ثقافة وادب

عندما خرج آلاف الصبيان وحدهم من فرنسا لاحتلال القدس.. تعرّف على حملة الأطفال الصليبية

شهد التاريخ الإنساني واحدة من أهم الحقبات المهمة التي ساهمت في تشكيل ملامح المستقبل فيما بعد، تُعرف باسم “الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي”، التي تخللتها حوادث مثيرة، وقصصاً لأبطال مسلمين وشخصيات بارزة، يعرفها أغلب الناس، ولكن هناك حملات  وقصص “غريبة بل ومضحكة”، ربما لا يعرفها الكثيرون.

لا بد من القول أنّ القدس كانت هي محور هذه الأحداث، وهذه الحملات الصليبيّة، فقد خرجت من أجلها حملاتٌ نابعة من أطماعٍ استراتيجية: سياسية و اقتصادية و دينية، بل وقد خرجت حملاتٌ غريبة و”عبثيّة” لا هدف حقيقي منها، قادها شخص جاهل أو مهووس.

في هذا التقرير سنعرّفكم على حملتين من هذه الحملات. وفي تقارير لاحقة سنعرّفكم على بعض التفاصيل الأخرى المحيطة بهذه الحملات الصليبيّة التي استهدفت المشرق الإسلامي.

الحملات الصليبية أو الحروب الصليبية، مصطلحٌ يطلق على مجموعة من الحملات و‌الحروب التي قام بها أوروبيون مسيحيون من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 – 1291)، وكان إطارها العام دينياً، وتحت شعار الصليب من أجل الدفاع عنه، بهدف السيطرة على الأراضي المقدسة كبيت المقدس.

ومن المعروف، أن أول حملة صليبية منظمة على بلاد المشرق العربي، كانت عام 1096، بدعوى ومباركة من البابا أوربان الثاني عام 1095، تحت قيادة الفرسان والأمراء الأوروبيين، وجيشهم المزوّد بالمؤن والسلاح والعتاد، ونجحوا في تحقيق أغلب أهدافهم، ونجحوا في احتلال القدس، مؤسسين مملكة بيت المقدس الصليبية.

لكن الغريب في الأمر، أن هناك حملة “عشوائية”، سبقت تلك الحملة الأولى بأشهر، واعتبرت أنها نواة الحملات الصليبية، التي استجابت وتحمست للدعوات البابوية عرفت باسم “حملة الفقراء الصليبية” تحت قيادة شخص مثير اسمه بطرس الناسك، وهنا بدأت هذه القصة الغريبة من نوعها.

عمل البابا على الاستعانة بكافة السبل، لتأجيج الرأي العام الأوروبي المسيحي وضمان استمرار حماسته حول غزو الأراضي الإسلامية -التي أطلق عليها البابا “الأراضي المقدسة” قاصداً القدس – عن طريق عدة خطوات تعتمد على تأثير الرموز الدينية على المواطنين، كلٌّ في منطقته، وهنا قام بتكليف أحد رهبان مدينة أميان الفرنسية كان يُدعى بطرس الناسك، بالقيام بجولات مكثفة في أوروبا لتحميس الناس لغزو فلسطين.

وقع الاختيار على بطرس الناسك، الذي زار القدس عام 1093، لأنه كان راهباً وخطيباً مؤثراً يمتلك شخصية كاريزمية، يلبس ملابس رثة، ويمشي حافي القدمين، ويركب حماراً أعرج، وبالفعل أخذ أمر البابا على عاتقيه.

 نجح الناسك في إقناع الكثير من الناس الذين آمنوا أن لهم فرصة في الحياة الكريمة في فلسطين، بعيداً عن أوروبا، يذكر المؤرخين أنه استطاع التأثير الآلاف، واستطاع في غضون شهور قليلة أن يضم إليه 15 ألف رجل غير النساء والأطفال، معظمهم من الفقراء، ومن المجرمين الخارجين على القانون، وقليل من الفرسان و أمراء الإقطاعيات الصغار.

عُرفت المجموعة التي شكلها بطرس الناسك بـ “حملة الرِّعاع” أو “حملة العامّة”؛ وذلك لأنها لم تكن لها صبغة الجيش أو حتى الميليشيا، إنما كانت عبارة عن مجموعاتٍ ضخمة من العوام والفقراء غير المنتظمين.

واصل الناسك حملته، حتى ظهر شخصٌ محوريّ في قصته، اسمه والتر أفوير الملقب بالـمُفلس من بلدية بواسي الفرنسية، وقد اختلف المؤرخون في كونه راهباً أم نبيلاً لمقاطعته، ولكنه كان ملازماً للناسك في حملته، واستطاع أن يجمع عددًا آخر من المتطوعين.

بطبيعة الحال، كان البابا يتابع خطته لتنفيذ الحملة في الموعد الذي حدده، لكنّ الناسك وجماعته لم يستطيعوا الانتظار، وبادروا بأنفسهم بانطلاق الحملة بشكلٍ عشوائيّ، وتوجهوا إلى ألمانيا حيث انضم إليهم أعدادٌ أخرى، ثم توجهوا شرقاً تجاه القسطنطينية، ويقول المؤرخون إنهم لم يتركوا مكاناً دخلوه إلا سلبوا ونهبوا منه!

فَقَدَ الناسك السيطرة على أتباعه، وطلب العون من الإمبراطور البيزنطي إلكسس كومين في القسطنطينية، الذي قرر أن يسهِّل عليهم الدخول إلى آسيا الصغرى، وهناك التقوا بالمسلمين السلاجقة الذين أفنوا أغلب جيش الفقراء، وقُتل قائدهم والتر المفلس، وأُصيب الناسك ولكنه استطاع الهرب والنجاة بروحه بعد فشل حملته.

يحكي التاريخ أن بطرس الناسك هرب من البابا نفسه، ولكن تم القبض عليه وبعدها تم الصفح عنه، ليشارك في الحملة الصليبية المنظّمة فقد كان خطيباً مفوهاً. وبالفعل وصل إلى القدس عام 1099 بعد احتلالها، وألقى خطبة على جبل الزيتون، ثم عاد إلى فرنسا وأسس ديراً أسماه دير أوغسطين

هل تعتقد أنّ هذا الحدث هو الأكثر إثارةً حتى الآن؟ لنتعرّف الآن على الطفل الصغير الذي قاد حملةً صليبيّة أخرى، اسمها “حملة الأطفال”!

بعد مرور 112 سنة على حملة بطرس الناسك الغريبة تلك، ظهرت حملةٌ عجيبة وأكثر غرابة، وهي التي عرفت باسم “صليبية الأطفال”، يقودها طفلٌ فعلياً، خرج مع أتباعه الأطفال أيضاً لشنّ حملةٍ على بيت المقدس، لفتحها وتحويل سكانها المسلمين إلى مسيحين.

كانت أوروبا في تلك الفترة يعمُّها جوٌّ من الإحباط والشعور بالخيبة، بعدما فشلت الحملة الصليبية الرابعة عام 1204، ووصف بعض المؤرخين حملات الأطفال بأنها حركة جاءت تعبيراً عن التديُّن العاطفي الذي مَلَكَ عقول الأوروبين في تلك الأثناء، كما كانت بمثابة ردة الفعل الشعبية لفشل البابوية وحكام أوروبا في أخذ مدينة القدس، مرة أخرى بعدما حررها صلاح الدين.

بدأت القصة عام 1212، عندما توجَّه طفلٌ فرنسيّ عمره 12 عاماً من مدينة كلوي، واسمه ستيفان، ويُلقب بالراعي، لأنه كان راعي أغنام، إلى بلاط الملك الفرنسي فيليب الثاني، ومعه خطابٌ له يقول إن المسيح بشخصه تجلَّى له في رؤيةٍ إلهية، واختاره لقيادة حملة من الأطفال الأبرياء الذين سوف يستردون القدس بعد فشل قيادتهم.

وبطبيعة الحال، لم يتعامل الملك معه بجدية، وطلب منه العودة لرعاية أغنامه، إلا أن ستيفان، كان متأثراً بقصة بطرس الناسك، وحاول تقليده في إصراره على الخروج ومباشرة الدعوة باسم المسيح؛ لعبور البحر، مبشراً أن البحر سينشق لهم كما انشق لنبي الله موسى، وقد لاقت دعوته قبولاً!

اختلفت المصادر التاريخية في تقدير عدد الأتباع الذين خرجوا وراء الطفل، ما بين 10-30 ألفاً، معظمهم من الأطفال وصغار القساوسة، الذين خرجوا في رحلةٍ مقدَّسة لـ”تحرير بيت المقدس” من أيدي المسلمين، وسار موكبهم حتى مدينة مارسيليا في انتظار شق البحر المتوسط، وحدوث معجزة العبور، التي لن تحدث أبداً!

لقي هؤلاء الأطفال مصيراً مجهولاً لم يُعرف حتّى يومنا هذا، وفق ما ذكره المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم في كتابه “ماهية الحروب الصليبية“. وقد تناول المؤرخون الكثير من الحكايات لما حدث مع هؤلاء الأطفال.

هناك روايات تقول إن عدداً كبيراً منهم لقوا حتفهم بسبب نقص الغذاء والأجواء المتغيرة في مدينة مارسيليا الفرنسية، وروايات تقول إن كبار تجار مارسيليا عرضوا على الأطفال المساعدة بنقلهم لمدينة القدس عبر سفنهم، ثم انقطعت أخبارهم تماماً.

وفي رواية أخرى تقول إن بعض الأطفال ماتوا بالغرق، ومن تبقى منهم باعهم التجار عبيداً في أسواق النخاسة في شمال إفريقيا، وكثرت الروايات حول مصيرهم المجهول، ولكنّ الكثير منها اتفقت على أنهم بيعوا عبيداً. في النهاية يبدو أنّ التجار الأوروبيين استغلوا حملة الأطفال تلك ليزيدوا من أرباحهم ببيعهم عبيداً.

لم تنتهِ ظاهرة صليبية الأطفال عند ستيفان الراعي ومغامرته الغريبة. بل ظهرت قصة أخرى ممتدة في نفس العام 1212، وبعد أسابيع قليلة من رحيل ستيفان؛ ظهر طفلٌ ألمانيّ في العاشرة من عمره، اسمه نيقولا من إحدى قرى إقليم الراين، تصور أنه بإمكانه قيادة جيش لتحرير بيت المقدس ومساندة ستيفان، الذي ترعاه يد الرب، وأنه نجح في الوصول إلى القدس.

انطلق موكب نيقولا من مدينة كولونيا شمال الراين غرب ألمانيا، وسار عبر جبال الألب في إيطاليا، وهناك انقسموا إلى قسمين؛ قسم ركب السفن من مدينة بيزا الإيطالية القريبة من المتوسط، والقسم الآخر وصل إلى ميناء برينديزي التي تطل على البحر الأدرياتيكي، فرع من المتوسط.

وعلى أرض إيطاليا تخلفت أعداد كبيرة من أولئك الأطفال؛ بسبب الجوع والبرد أو الخوف من ركوب البحر، أما الذين سافروا بالفعل فإن أحداً لم يعرف أبداً ماذا جرى لهم على وجه اليقين، وعم الغموض التاريخي على مصيرهم، تماماً كما حدث مع حملة ستيفان الراعي الغريبة. ويبدو أنّ المستفيدين الأساسيين كانوا التجّار الأوروبيين أيضاً.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى