ثقافة وادب

منحت المواطنة للذكور الأقوياء وحرمتها على الضعفاء.. هكذا حولت إسبرطة رجالها إلى محاربين وراقصين

عندما نسمع كلمة إسبرطة، يُخيل إلينا صورة الدولة العسكرية الوحشية التي لا تهتم سوى بإنتاج أقوى المحاربين في العالم، وتتبادر إلى الذهن صور المحاربين من فيلم 300 الذين تصدوا للفرس للدفاع عن دولتهم.

اشتهرت إسبرطة بنظامها العسكري بعد أن اضطرت إلى خوض حروب طويلة مع جيرانها، وعلى رأسهم أثينا، التي خاضت معها حرباً طاحنة استمرت لربع قرن عرفت بالحرب البيلوبونيسية.

غير أن أثينا وإسبرطة سرعان ما اتحدتا عام 481 ق.م.، رغم حروبهما، عندما تقدم الفرس باتجاه اليونان.

لا تروي القصة الكاملة لتلك الدولة اليونانية التي حكمت العالم القديم لفترة وجيزة في القرن الخامس قبل الميلاد.

في الواقع، يقول المؤرخ والمؤلف نايجل كينيل إن معرفة كيف كانت “إسبرطة الحقيقية” يكاد يكون مستحيلاً للقراء المعاصرين. كل شيء مكتوب عن إسبرطة (وهناك الكثير من الكتابات) صاغه الغرباء والأعداء، خاصة سكان أثينا. بل ولم ينجُ أي نص كتبه كاتب إسبرطي من فترة أمجاد دولة إسبرطة (بين عامي 550 إلى 350 قبل الميلاد).

يقول كينيل، مؤلف كتاب “Spartans: A New History” لموقع HowStuffWorks: “لدينا الكثير من الأشخاص يخبرونا عن رأيهم في إسبرطة، ولكننا لا نعلم رأي الإسبرطيين أنفسهم. لذا، الصورة التي لدينا مشوهة. ويحب الغرباء عن إسبرطة استخدامها بمثابة ذريعة لإثبات تحيزاتهم الفكرية والفلسفية والسياسية”.

خلقت تلك الصورة المشوهة عن إسبرطة ما أطلق عليه المؤرخون “وهم إسبرطة”، وتسبب هذا الوهج في ظهور الأسطورتين المتعارضتين اللتين تم تناقلهما عبر التاريخ؛

الأولى تشير إلى أن إسبرطة مجتمع مثالي قائم على التناغم والطاعة المجتمعية 

والأخرى تشير إلى أنها مجتمع شمولي بائس. 

يقول كينيل إن كلا النظرتين قد لا تكونان صحيحتين، أو على الأقل لا تكون مصادر موثوقة تدعم صحة إحدى هاتين النظريتين.

لذا، تظل الطريقة الوحيدة للحديث عن إسبرطة هي مقارنتها بأثينا، عدوتها في الحرب البيلوبونيسية والمدينة اليونانية الوحيدة التي كتبت تاريخها بالكامل.

يقول كينيل: “كان هناك مئات المدن اليونانية، ولكن ليس لدينا أي شيء عن أي منها. أثينا هي المدينة الوحيدة التي يمكننا الحصول على سرد تفصيلي متصل لشؤونها الداخلية. وعند مقارنة أثينا بإسبرطة، نجد أنهما مختلفتان. ولكن يظل من الصعب معرفة مدى اختلاف إسبرطة عن أثينا وعما إذا كان ذلك الاختلاف أكثر مما كانت عليه أي مدينة يونانية أخرى غير ديمقراطية”.

كما يقول كينيل، كانت الديمقراطية أكبر الاختلافات بين أثنيا وإسبرطة، حيث في أثينا يمتلك كل مواطن (أو الذكور البالغون الأحرار تحديداً) الحق في التصويت والترشح للمناصب السياسية. 

بينما كانت إسبرطة ملكية، يحكمها ملكان في وقت واحد، فيما يُعرف بـ”الحكم الثنائي”، وتقتصر المواطنة على مجموعة صغيرة من الذكور البالغين المولودين أحراراً والذين يلبون المعايير المطلوبة لنيل شرف المواطنة والجنسية.

يقول كينيل: “لم تكن المواطنة في إسبرطة حقاً، بل كانت امتيازاً لا يمكن للجميع الحصول عليه، بل ويمكن أن تخسره أيضاً بعد نيلك إياه”.

كان المتطلب الأول لنيل المواطنة هو تجاوز اختبار التأهيل البدنية الإلزامي، والمعروف بـ Agoge

كان يُطلق على المتخلفين “الدونيين”، ويحرمون من حق التصويت أو الخدمة في الهيئات الحاكمة المختلفة. 

وكانت الطريقة الثانية لخسارة المواطنة هي الفشل في الانتظام بتقديم إسهامات الطعام والنبيذ الشهرية لقاعات الطعام العامة، حيث يتناول ذكور إسبرطة طعامهم حتى البلوغ.

كان الإسبرطيون، مثل العديد من اليونانيين، ذوي نظرة عسكرية للعالم، ولكن كينيل يعتقد أنه من غير الإنصاف أن نفترض بأن عقلية مجتمع إسبرطة انحصرت في إنتاج الجنود.

يقول كينيل: “كانت الدولة مصممة لإنتاج مواطنين، بالمفهوم اليوناني، وأن تكون محارباً يعني أن تكون مواطناً. كان على كل رجل قادر أن يحارب دفاعاً عن مدينته، والتهرب من التجنيد جريمة كبرى، حتى في أثينا”.

وبالفعل، تعددت أشكال التدريبات العسكرية الشائعة في الدول اليونانية، بما في ذلك أثينا، ولكن إسبرطة جعلت من العسكرية أمراً احترافياً.

في تدريبات التأهيل البدني “Agoge“، كان يتم تعليم وتدريب كل الشباب المولودين أحراراً ليكونوا جنوداً مدى الحياة، إلى جانب كونهم مواطنين مخلصين ومطيعين. 

عاش الصبية في مجموعات، ولكل مجموعة قائد، وكانوا لا يحصلون على كفايتهم من الطعام لتشجيعهم على سرقة الطعام، وكانوا يُضربون بسبب عصيان الأوامر أو إذا ضبطوا متلبسين بالسرقة.

ولكن يصر كينيل على عدم صحة ما يتردد بأن الصبية في إسبرطة كانوا يُسلبون من أسرهم ويجبرون على قضاء بقية حياتهم في ثكنات عسكرية.

يقول كينيل: “كان مجتمع إسبرطة متمحوراً حول العائلة. لا توجد أدلة موثوقة على سلب الصبية من عائلاتهم في سن السابعة ويجبرون على التنشئة داخل ثكنات عسكرية دون أي تواصل مع أسرتهم لبقية حياتهم”. 

لذا، يبدو أن الرواية الأقرب للصحة هي أن التدريبات العسكرية كانت أشبه “بالدوام الجزئي” حالياً.

في تدريبات التأهيل البدني “Agoge“، حصل الصبية والشباب في إسبرطة على قدر محدود من “التعليم”. 

على عكس أثينا، حيث كان التعليم شاملاً يتضمن الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات، في إسبرطة كان التركيز على “الرياضة البدنية وشبه العسكرية”.

اعتقد اليونانيون أن الرياضة البدنية والحرب مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، وكان الشباب في إسبرطة يتدربون ويتنافسون في كل الفعاليات الرياضية اليونانية مثل الركض والمصارعة والملاكمة ورمي الرمح، وربما الرماية أيضاً.

وتشير كتب تاريخية أيضاً إلى مسابقات غريبة وألعاب خطيرة يلعبها شباب إسبرطة لتجيزهم للمعارك. 

ويصف المؤرخ اليوناني كسينوفون لعبة كانت تُلعب في ضريح أرتميس، حيث توضح قطع من الجبن على المذبح ويتنافس فريقان من الصبية على سرقتها، راكضين من ضربات السياط.

يقول كينيل: “كان الشخص الذي يسرق أكبر قدر من الجبن هو الفائز. كان ذلك طقساً غريباً للغاية”.

ويضيف كينيل: “كما اشتهر صبية إسبرطة بالرقص”. كانوا يتدربون على رقصات كورالية متقنة “يجب مشاهدتها” من قبل الكتاب وكبار الزوار الذين يزورون المدينة. 

لكن بالنسبة لإسبرطة، لم يكن الرقص مجرد تعبيرات فنية، بل كان يساعد الجنود في الحفاظ على تناسق خطواتهم أثناء مسيرة الجيش وعند التنسيق للمناورات المتقدمة في ساحة المعركة.

كان المواطنون أصحاب الحقوق المواطنة في إسبرطة جنود مدى الحياة ولائهم للدولة، ويحصلون في مقابل ذلك على حرية من أداء كل الأعمال الأخرى. فمن يقوم بكل هذا العمل؟

للمجتمع الإسبرطي بنية وتنظيم هرمي، تحتل قمته مجموعة صغيرة من الإسبرطيين المولودين أحراراً. وأسفل منهم هناك تأتي فئة الجيرانPerioikoi“، وتعني “من يعيشون بالجوار”. 

كانت مملكة إسبرطة تتألف من عشرات القرى والبلدات الأصغر، وعاش “الجيران” هناك يحترفون بعض الصناعات الماهرة مثل صناعة الدروع والمنسوجات والأعمال البرونزية وأي سلع مخصصة للتصدير.

ويقول كينيل إنه في القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد كانت هناك نهضة ثقافية في إسبرطة على يد الفنانين من فئة “الجيران“.

يقول كينيل: “كان من المعروف أن أفضل عمال العاج في القرن السابع قبل الميلاد في اليونان كان إسبرطياً، كما كانت الأعمال البرونزية الإسبرطية مذهلة حقاً”.

ولكن السؤال الكبير الذي عجز المؤرخين، مثل كينيل، عند إجابته هو لماذا توقف هذا الانفجار الإبداعي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد بالتزامن مع انتشار سمعة إسبرطة بكونها دولة وحشية غير مثقفة وغير متعلمة.

أما أدنى طبقة في المجتمع الإسبرطي فهي فئة العبيدHelots“، والتي كانت تتولى كل الأعمال اليدوية من الزراعة إلى البناء.

يعتقد كينيل أن العديد من “العبيد” كانوا من السكان السابقين لمدينة ميسينا المجاورة، التي غزاها الإسبرطيون واحتلوها في القرن السابع قبل الميلاد.

ويقول كينيل إن حياة “العبيد” في إسبرطة أقرب إلى عبيد العصور الوسطى من عبيد العصور القديمة. كانوا “غير أحرار” ولا يتقاضون أجراً، ولكنهم لم يكونوا مكبلين بالسلاسل أيضاً. 

ولكن مثل أي مجتمع طبقي، كان على من هم في القمة ترسيخ هيمنتهم من خلال إذلال من هم في الطبقات الأدنى. بمعنى آخر، كان “العبيد” يعاملون بمهانة.

مقارنة بأثينا، حظيت المرأة في إسبرطة على حقوق وحريات أكبر. في أثينا، لم تكن تُسمع المرأة ولا يُنظر إليها. حتى إن السياسي الأثيني بريكليس له مقولة شهيرة: “أعظم مجد يمكن أن تحققه المرأة هو أن يتحدث عنها الرجل، سواء للإشادة بها أو انتقادها”.

بينما كانت تعاني النساء في أثينا من القمع “والاضطهاد”، كانت للنساء في إسبرطة الحق في امتلاك أراضيهن وعُرفن في أنحاء اليونان القديمة بالذكاء والشجاعة، فضلاً عن جمالهن الجسدي.

وتعد “جورجو” من أشهر نساء إسبرطة على مر التاريخ، كانت ملكة وزوجة الملك ليونيداس، الذي مات ببسالة في معركة ثيرموبيلاي عندما واجه جيشاً كامل العدة والعتاد بـ 300 محارب إسبرطي. 

عندما كانت “جورجو” فتاة صغيرة، أنقذت مملكة والدها من خلال إقناعه برفض رشوة رسول أجنبي لحوح يستمر في رفع قيمة الرشوة.

ووفقاً لسجلات المؤرخ اليوناني هيرودوت، فقد قالت جورجو لوالدها: “أبي، هذا الرسول سوف يفسدك ويخرب ملكك إذا لم تنتبه وتغادر فوراً”.

وكتبت المؤرخة هيلينا شريدر: “في أي مدينة يونانية أخرى عدا إسبرطة هل كان يُسمح لأي أنثى حضور اجتماع بين رؤساء دول مهما كان عمرها، ناهيك عن أن يُسمع رأيها وتوجيهاتها. كانت نصيحة جورجو ملفتة وبارزة لأنها كانت رائعة.. ما دفع بعض الأشخاص إلى القول بتهكم إنه من الأسهل خداع ثلاثين ألف رجل أثيني عن خداع فتاة إسبرطية واحدة”.

تنافست الفتيات والشابات في إسبرطة أيضاً في الفعاليات الرياضية، حتى أنهن كنّ يرقصن علناً في بعض الأحيان، مما يتسبب في صدمة اليونانيين الآخرين.

يقول كينيل: “اشتهرت فتيات إسبرطة بالجمال والإثارة والفتنة. كنّ رياضيات ممشوقات يركضن بتنانير قصيرة مفتوحة تبرز أفخاذهن. وكان العديد من رجال أثينا يحلمن بالحصول على امرأة إسبرطية”.

يعتقد كينيل أن انتصار إسبرطة في الحرب البيلوبونيسية ربما كان أسوأ ما حدث في تاريخ إسبرطة. أصبح ليساندر، البطل الإسبرطي، أقوى رجل في العالم اليوناني، وأجبر الدول التي احتلها على قسم الولاء له، وليس لإسبرطة.

حاولت إسبرطة غزو بلاد فارس وفشلت، بينما كان غضب المدن اليونانية تحت الحكم الإسبرطي يزداد. وفي فترة وجيزة من عمر التاريخ، انهار العصر الذهبي لإسبرطة سريعاً.

يقول كينيل: “لم يكن لدى إسبرطة أي آلية لإدارة إمبراطورية ضخمة. لم تكن لديهم العقلية اللازمة للتعامل مع ذلك. لم يكونوا مثل الرومان الذين نجحوا في استمالة النخب المحلية في كل البلدان إلى جانبهم. لم يرد الإسبرطيون سوى الولاء والطاعة، ولا يحب الأشخاص أن يُعاملوا بتلك الطريقة”.

سقطت إسبرطة أمام الثيفيين في معركة ليوكترا الحاسمة عام 371 قبل الميلاد، وغزا جيش الثيفيين بعد ذلك الأراضي الإسبرطية وحرروا مملكة ميسينا المأسورة. وبدون تلك الرقعة الزراعية المهمة، لم تتمكن إسبرطة من استعادة مكانتها أبداً.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى