ثقافة وادب

قسَّمه الاستعمار وشهد صراعاً بين عبدالناصر والسعودية.. تعرّف على تاريخ اليمن الموحّد

يدور منذ سنوات جدلٌ كبير حول اتصال اليمن أو انفصاله، خصوصاً بعد خوض قوّات التحالف السعودي – الإماراتي حربها ضد الحوثيين المدعومين من إيران، وتفكك المنظومة السياسية في اليمن وبداية الحرب منذ مطلع عام 2015.

ولكن، بعيداً عن السياسة والوضع الراهن الآن، تعالوا لنُبحر معاً عبر تاريخ اليمن، لنحاول الإجابة عن سؤال الانفصال؛ فنظرية اليمن الجنوبي واليمن الشمالي ليست مترابطة تاريخياً، والنزعة الجنوبية التي “تهدف للحفاظ على الهوية الجنوبية” وتقسيم البلاد إلى يَمَنَين، إنما هي نزعةٌ حديثة وانقسامٌ حديث (1967-1990) لم يشهده اليمن سابقاً.

إذا عدنا للتاريخ سنجد أنّ اليمن حضارةٌ تشكلت في جغرافيتها دولٌ وممالك عديدة، وأنّ له هويةٌ مشتركة ضاربة بجذورها في القدم تدل عليها الآثار والنقوش المدونة بخط “المُسند” وهو أحد أقدم الأبجديات في العالم.

استوعبت الهوية اليمنية دائماً تنوُّع الممالك والدول مع الحفاظ على الهويّة اليمنية. ولم يسهم العامل الجغرافي وحده في الحفاظ على هذه الهوية، بل أيضاً العامل الديني بعد دخول الإسلام إلى البلاد.

ولم يكن تقسيم اليمن إلى يمنين أمراً معهوداً منذ القدم؛ إلا أن مدن وأقاليم الدولة التي تقع في جنوب الجزيرة العربية خضعت لحكم دولٍ مختلفة في نفس الوقت، فتزامن مثلاً حكم العثمانيين والقبائل الموالية لهم لمناطق معينة، مع سيطرة البريطانيين أو البرتغاليين على مناطق أخرى. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1918 قام يحيى حميد الدين المتوكل بتنصيب نفسه ملكاً وأعلن اسم الدولة المملكة المتوكلية اليمنية التي عرفت لاحقاً باليمن الشمالي عام 1962.

وبالنسبة لقضية اليمن الجنوبي فتعود إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، حيث كانت مناطق جنوب اليمن عبارة عن مشيخات وسلطنات متفرقة متناحرة ما سهل على بريطانيا احتلال عدن عام 1839 وهي أهم مناطقها. أخضعت بريطانيا مناطق جنوب اليمن لحكمها بين عامي 1839– 1967، وكان لهذا الاحتلال دور في محاولة إلغاء “الهوية اليمنية”.

ولتمنع بريطانيا الأئمة الزيديين في شمال اليمن من اقتحام عدن ذات الأهميّة البحرية الكبرى لبريطانيا بسبب مستعمراتها في الهند، قامت بضم المشيخات المحيطة إلى عدن لتقوية وضعها هناك في عشرينيات القرن الماضي، ثم أسس الاحتلال اتحاد إمارات الجنوب العربي الذي ضم 21 مشيخة في جنوب اليمن عام 1959.

اندلعت ثورة التحرير في جنوب اليمن بعدها بأربع سنوات فقط، وتحديداً في عام 1963، حين تمكّن الثوّار من قتل المندوب السامي البريطاني كينيدي تريفسكيس، ما اضطر بريطانيا التي تراجع وضعها العالمي كثيراً، لسحب قواتها من عدن عام 1967، وفور خروجها أُعلن عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بقيادة الرئيس قحطان الشعبي.

أي أن تأسيس جمهورية اليمن الجنوبي كان نتيجةً لوضعٍ صنعه الاستعمار البريطاني.

كان أوّل حاكم مستقل لليمن كدولةٍ حديثة عام 1918 هو يحيى محمد المتوكل من العائلة الزيدية. في فترة طفولته كانت أجزاء اليمن الشمالي خاضعة للحكم العثماني. وأصبح يحيى إماماً عام 1904 وكان قادراً على تجميع قوة عسكرية قوية.

تمكّن من إجبار العثمانيين على الاعتراف باستقلالية حكمه على اليمن وبقي وفياً للدولة العثمانية حتى تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى لكنه رفض أن يكون طرفاً مشاركاً فيها. ومع نهاية الحرب العالمية عام 1918 أصبح هو الحاكم الافتراضي المستقل لدولة اليمن. وقد اغتيل عام 1948 ليخلفه ابنه أحمد ومن بعده حفيده محمد ويستمر حكم الزيدية حتى عام 1962.

في سبتمبر/أيلول عام 1962 أصبح محمد البدر بن الإمام أحمد بن يحيى إماماً وفي خلال أسبوع واحد قامت عناصر من الجيش، بدعمٍ من منظمات سياسية المختلفة، بانقلاب وأعلنت تأسيس الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي).

هرب الإمام الشاب من قصره المدمّر إلى المرتفعات الشمالية، وبدأ يحشد القبائل لقضيته. طلب عناصر الجيش الذين سيطروا على اليمن الشمالي المساعدة من مصر التي كان يحكمها آنذاك جمال عبدالناصر، وأرسلت مصر المعدات والمساعدات للدفاع عن النظام الجديد لعبدالله السلّال، الزعيم الاسمي لثورة 1962 وأول رئيس لشمال اليمن. في المقابل، قدّمت السعودية المساعدة والملاذ للإمام وقواته، ضمن صراعها مع جمال عبدالناصر ومشروعه العروبي.

كان إنشاء جمهورية في شمال اليمن الحافز الأكبر للعناصر الجنوبية التي تسعى للقضاء على الوجود البريطاني هناك. كما وافقت مصر على تقديم الدعم لبعض المنظمات التي تناضل من أجل استقلال الجنوب – على سبيل المثال، جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلة.

بعدها ظهرت حركة التحرير الراديكالية الجديدة التي سُميت الجبهة القومية للتحرير، ومع اقتراب وقت الاستقلال تصاعد الصراع بين المجموعات الوطنية المختلفة، خاصة بين الجبهة القومية للتحرير وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ، وانتهى إلى صراع طويل من أجل الحق في الحكم بعد الانسحاب البريطاني.

وبحلول أواخر عام 1967 كان من الواضح أن الجبهة القومية للتحرير كانت الأقوى، واضطر البريطانيون أخيراً إلى الانسحاب ورتبوا نقل السيادة إلى الجبهة القومية للتحرير في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967. وفق ما جاء في موسوعة Britannica.

كان للجبهة القومية للتحرير اليد العليا على حساب جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل التي انقسم أعضاؤها ما بين منضم للجبهة القومية أو الرحيل لشمال اليمن، رحل عبدالله الأصنج ورئيس الوزراء  محمد باسندوة لشمال اليمن. وخرج آخر جندي بريطاني من عدن في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 وتم ضم مشيخات المحمية الشرقية في حضرموت إلى الدولة الجديدة.

كان تعداد سكان الجنوب عام 1967 حوالي مليوني نسمة، بينما كان شمال اليمن يتجاوز 6 ملايين. معظم سكان الجنوب يتركزون في المناطق الغربية في لحج وما حولها، وهؤلاء وحدهم كانوا يشكلون أكثر من 60% من السكان، و10% كانوا من البدو الرُّحَّل. 

تولى قحطان الشعبي رئاسة دولةٍ لم تكن موجودة من قبل وباقتصادٍ منهار، غادر العمال المدنيون ورجال الأعمال وتوقف الدعم الإنجليزي وقلّل إغلاق قناة السويس عام 1967 عدد السفن العابرة لميناء عدن بنسبة 75%.

كانت الجبهة منقسمة قسمين: اليمين واليسار. قاد قحطان الشعبي اليمينيين الذين لم يريدوا إحداث تغييرات كبيرة في البنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة وعارضوا إنشاء قوات شعبية واقتراحات لتأميم الأراضي ولم يكونوا مشغولين بصراع الطبقات الاجتماعية، وإنما أرادوا استمرار المؤسسات الموجودة وتطويرها.

وفي 11 ديسمبر/كانون الأول 1967، صودرت أراضي الرموز الإقطاعية وقسِّم اليمن الجنوبي لست محافظات. كان هدف التحرك إنهاء المظاهر القبلية في الدولة وتجاهل الحدود القبلية. وفي 16 يونيو/حزيران 1969، فَصَلَ قحطان وزير الداخلية محمد علي هيثم، لكن الأخير بعلاقاته مع القبائل والجيش تحالف مع محمد صالح العولقي، وأعادوا تجميع قوى اليسار التي فرقها الرئيس قحطان الشعبي وتمكنوا من اعتقاله ووضعه رهن الإقامة الجبرية. 

أعادت الحكومة الجديدة في عدن تسمية الدولة إلى جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. كانت الدولة تفتقر إلى الموارد ولم تستطع الحصول على المساعدة، سواءٌ من الدول الغربية أو العربية، ما دفعها للجوء إلى الاتحاد السوفييتي، الذي قدّم المساعدة الاقتصادية والتقنية على أمل إدخال دولة عربية في مجالها السياسي الشيوعي.

وبحلول أوائل السبعينيات أصبح جنوب اليمن دولة ماركسية مُعلنة وبدأت إعادة هيكلة جذرية للاقتصاد والمجتمع على أسسٍ شيوعية. أعلن اليمن الجنوبي تأييده الكامل للمقاومة الفلسطينيّة، وكانت هذه خطوة طبيعية في السياق العربي.

لكنّ الحكومة الجنوبية اتخذت أيضاً خطاً يسارياً راديكالياً، فدعمت ثورة ظفار الشيوعية على حُكم السلطان سعيد بن تيمور لعُمان  وقوّت علاقتها مع الاتحاد السوفييتي، فعلى سبيل المثال قطعت ألمانيا الغربية علاقتها بالدولة لاعترافها بألمانيا الشرقية التابعة للسوفييت، وقطعت الولايات المتحدة علاقتها كذلك في أكتوبر/تشرين الأول عام 1969 وأصدرت القوى الجديدة دستوراً جديداً، وأممت البنوك الأجنبية وشركات التأمين وغيروا اسم الدولة إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تماشياً مع نهج الماركسية اللينينية الذي انتهجوه.

كانت ثورة ظفار حركة معادية لحكومة سلطنة عمان والنفوذ البريطاني فيها. بدأت الثورة في ستينات القرن الماضي في عهد السلطان سعيد بن تيمور (والد السلطان السابق قابوس) وامتدت إلى عام 1975 في عهد ابنه السلطان قابوس وأخمدت عام 1975.

كانت الثورة تحمل طابعاً اشتراكياً شيوعياً ومدعومة من الاتحاد السوفييتي وجمال عبدالناصر عن طريق اليمن الجنوبي الاشتراكي، فكان يتم تعليم وتمويل ثوّار ظفار من الاتحاد السوفييتي عن طريق حليفها المجاور: اليمن الجنوبي.

كما موّلها الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي لاحقاً، إلى جانب بعض الاشتراكيين من الدول العربية. ولكن بعد فترة سلّم أهل المنطقة سلاحهم وأخمدت الثورة، وبقيت المناوشات مع اليمن الجنوبي على الحدود في مناطق ضلكوت وصرفيت. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، اتحد ثوار ظفار مع حكومتهم بقيادة السلطان قابوس بن سعيد وتم تكوين جيش خاص بهم يسمى قوات الفرق الوطنية وهو جيش غير نظامي وعددهم يقارب 10 آلاف جندي.

كما كان شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي المتحالف مع الغرب يراقب الموقف في عمان عن كثب، فقد كان يخشى من انتشار الأفكار الشيوعية في دول الخليج.

لذلك وفي فبراير/شباط عام 1973 أمدّ الشاه السلطان قابوس بدعمٍ عسكري كبير وبحلول عام 1974 كان في سلطنة عُمان نحو 3 آلاف جندي إيراني و16 مقاتلة فيما قام الأسطول الحربي الإيراني بقطع خطوط إمدادات الثوار الساحلية.

بعد أن استقل اليمن عن بريطانيا عام 1967، ارتفعت التوقعات في بعض الأوساط بأنه سيكون هناك شكلٌ من أشكال التوحيد بين شمال وجنوب اليمن، خاصة أن كلا الدولتين ادعت علانية أنها تدعم فكرة الوحدة.

مع ذلك، لم يكن ذلك سهل المنال والسبب الأساسي في ذلك هو الاختلاف الشديد بين التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للنظامين بحلول نهاية الستينيات. في حين أن الشمال بقيادة عبدالرحمن الإرياني اختار أن يبقى اقتصاداً مختلطاً في اقتصاد السوق والحفاظ على العلاقات مع الغرب وكذلك مع المملكة العربية السعودية ، بدأ الجنوب في التحرك بسرعة في اتجاه اشتراكي تحت قيادة الجناح الأكثر راديكالية من جبهة التحرير الوطني، كما أسلفنا.

وأدت الخلافات السياسية إلى حربٍ حدودية قصيرة بين اليمنين الشمالي والجنوبي في عام 1972. وقد ساعد اليمن الجنوبي في دعم وتمويل حركة معارضة واسعة في اليمن الشمالي. كما أقرّت عناصر قيادية باغتيالهم الرئيس اليمني الشمالي أحمد حسين الغشمي.

ومع ذلك، كانت هناك انشقاقات سياسية وأيديولوجية كبيرة داخل الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في اليمن الجنوبي. وساهمت عدّة عوامل في إنهاء حالة الانقسام تلك مثل: اكتشاف النفط والغاز الطبيعي في كلا اليَمَنَين في نفس الوقت تقريباً وفي نفس المنطقة الجغرافية تقريباً (من مأرب إلى شبوة)، وكانت بعضها محل نزاع بينهما.

ثانياً: قرار ميخائيل جورباتشوف بتخلي الاتحاد السوفييتي عن دعمه لحكومات وسياسات عدد من دول أوروبا الشرقية التابعة له، وبعضها كانت مصادر جنوب اليمن الرئيسية للمساعدة والدعم ما سيؤدي طبيعياً لانهيار النظام اليمني الجنوبي المعزول. وكان الخيار العقلاني هو الدخول في مفاوضات مع اليمن الشمالي.

وقرر الحزبان الحاكمان في أواخر نوفمبر 1989 توحيد الدولتين، وتم التنفيذ الفعلي بعد ستة أشهر. وأقرَّ دستور الجمهورية اليمنية في 22 مايو/أيّار 1990، وأعلن دستور الجمهورية الجديد ساري المفعول في ذلك التاريخ.

يمكن لنا عبر هذا الاستعراض التاريخي أن نتساءل: هل محاولات بعض الأطراف الإقليميّة للدفع بانقسام اليمن إلى يمنين جنوبي وشمالي قد تكون صحيحة ومنطقية أم لا؟ إذا قرأنا التاريخ بهدوء فسنعرف أنّ الإجابة بالطبع ستكون: لا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى