آخر الأخبارتقارير وملفات

أزمات الدولة القطرية في حرب غزة

من روائع الدكتور حسن سلمان


بادية شكاط
ممثلة الجزائر في منظمة اعلاميون حول العالم
غضو مؤسس

تقرير إعداد

دكتور حسن سلمان

عضو رابطة علماء المسلمين/ رابطة علماء إرتريا
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي صلى الله عليه وسلم
‏نائب رئيس اللجنة العليا لأسبوع القدس العالمي

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون والصلاة والسلام على رسول الله الأمين ناصر الحق بالحق والهادي إلى الصراط المستقيم الذي جاهد في الله حق جهاده فأقام دولة الحق والعدل وصدق فيه وفي أصحابه قوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)
فالإسلام منذ بداية رسالته حدد غايته الكلية المتمثلة في إقامة القسط في التصورات والعقائد والمفاهيم والتشريعات والمناهج وكافة الجوانب العملية في الحياة،كما حدد الرسالة وبيناتها الموصلة للغاية بالميزان القويم،ثم وضح حاجة الرسالة ودعوتها وولايتها العامة والخاصة إلى القوة في إقامتها وجودا،وحمايتها من العدم والتلاشي فالإسلام دعوة الحق المحمية بحق القوة،وشواهد ذلك في قوله تعالى( أية الحديد) وكذلك كافة نصوص الوحي الآمرة بالجهاد والقتال،ومجابهة الطغيان والعدوان، ومحاربة الفساد بأدوات تناسب طبيعته،وليس بالخطب الجوفاء والبيانات المنمقة بلا سند من القوة المادية،التي تفرضه واقعا ملموسا،فالإسلام يجمع بين المثالية في تصوراته والواقعية في أدواته.
ومنذ قرن من الزمان والأمة المسلمة تعاني من ضياع وتشتت في الهوية وفقدان للسيادة،وتمزق في الكيان الجامع لها،وغياب للاستقرار والتنمية،وسيطرة للأعداء على كثير من البلدان بصورة مباشرة أوغير مباشرة،وكل ذلك تحت ما يسمى بالدولة القطرية الحديثة،وفي حقيقتها هي كيان ضعيف تابع لا قدرة له على حماية شعبه ومصالحه إلا بالاستناد إلى القوى الخارجية المتنفذة في العالم،ونتناول باختصار في مقالنا هذا نشأة الدولة القطرية وأزماتها وتجلياتها في واقعنا العربي والإسلامي،وكيف أنها السبب الرئيسي ان لم يكن الأول في العجز العام للأمة أمام أحداث غزة الدموية،وبأنه من الأخطاء القاتلة الرهان على دول بلا هوية ولا رؤية ولا مشروع سياسي،ولا انتماء للأمة ولا مؤسسات قادرة على مواجهة التحديات.
نشأة الدول القطرية:
تجربة إنهاء الاستعمار ونهايات الحربين العالميتين أحدثت تحولا في بنية النظام الدولي،حيث حدث انتقال من عالم الإمبراطوريات إلى عالم القوميات القطرية وظهور الدولة الحديثة بحدودها الجغرافية،ونظامها السياسي ودستورها،ولذا فنشأة الدول بعد التحرر لم تكن طبيعية غالبا،حيث كانت تعبيرا عن واقع الاحتلال وسيطرته دون مراعاة لطبيعة التباينات المجتمعية لكل قطر،خلافا لطبيعة النشأة في الدولة الأوروبية،وبالتالي فقد صاحب نشأة الدولة القطرية الحديثة جملة من التحديات والأزمات نذكرها فيما يلي:

1/ أزمة السيادة:
السيادة هي (الحق الكامل للهيئة الحاكمة وسلطتها على نفسها دون أي تدخل من جهات أو هيئات خارجية) وتشكل السيادة أحد الأركان الجوهرية التي تبنى عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي والقانوني،كما أنها تعد من المحددات السياسية والقانونية المركزية لمفهوم الدولة الوطنية،ومن خلالها يتجسد واقعيا الوجود القانوني والسياسي للدولة كعضو يتمتع بالواجبات والحقوق الدولية،كما يتجسد أيضا بموجبها الاستقلال الوطني للدولة،وكذا مساواتها مع الوحدات والكيانات السياسية الأخرى المشكلة للنظام الدولي.
ونعني بأزمة السيادة في كثير من الأقطار ،تلك السيادة المنقوصة من خلال التدخلات الخارجية وتحكمها بأدوات مختلفة في السلطات القائمة،وقدرتها على خلخلة تلك البلدان،وصناعة النخبة الحاكمة والتحكم فيها،ونلاحظ ذلك جليا في اجتماعات مؤسساتنا العربية والإسلامية وعجزها التام عن الاتفاق على شيء يخدم الأمة وقضاياها،بل نجدها مقسمة بحسب الولاءات،وقرارها تابع لغيرها،بل نرى أن كثير من بلداننا معقلا للقواعد العسكرية التي تنطلق لتدمير الشعوب والبلدان المسلمة ولا شك أن هذه القواعد جاهزة كذلك لتدمير الشعب الذي يثور على حكومته بقصد التغيير والإصلاح،إذن فنحن عمليا شعوب تحت الاحتلال والضبط والسيطرة الخارجية،وبأدوات تبدو في ظاهرها قانونية ومحمية بالنظام الدولي ومؤسساته القمعية،فأنظمتنا تستمد سلطتها من الخارج،فتملك بذلك أدوات القمع والقهر ولكنها لا تملك السيادة.
وتتفرع عن أزمة السيادة مسألة العجز عن الدفاع عن أي شعب مسلم يتعرض لعدوان خارجي،حيث يكون قدر هذا الشعب مواجهة العالم المهيمن لوحده،والتزام بقية أطرف الأمة الحياد أو التواطؤ كما حصل مع العراق عند العدوان والاحتلال الأمريكي عليه،وكذلك الشعب السوري وهو يواجه النظام الطائفي المتساند مع الصفوية الطائفية،والقيصرية الروسية،وتشريده عن أرضه ووطنه وقتله وملأ السجون بأحراره،ثم كذلك الشعب الفلسطيني في حروبه الطويلة والمدمرة ومنها حرب غزة الأخيرة،حيث يواجه وحده البوارج الصليبية والعدوان الصهيوني في حالة صمت وعجز تام لأجل الدفاع عنه من قبل مكونات الأمة المختلفة.

2/أزمة الهوية:
الهوية مصطلح يستخدم لوصف الشخص أو الكيان وتعبيره عن شخصيته وعلاقته مع الآخرين مثل (الهوية الدينية أو الوطنية أو العرقية…) والمقصود هنا الهوية الوطنية للشعوب بعد الاستقلال،ما هي طبيعتها؟ وهل المحدد لها هو الجغرافيا التي قامت عليها الدولة الحديثة دون أي مراعاة لطبيعة التجانس الديني والقومي واللغوي؟ أم أن الهوية هي هوية المحتل الذي ترك موروثا من الثقافة والفكر والمنظومات الإدارية والتعليمية والسياسية تحت مسمى الحداثة؟
لقد نشأ نوع من الصراعات التي نسميها بصراع الهوية،سواء بين المكونات التقليدية وتعددها الديني والقومي،أو بينها وبين النخب الحديثة التي تعبرعن ثقافة المحتل وهويته،وبالتالي نشأت صراعات هوياتية أعاقت وتعيق التقدم والنهضة وأنهكت الدول الحديثة،وبددت مواردها في حروب كثيرة،وقد كانت الأمة المسلمة قبل نشأة الدولة القطرية الحديثة من خلال المحتل الغربي وما عرف باتفاقيات ساكس/بيكو في غالبها تعيش ضمن إطار وحدوي جامع باسم الخلافة،يحدد هويتها الواحدة وهي الإسلام،فكان الإسلام يحمي مصالحها الكبرى ويدافع عنها وعن مقدساتها،ولم تكن الأمة تعاني أزمة هوية في تشريعها وتعليمها وولائها للدين والأمة،بل كان المسلم يتجول في بلاد الإسلام شرقا وغربا دون حواجز مصطنعة وكانت الكفاءات تجوب الأقطار باعتبار الأمة هوية واحدة،وكيانا سياسيا،وثقافة جامعة،فمنذ نشأة الدولة القطرية وهي تعاني أزمة هوية كبيرة في دولها وبين شعوبها،كما تعاني تمزقا هائلا في طبيعة ولائها ووجهتها التي كان الولاء فيها لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين حيثما كانوا،دونما عصبية قطرية ضيقة،وتقوم على الولاء والبراء والنصرة والتراحم،وما كان خارج هذه الدائرة القطرية فلا شأن للأنظمة وشعوبها إلا في نطاق توظيفه وتسيسه لخدمة الداخل القطري.
وخلاصة القول فإنه من الصعب الحديث عن تحقيق سيادة الأمة المسلمة واستخلافها وعمرانها وعبوديتها لله رب العالمين حتى يكون لحياتها معنى ولوجودها مغزى إلا من خلال وحدتها الجامعة،وتطوير آليات التنسيق والتكامل بينها،وبناء مؤسسات الأمة القادرة على تحقيق مصالحها والدفاع عن مهدداتها الوجودية،وإعلان صك الوفاة لدويلات الطوائف القومية والوطنية،والإعلان الرسمي عن انتهاء عصرها ونهاية صلاحيتها،وحاجة الأمة إلى استعادة مشروع الخلافة الإسلامية لمواجهة تداعي الحملات الصليبية التي اجتاحت المنطقة مهما كانت الصعوبات والتحديات فالحل يكمن في ذلك،أما التوجس والخوف من النظام العالمي ورفضه لفكرة وحدة الأمة وخلافتها فليس مسوغا للهروب عما يعالج مشكلاتنا الراهنة،وخاصة في ظل تهاوي وتفكك المنظمات الدولية والإقليمية بسبب الحروب الجارية في العديد من المناطق والبلدان،بما فيها قطاع غزة،والذي كشف للعالم كم كانت مأساته عندما أدرك أن ما يسمى بالنظام الدولي ما هو إلا هيمنة الأقوياء على الضعفاء،وممارسة الخداع الاستراتيجي لعقود من الزمان،وظهور لحظة الحقيقة المرة بفشل العالم كله في مواجهة الغطرسة الصهيوصليبية،وفي فرض القانون الدولي المزعوم لوقف الحرب ونزيفها الجاري من أشلاء أطفال ونساء غزة،بل وغياب الإرادة حتى لفتح المعبر الذي يقع تحت السيادة المصرية نظريا !!!.

3/أزمة الاستقرار السياسي:
يعتبر الاستقرار السياسي من أهم العوامل لتحقيق النهضة والتنمية ولن يكون ذلك إلا بالمشاركة السياسية التي تحقق العدالة في السلطة والثروة،وقد بذلت حركات التحرر بعد الاستقلال جهودا كبيرة لصنع الاستقرار السياسي،وقد تحقق ذلك في بعض الدول ولكن بقيت الكثير من الدول تعاني من عدم الاستقرار بسبب الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية،وبالتالي فأزمة الاستقرار السياسي من الأزمات التي صاحبت نشأة الدولة القطرية،وكان ذلك في خدمة القوى الأجنبية التي تعمل على سرقة ونهب الموارد في ظل حكومات عاجزة عن تحقيق الاستقرار لشعوبها وبلدانها،وفاقدة للشرعية في بقائها،لأن غالب تلك الحكومات جاء بالانقلابات العسكرية المدعومة من الخارج أو اكتسب سلطته ابتداء من المحتل،كما أن القوى الخارجية تعمل جاهدة على صناعة التناقضات والحرص على عدم الاستقرار لتكون الأنظمة دوما في حاجة الخارج لتثبيت أركان سلطانها،وإذا لم تستجب لمطالب الخارج فإن البديل يكون معدا وجاهزا وحريصا على أن يتسلم السلطة كذلك من الخارج،وهكذا تستمر حالة غياب الاستقرار ودوامة فقدان السيادة وضياع الهوية.
وبطبيعة الحال فالاستقرار السياسي مرهون بالتحرر من الاستبداد الداخلي والنفوذ الخارجي والتعبير عن هوية الأمة الثقافية والدينية وبناء نظامها السياسي المعبر عنها،بعيداعن استيراد الأنظمة الوافدة مهما كانت صلاحيتها لموطن النشأة،وجمال مظهرها الخادع أحيانا،كما هو الحال مع النظام الديموقراطي الذي غالبا ما يكون أداة للتحكم في ظل غياب سيادة الأمة وفاعليتها العالمية،فحكم الشعب فرع عن سيادته،والتحرر من الاستبداد يسبقه ويتقدم عليه التحرر من الاحتلال،وهنا نطرح سؤالا طرحه المفكر السياسي ديفيد رانسمان في كتابه “كيف تنتهي الديمقراطية” مفاده: (إذا كان كل ما يحمي الديمقراطية ويحافظ عليها في الدول التي صارت راسخة فيها،هو أن البدائل عنها أسوأ منها،فماذا يحدث عندما يصل قطاع معتبر من المواطنين في هذا البلد الديمقراطي أو ذاك إلى اقتناع بأن من هذه البدائل ما قد يكون أفضل منها؟) وهو السؤال الحري بأن تطرحه دولنا وشعوبنا الإسلامية،فهل هناك بالفعل بدائل أفضل من الديمقراطية؟
والإجابة بالطبع هناك ما هو أفضل من الديموقراطية عندما تثق الأمة فيما لديها من كتاب منزل وتجربة حكمت لقرون من الزمان،يوم أن كان العالم في ظلام دامس ويعيش في قرونه المظلمة فكان الإسلام في أوج حضارته،وكما يقال فالحدوث دليل الإمكان،إذن يمكن للأمة استعادة مجدها ونظامها السياسي المعبرعن هويتها وقيمها ونظامها التشريعي،ويمكن أن تجعل من هذه النكبات والنكسات نقطة انطلاق نحو الفجرالمرتقب والمنشود بإذن الله تعالى وفقا لما ذكره المؤرخ أرنولد توينبي حول التحدي والاستجابة.

4/أزمة التنمية:
التنمية هي عملية تطور مستمر وتتخذ أشكالاً مختلفة تهدف إلى الرقي بالوضع الإنساني إلى الاستقرار والرفاه،بما يتوافق مع احتياجاته وإمكانياته،وتعتبر وسيلة الإنسان لتحقيق غاياته،وهي عملية معقدة تضم جوانب الحياة المختلفة.
وفي ظل غياب السيادة والاستقرار،وكذا تجلي أزمات الهوية وصراعاتها،ظهرت أزمات التنمية،وانعكست في تبني نماذج تنموية لا تناسب البيئة المحلية،ومنقولة حرفيا من نماذج التنمية الغربية،وبالتالي تحولت الكثير من البلدان لمصدر للمواد الخام للدول المتطورة،وغالبها دول الاحتلال السابق ثم الاستيراد بعائداتها ما تحتاجه من ضرورات الحياة.
هذه بعض أزمات دولنا في المنطقة العربية والإسلامية،ومع كل هذه الأزمات فإن هذه الدول تحكمت في المجال العام والخاص،مما أضعف حركة الشعوب وقلل من فاعليتها،فلا أحزاب سياسية ولا قوى علمائية ،ولا منظمات مجتمع أهلية أو مدنية قادرة على التأثير في مجريات الأحداث داخليا وخارجيا،مع أن الأصل في التصور الإسلامي أن السلطة والولاية العامة فرع الأمة وليست بديلا عنها ولا تحل محلها بالمطلق،فعبرالتاريخ الإسلامي لم يكن سقوط الدول يعني سقوط الأمة ومؤسساتها بل كانت تنهض بواجباتها عند عجز الحكام وضعفهم،ولعل ما ذكرناه يجيب عن سؤال العجز الذي نراه في الأحداث الأخيرة في غزة،حيث تجتمع دولنا بعد مرور شهر كامل على القتل والتدمير للإنسان وخاصة الأطفال والنساء والعجزة والمرضى والمشافي والمساجد والمعابد،وما يعيش عليه من شجر وحجر،ومع ذلك لا تملك الحكومات فتح معبر للإغاثة ومساعدة الجرحى والمرضى،دعك من تحرير مقدس من المقدسات،فهذا هو الواقع المؤلم،الذي يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل الأمة وشعوبها،ومستقبل أنظمتها السياسية العاجزة،وكذا مستقبلها العام بين الأمم .
والله الهادي إلى سواء السبيل

الدكتور حسن سلمان عضو رابطة علماء المسلمين/ رابطة علماء إرتريا
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي صلى الله عليه وسلم
‏نائب رئيس اللجنة العليا لأسبوع القدس العالمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى