ثقافة وادب

احذر غضب الطبيعة.. دروس من بومبي: لم يتوقعوا الكارثة، تماماً كما فاجأنا كورونا

في عام 79 ميلادياً، تلقى مجتمعٌ كان يظن نفسه متقدماً، وراقياً، ومتحكماً تماماً في مصيره، تلقى درساً من الطبيعة أثبت هشاشة الإنسانية. حصل انفجار بركان فيزوف الذي غمر مدينة بومبي وهيركولانيوم وغيرهما من المدن التي كانت واقعةً حول خليج نابولي وأخذ الإمبراطورية الرومانية على حين غِرةٍ. 

التشابهات بين تلك الواقعة وبين أزمة فيروس كورونا التي نشهدها ليست قليلةً، للأسف.

من هذا المنطلق، أعلن المتحف البريطاني هذا الأسبوع عن إطلاق جولة افتراضيةً على الإنترنت، عنوانها الحياة والممات في بومبي وهيركولانيوم، مأخوذةً عن الفيلم المروع الذي أنتجه عام 2013، مقدماً نظرةً مقلقةً في مرآة التاريخ.

كان انفجارٌ بركانيٌّ دمَّر جبلَ فيزوف في مدينة بومبي المزدهرة (قرب نابولي الحالية) سنة 79 للميلاد.

وتوصف مدينة بومبي بـ”المشؤومة”، أو “الأسوأ حظاً في التاريخ”؛ إذ راح سكانها ضحية البركان النشط الوحيد في أوروبا.

كما توصف بالمدينة الفاسقة؛ نظراً لانتشار بيوت الدعارة فيها والرسوم الجدارية ذات الطبيعة الجنسية.

فقد أطلق ثوران البركان مزيجاً قاتلاً من غاز الكبريت السام ومئات الأطنان من الرماد البركاني، التي دفنت مدن بومبي وأوبلونتيس وستابيا بين عشية وضحاها.

ولأن الرماد غطَّى كلَّ مَا ومَن في المدينة بقي كل شيء على حالته.

وفي أثناء التنقيب تم الكشف عن الجثث على سطح الأرض، وكانت المفاجأة أنهم ظهروا على هيئاتهم وأشكالهم نفسها، بعد أن حلَّ الغبار البركاني محلَّ الخلايا الحية.

ورغم الثراء الذي كانت تتمتع به المدينة والذي تكشفه أعمال فنية يعود تاريخها إلى 2000 عام، فإنها اندثرت كلياً بين عشية وضحاها.

وكما كان حال أهل بومبي قبلنا، فقد أُخذنا على حين غرةٍ، كان الناس هناك فخورين بجبلهم الخصب، بل والمقدس، إلى أن انفجر وقضى عليهم جميعاً. 

تجمَّدت أجسادهم داخل تجاويف الرماد المتصلِّب، مجتمعةً أمام الموجة الصادمة لحرارة البركان. 

لكن لماذا لم يَرَوا تلك الكارثة قادمةً؟ ولعل السؤال الأهم: لماذا لم نَر نحن كارثتنا قادمةً، مع كل التطور العلمي الذي توصل إليه الأطباء والعلماء ومتخصصو الفيروسات والأوبئة؟

وبحسب ما نشرت صحيفة The Guardian، يجمع المعرض الذي تستطيع أن تُعيد زيارته في ذلك العرض الخاص المصور، أدلةً مذهلةً على ثراء ورغد بومبي قُبيل الكارثة. 

تكشف الجداريات والتماثيل من غرف النوم، وغرف الطعام، وحتى الحدائق رقي وروعة المنازل الفاخرة في بومبي. 

وتُعزز أدوات الطبخ، والسخانات، والأرائك، والمصابيح بالحانات والمحال والحمامات صورة مجتمع يُشبه مجتمعنا لدرجة كبيرة.

إذ تبين ضمن أعمال التنقيب أن الرومان كانوا أول من اخترع إعادة تدوير القمامة، علماً أنهم سبقوا زمانهم جداً في التهوية تحت الأرضية والقنوات المائية واستخدام الخرسانة ضمن مواد البناء. 

وسواء أحببت أدبهم اللاتيني أو كرهت نمط إنتاجهم الاستعبادي، فقد كان الرومانيون نسخةً من عالمنا الحالي. 

ومثلنا تماماً، تجاهلوا خطراً طبيعياً واضحاً للغاية. 

كان خليج نابولي واحداً من أكثر منتجعات الإمبراطورية ترفاً. ويُقال إن الإمبراطور كاليغولا امتلك منزلاً قرب هيركولانيوم، وكانت إحدى أرقى الفيلات الواقعة على الساحل تعود لبوبايا زوجة نيرون. 

لكن الأدلة على وجود نشاطاتٍ جيولوجيةٍ مُريبةٍ كانت ومازالت أوضح من ألا تُرى. 

يُعد شمال نابولي بركاناً هائلاً تحت الأرض ينفس عن احتقانه عبر الحركات الأرضية الغامضة والغازات السامة، وقد لاحظ الرومان ذلك. 

واستنتجوا أن بحيرة أفيرنوس التي تملأ الفوهة المستديرة في هذا المشهد الغاضب هي المدخل إلى مملكة هاديس، ملك العالم السفلي.

أما بركان فيزوف في الجنوب، فبدا لسكان بومبي جبلاً من الجنة أكثر مما بدا لهم بركاناً من الجحيم. 

لم يثُر البركان أبداً طيلة التاريخ الإنساني، وبدلاً من أن يبدو خطيراً بدا مفيداً. 

كانت تربته الرمادية مفيدةً لإنبات الكروم. ووُجدت لوحةٌ ضمن بقايا بومبي تصور جبل فيزوف مغطىً بالأشجار التي تُثقلها كروم العنب، فيما يقف باخوس إله النبيذ بجواره يفيض عليه ببركته الثملة. 

ولا يزال الجبل يُنتج نبيذاً اسمه التجاري Lacryma Christi.

وهنا يُصبح التشابه بين الماضي والحاضر، أي بيننا وبين بومبي، أكثر غرابةً. 

لا يزال الناس يعيشون حول جبل فيزوف. ولا شك أن زيارة مدينة هيركولانيوم الساحلية التي ردمها الرماد الساخن من بركان فيزوف تُثير الاضطراب. 

وفي المنطقة المحفورة، ستجد نفسك وجهاً لوجهٍ أمام الموتى. فرّ بعضهم إلى الميناء في محاولةٍ للفرار من غيمة الفطر التي انبثقت من البركان لتغطيهم. ولا يزالون هنا: مجموعاتٌ مأساويةٌ من الجماجم والقوالب المفرغة، تجمدت جثثهم بسبب كارثةٍ لم يتسن لهم الوقت لفهمها.

ومع ذلك، استُكشف جزء صغير فقط من هيركولانيوم، ومعظمها لا يزال واقعاً تحت مدينة إيركولانو المعاصرة، التي تضم عمائرها نحو 54,000 نسمةً. 

كيف يكونون أكثر أماناً من أسلافهم؟ بلا شك هناك معداتٌ حديثةٌ قرب قمة فيزوف تقيس وتحلل ما يحدث بالأسفل. 

لكن العيش فوق بركان لا يزال بنفس الخطورة التي كان عليها قبل 2000 عامٍ.

والتأمل في دروس الماضي القاسية يجعلنا نتساءل: هل أُخذنا على حين غِرةٍ مثل أهل بومبي؟

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى