الأرشيفكتاب وادباء

مسجد الضرار وفضح الأسرار

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
*  يقول الشاعر القديم زهير بن أبى سلمى :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة .. وإن خالها تخفى على الناس تعلم .
فكثير من الناس سواء كانوا كتابا أو مفكرين أو صحفيين أو ساسة أو خبراء أو علماء دين يظنون أنهم يستطيعون إخفاء الحقيقة عن الناس والمجتمع بقليل من المداهنة والمكر والخداع وتلوين الكلام بألوان الطيف وكأنه بيض شم النسيم . ولكن الله عز وجل يأبى إلا أن تنكشف الحقيقة فى لحظة ما قدرها الله عز وجل لتكون مثل الشمس فى رابعة النهار لا ينكرها إلا من كان فى عينيه رمد ولا ينكر حلاوتها إلا من كان فى فمه سقم . فيظن السارق بليل أن شمس النهار لن تطلع  , ويظن القاتل أن لون الدماء سيتحول بمرور الأيام إلى لون الماء , ويظن الكاذب أن كذبه سوف يمر مر السحاب , ويظن المنافق المداهن أن نفاقه ومداهنته سوف تمر مر الكرام . لكن تجارب الزمان تثبت غير ذلك , تثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن الحقيقة كراكب الجمل فى ميدان عام , قد يظن راكب  الجمل أن الناس لا تراه , هو حر فى تصوره , لكن الواقع يؤكد أن كل البشر يرونه مهما علا واختفى فى طيات السحاب . فليتلون من شاء أن يتلون , ولينافق من شاء أن ينافق , وليكذب من شاء أن يكذب , فكاشف الأستار لا تخفى عنده الأسرار..!

*  قال الحكماء :  عندما يكون الإنسان  مثل قطعة النقود بوجهين , فإنه يعيش حياته متنقلا بين جيوب الناس . جاء فى الحديث الشريف ” ملعون ذو الوجهين , ملعون ذو اللسانين ” خلق الله الإنسان بوجه واحد ولسان واحد . لكن هناك صنفا من الناس يأبى إلا أن يعيش بعدة أوجه وعدة ألسن . فهو يقابل هؤلاء بوجه , وهؤلاء بوجه , وهذا من أشر الناس خلقا وسلوكا . إن ضعف العقيدة وهشاشة الشخصية , وخواء العقل , وفراغ القلب , من أهم أسباب تلون الأوجه وتعدد الألسن لدى الفرد الواحد فى موقف واحد وقضية واحدة . أنا منافق , إذا أنا موجود . هذا حالهم اليوم وغدا بعد غد  وربما إلى قيام الساعة . لكن مهما ارتفعوا وتسلقوا جبال القمة على أكتاف الآخرين , حتما سيبقون كالافاعى  تحت الأرض  , تستبيح النور فقط لمداهمة فريستها . سأل رجل صاحبه : لماذا هواء الفجر نقى ..؟ قال : لأنه يخلو من أنفاس المنافقين .
* ذو الوجهين المتلون كبيض شم النسيم لا يظهر على حقيقته أبدا ولا ينطق لسانه بالحق , بل بالكذب والزور والبهتان . ليس له شخصية ثابتة , وليس له مبادئ أو قيما ثابتة يدافع عنها , بل هو صاحب مصلحة يتلون كالحرباء ليلا ونهارا حسب ظروف الطقس والمناخ . فهو فى المساء اسلامى متشدد , وفى الصباح علمانى مفرط , ولامانع أن يكون وسط النهار خليط بين هذا وذاك . ذو الوجهين يغير راية أسرع مما يغير أحدنا حذاءه. إن الأرض تأسن وتفسد كلما كثرت فى باطنها جراثيم النفاق , ولاسيما السياسي والدينى منها . لأن السياسة مرتبطة بالمصلحة . وصاحب الحاجة أرعن لا يرى فى الكون غير مصلحته , فهو دائما وأبدا يدور فى فلك مصلحته حيث كانت وحيثما تدور . أعرف أفرادا نسميهم نحن اليوم بالنخبة , يمسون فى حزب ما , ويصبحون فى حزب آخر مختلف عنه فى الأهداف والوسائل والأيدلوجية . فماذا حدث , ولماذا تغير ..؟  إنها المصلحة وحب الذات والقدرة على التلون والتغير والتعدد حسب الأهواء وحسب ما تقتضيه المصلحة . إن مثل هؤلاء أخطر على المجتمع من الأمراض المعدية التى لا تبقى ولا تذر.
*, أليس مثل هؤلاء أخطر على المجتمع والدين والسياسة والتعليم والصحة  من أى عدو خارجى ؟ أليس مثل هؤلاء يعطلون سريان الماء فى مجاريها ؟ أليس مثل هؤلاء يحطمون قيم وثوابت المجتمع ويجعلون سافلها عاليها ؟ أليس مثل هؤلاء  يقلبون الحقائق ويشعلون الحرائق ويجعلون هادمها كبانيها ؟ أنا على يقين أن مثل هؤلاء القوم ولا أريد أن أسميهم بأسمائهم عار على مجتمعنا..؟ أليس هؤلاء وصمة عار يلاحق جبين الوطن..؟ أليس كل هؤلاء يشبهون قطعة النقود , يتقلبون فى أرائهم كما تتقلب قطعة النقود فى جيوب الخلائق شرقا وغربا ..؟  لا أراهم إلا عملة مزيفة لا قيمة لها فى عيون الناس. إن كل كاذب ومنافق ومداهن من أجل مصلحته الشخصية سوف يفضحه الله عز وجل على رؤوس الأشهاد مهما طال الزمان  وتاهت الحقائق وسط ركام الكذب الأسود.

* إن هؤلاء الذين يتقلبون فى أرائهم من خبراء وعلماء وكتاب ومحللين وساسة , ويغيرون مواقفهم بسرعة البرق , ويتلونون بلون كل نظام , ويرتعون فى حظيرة مصالحهم الشخصية , ليسوا أقل خطرا على تماسك بنية المجتمع وسلامة أراضية , وبقاء حدوده آمنة مستقرة , من هؤلاء المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تفريقا وكفرا بين المؤمنين , بل ودعوا الرسول حتى يصلى معهم فيه . وهم فى الأصل بنوه على شفا جرف هار , ولم يؤسس على التقوى من أول يوم . وعندما انكشف أمرهم , وانفضح موقفهم قالوا : إن أردنا إلا الحسنى..! . إن التبرير جاهز فى علب معلبة لتفريغه وتقديمه للناس بأى شكل وعلى أى صورة . المهم أن تظل وجوههم بيضاء أمام الناس , وفى الحقيقة فإن وجوههم أشبه بقطع الليل المظلم , لودققت النظر فيها , لما وجدت لها ملامح ولا معالم تذكر .
* يقول أحد الدعاة المصلحين “ إن فى الأمم خيرا وشرا , وفسادا وصلاحا , ومصلحين ومفسدين , فإن رفعت للخير راية ,  انضوى إليها الأخيار فى كل طائفة , وغلب بها الخير فى الأنفس التى يغلب خيرها شرها  , ونبت خير فى نفوس لاخير فيها , فإن الإنسان لايخلوا , وإن غلب عظم شره , واستشره داؤه , من نزعة للحق كامنة , وعاطفة للخير مستترة . وكثير من أهل الخير والصلاح رأوا ضخامة الفساد فى بلادهم  , وتغير الموازين والمقاييس  , وتسلط الأشرار . فظنوا أن الأمر قد فلت واستحكم الشر . فاختاروا إما السكوت  , وإما الهجرة ” إن بلادنا فيها الكثير من أهل الخير والإصلاح ومحاربة الرذائل والفساد , ومن الذين يعملون لوجه الله , ثم لمصلحة هذا الوطن , ولمصلحة الأجيال القادمة. فإن صمتوا وسكتوا عن قول الحق وإصلاح ما فسد وبناء ما هدم وتعمير ما خرب , فمن يتقدم لمواجهة رذائل التضليل ونقائص الغش والتزوير ..؟ الخير فى هذه الأمة باق إلى يوم القيامة  وسينكشف المضللون والكاذبون كما انكشف من بنوا مسجد الضرار لان الحق والحقيقة مثل ضوء القمر ونور الشمس لا يمكن اخفاؤهما عن أعين الناس .
                                     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى