تقارير وملفات إضافية

هل تسببت سياسة الانعزال «الترامبية» في تأجيج الاضطرابات في الشرق الأوسط؟

مع نهاية العام الثالث من رئاسة دونالد ترامب، بات واضحاً أن التغيير الدرامي في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يدفع بالمنطقة إلى شفا الهاوية، فماذا يمكن أن يفعله البيت الأبيض في العام الجديد كي ينقذ ما يمكن إنقاذه؟

صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: «سياسة الانعزال الأمريكية تترك الشرق الأوسط على شفا الهاوية بينما يبزغ فجر العقد الجديد»، جاء أشبه بحصاد لسياسة ترامب في المنطقة في العام الثالث لرئاسته.

على امتداد تاريخ الشرق الأوسط الحديث، لطالما كانت الولايات المتحدة واحداً من أصحاب المصالح البارزين، وكانت تؤكِّد على هيمنتها لتحمي مصالحها وحلفاءها بالمنطقة. كانت هذه القاعدة راسخةً في خضم صعود الأيديولوجيات أو تقهقرها، وهي ترسِّخ جذور ممالك الخليج وإسرائيل والدول البوليسية القومية العربية، واندلاع الحرب وحركات التمرّد اندلاعاً دورياً.

ولكن هذا قد انتهى أمره خلال السنة الثالثة من ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذ إن هذا هو الوقت الذي بدأ فيه الرئيس الساذج الداعي لسياسة الانعزال النظر إلى المصالح الإقليمية من منظور أضيق كثيراً، وهو ما أسفر عن تأثير عميق، وسيشهد عام 2020 استمرار محاولات الأصدقاء التقليديين للولايات المتحدة ضبط مقاليد أمورهم بمنأى عن البلد ذي النفوذ الذي لطالما أذعنوا له وكانت أجندته مفهومة بالنسبة لهم بشكلٍ أو بآخر.

ثمّة حلفاء على غرار المملكة العربية السعودية قد ابتاعوا السلاح والرعاية من واشنطن ليستعينوا بهما حين يتطلّب الأمر يوماً ما، وقد جاءت هذه اللحظة بالنسبة للرياض في سبتمبر/أيلول، حينما دمّر هجوم شنّته إيران، بطائرة بدون طيار وصاروخ، نصف طاقة إنتاج النفط في البلاد، في أعقاب صيفٍ عامرٍ باعتراض إيران لسفن الشحن في الخليج.

وظنّ القادة السعوديون أن الولايات المتحدة ستطرح عقد اتفاق دفاعي غير رسمي وتردّ الهجوم نيابة عنهم، لكن ترامب قد تراجع -بعدما تحدَّته إيران- وظلَّت المملكة العربية السعودية في موقفها المُحرِج بظهرٍ مكشوف. 

ولم يستغرق الرد سوى أيامٍ معدودات، إذ سعت المملكة العربية السعودية إلى فضّ اشتباكها مع إيران عبر العراق حليف طهران. ومنذ ذلك الحين، صار كلا الجانبين -الخاضعين لاستقطاب اليمن وسوريا والمنافسات القديمة بالمنطقة- متقاربين.

وفي شتّى أنحاء المنطقة، هناك شعور واضح بأن الحارس قد تغير، كما قال أحد القادة العراقيين:»إذا أراد الأمريكيون أن يجعلوا الأمر برمّته كصفقة، حسناً إذاً؛ فلسوف نشتري أسلحتهم ونُروّج لأفكارهم، ونحن لم نحبّهم قطّ على أية حال».

بعد أقل من شهر، اتخذ ترامب قراراً مفاجئاً بالتخلي عن القوات الكردية، التي التحمت بها القوات الأمريكية في الحرب ضد داعش، وقد جاءت هذه الخطوة بالتزامن مع استعداد تركيا لشن هجوم في شمال سوريا الذي يهيمن عليه الأكراد، وهو ما كان بمثابة التضحية بالحليف الذي حافظ على أمن أوروبا والولايات المتحدة على مدار خمس سنوات عصيبة، على جبهة عدو لم يكن بالإمكان مجابهته في حرب تقليدية.

لقد أدهش القرار الخاص بأمر السعودية أصدقاء واشنطن، لكن خيانة الأكراد صدمتهم حقاً، وحتى إسرائيل، وهي حليفة للأكراد ومستفيدة من وجود ترامب في المنطقة، قد أصابها الارتباك؛ فإذا كان بمقدور الرئيس الأمريكي فعل شيء من هذا القبيل إثر زوبعة عابرة، فهل يستطيع تبديد إحدى ركائز السياسة الخارجية الأمريكية التي حمل شعلتها جميع زعماء الولايات المتحدة على مرّ العقود؟».

الجواب هو: لا، فإن القيام بذلك سيغضب قاعدته المحلية ويقتل آماله في تقلّد زمام السلطة لفترة رئاسة ثانية. ومع ذلك، فإن القرارين تركا إسرائيل وغيرها من الحلفاء أكثر هشاشة مما كانوا يظنّونه، لا سيّما تحت مظلّة زعيم كان يتشدّق بقوة العلاقات الثنائية طيلة عامه الأوّل في السلطة. 

وبينما ينأى ترامب عن الساحة مقتنعاً بأن هناك القليل الذي يمكن كسبه من خلال المشاركة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة الأوسع وأن نهج أسلافه كان خطأ، سرعان ما امتلأ الفراغ الذي خلقه رحيل الولايات المتحدة؛ فإن الأعلام الروسية ترفرف في التوّ واللحظة فوق القواعد العسكرية الأمريكية التي جرت عمليات إخلائها على عجل في سوريا، وأجرى فلاديمير بوتين زيارة رسمية إلى الرياض، ويطوف مساعدوه بيروت وبغداد وأربيل، بعد أن أكّدوا بالفعل على النفوذ الروسي في دمشق.

في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، تحدث رجل أعمال سوري يتمتع بعلاقات ذات ثقلٍ مع الكرملين عن تغير المزاج في الشرق الأوسط، إذ قال: «كل أصدقائي السعوديين يقولون لي: تلك الاتصالات والخطط التي لطالما حدّثتنا عنها لـ 16 عاماً، قد آن أوانها جميعاً.. إنكم أيها الروس أنتم المستقبل، فلقد غادر الأمريكيون».

وأضعف ذلك أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة أيضاً على صعيد قيمتهم الفعلية؛ فإن الدولة الوحيدة التي ظل تركيز الولايات المتحدة ينصبّ عليها في الإقليم، وهي إيران، قد استفاقت غير آبهة من الكبوات التي وضعها ترامب في طريقها، وكان مصطلح «سياسة الضغط الأقصى» هو المستخدم لوصف نظام العقوبات الذي أعاد ترامب فرضه وتشديد وطأته على إيران، وكانت تلك السياسة تهدف إلى شل اقتصادها وإجبارها على إعادة التفاوض. ورغم نجاح هذا الضغط، فإن المفارقة تكمن في أنه بعد تأجيج الأوضاع وإثارة الغضب، صار لدى إيران الآن مجال أكبر للمناورة على المستوى الإقليمي.

وكانت نتيجة فشل الولايات المتحدة في الرد على الهجوم على منشآت النفط السعودية تكمن في مرور الهجوم الحربي الذي وقع بحقّ أحد حلفاء الولايات المُتحدة مرور الكرام، وأن البلد الحليف لأمريكا صار الآن على استعداد للتحدث مع الدولة التي كانت واشنطن مُصرّة على إسقاطها أرضاً.

لكن في هذه الأثناء، تواجه إيران، وللمرة الأولى، تهديداً ذا ثلاثة جوانب يمس وصولها ونفوذها؛ أوّلها أن المتظاهرين يقفون في وجه الحكومة بالداخل، وهو الحال أيضاً في العراق ولبنان، وثانيها هو أن انهيار الأمن صار أمراً حقيقياً ومتنامياً، أما الثالث فإنه عدم وضوح مسألة ما إذا كان ترامب مُستعداً لمواجهة عواقب الأفعال التي ساعدت الولايات المتحدة في تأجيجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى