آخر الأخباركتاب وادباء

الطلاينة في حي البياصة

من ذاكرة اسكندرية

من روائع الأديب الكاتب 

المهندس/ محمود صقر

كانت الجالية الإيطالية في اسكندرية الأكثر عددا بعد الجالية اليونانية، وكانوا منتشرين في أحياء اسكندرية القديمة، ويفضلون السكنى بجوار أعمالهم، ومن أماكن تواجدهم بكثرة المنطقة التي تقع بها مدرستي الإعدادية والثانوية بشارع الخديوي (شريف باشا)، وكان الاسم الرسمي لمدرستي “مدرسة رأس التين” والاسم المشهورة به على ألسنة الناس “المدرسة الطلياني”، وكانت في القديم مدرسة للتعليم التجاري باسم “الملكية الإيطالية”، وبجوارها “معهد دونبسكو” الإيطالي للتعليم الحرفي والصناعي، وكلاهما كان لخدمة أبناء الجالية الإيطالية، وقريب من المدرسة في حزام حي كرموز توجد منطقة البياصة، وهذا الاسم مشتق من الاسم الإيطالي للساحات والميادين Piazza، ويوجد في الإسكندرية أكثر من مكان يشتهر بنفس اللفظ لوجود سابق للإيطاليين بنفس المكان مثل: “بياصة عبدالمقصود” في منطقة الحضرة القبلية، وكانت جراجا وورشة صيانة العربيات الكارو، وتم بناء برج سكني مكانها، و”بياصة كابو”، وفي حي العطارين “بياصة الشوام” .. وهكذا.

وفي الحضرة كان المقر الرئيسي لأول شركة لصناعة السينما في مصر، كانت شركة إيطالية تأسست عام 1917، وكان مقرها بالتحديد 3 شارع السراي بالحضرة، وبحسب ما ورد في مذكرات رائد صناعة السينما المصرية المخرج “محمد كريم” الذي عمل ممثلا “كومبارسا” في أفلام الشركة، فإن كل العاملين بالشركة كانوا من الإيطاليين بمن فيهم السعاة وعمال الديكور وصولا للممثلين والطاقم الفني، وقد تواجدت في الإسكندرية بحثا عن الأمان والاستقرار الذي فقدته في إيطاليا بسبب الحرب.

الجالية الإيطالية بدأ يتناقص عددها مبكرا في النصف الأول من القرن العشرين، بسبب غزو إيطاليا لمصر في الحرب العالمية الثانية، وكذلك مع نمو الشعور القومي في إيطاليا وظهور الفاشية، وانخراط أبناء الجالية المقيمين في مصر في الأحزاب الفاشية وأقامتهم فروعا لها في مصر، والمستشفى الإيطالي في الحضرة أطلقوا عليه في البداية “مستشفى موسوليني”، وبرغم الرحيل المبكر للإيطاليين فإن تأثيرهم ظل عميقا في الشكل العام للمدينة بما وضعوه من لمسات معمارية على شوارعها ومعالمها البارزة، وللدكتور “محمد عوض” دراسة وافية عن التأثير الإيطالي على التراث الثقافي والمعماري في الإسكندرية في كتاب بعنوان “إيطاليا في الإسكندرية”، نال عنه وسام نجمة التضامن الإيطالي برتبة فارس عام 2011 من رئيس إيطاليا.

نعود إلى حي “البياصة” المجاور لمدرستي الطلياني (رأس التين)، وإذا ذُكِرَت “البياصة” دون تعريف فهي بياصة باب سدرة بحي كرموز، وقد تعرفت على حي “البياصة” أثناء دراستي في المرحلة الإعدادية منتصف السبعينيات من خلال زميلي “السيد سوسو”، ومن خلاله تعرفت على عالم آخر، وهو عالم فِرَق الأفراح الذي نسميه باللغة الدارجة “العوالِم”، وبحكم تربيتي المحافظة تعرفت على هذا العالم مِن بعيد، وكانت أحاديث “سوسو” هي النافذة التي أطللتُ من خلالها على هذا العالم السحري؛ حيث كان “سوسو” -اسم الشهرة- منذ طفولته يغني في فِرَق العوالِم لإحياء الأفراح، وحي “البياصة” يعتبر من الأحياء المركزية التي كانت تتركز فيها فِرَق إحياء الأفراح، وهناك مراكز أخرى لتلك الفرق منتشرة في الأحياء القديمة؛ ففي حي بحري فرقة “حمام العطار”، وفي الحضرة متعهد الأفراح “سعيد الحضراوي”، وفي حي اللبان فرقة “الحاجة سنية محمد”، -هكذا بنفس اللفظ “الحاجة”!-، وقريبا من بيتنا كان محل سكن فرقة “أولاد دياب” وهي عبارة عن أب وبناته كانوا قادمين من النوبة، ويسكنون في نفس البيت الذي توجد به فِراشة “الحاج حبشي حموده” في شارع “السبع بنات” قريبا من تقاطعه مع شارع “اسحق النديم”، وكانت إحدى بناته ضابطة إيقاع واسمها “البيضة” وكانت معروفة بغناء أغاني أم كلثوم، وتزوجت من “فوزي شكوكو” نقيب الموسيقيين بالإسكندرية وقتها.

دار الزمن دورته، وبعد سنوات من انقطاع أخبار “السيد سوسو”، وجدت صورته على شرائط الكاسيت وبجوارها اسم جديد اختاره لنفسه: “سامر فخر الدين”، وبعدها بسنوات علمت بوفاته بعد تناوله لجرعة مخدرات زائدة وعمره اثنان وعشرون عاما.
وظروف “السيد سوسو” من حيث النشأة والوفاة تشابه ظروف “عماد عبد الحليم” الذي نشأ نفس النشأة في الإسكندرية مغنيا وهو طفل في فرق الأفراح بصحبة أخيه الملحن “محمد علي سليمان” والد المطربة المعروفة “أنغام”، وبعد أن تبناه “عبد الحليم حافظ” وبعد أن قطع شوطا فنيا، وجدوه ميتا في الشارع على الرصيف المواجه لبيته متأثرا بجرعة مخدرات زائدة عام 1995.
ومن المفارقات أنه في نفس ظروف النشأة، وفي نفس المكان، وفي نفس السن تقريبا ظهر “سعيد الأرتيست” أشهر عازف طبلة في مصر، الذي نجح في أن يضع بصمته في التفرد في مهنته والوصول بها للعالمية.
ولله في خلقه شئون.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى