ثقافة وادب

متحف القلعة في برلين.. يعرض تماثيل وآثار الاستعمار والقمع للعب والسخرية

في نهاية عام 2019، واجهت مديرة “متحف القلعة” إشكالية، حينما وصلها جرس كنيسة ضخم يزن حوالي 190 كغم وعليه صليبٌ نازيٌّ معقوف. كان الجرس قد صنع عام 1934 للنظام النازي الصاعد آنذاك، وكان حتّى عام 2017 معلقاً في إحدى الكنائس الإنجيلية المعروفة في العاصمة برلين.

لكنّ هذا الجرس النازيّ ليس سوى قطعةٍ جديدة من ضمن قطعٍ أخرى في هذا المتحف، الذي يضمُّ تماثيل لحكامٍ بروسيين (ألمان) عسكريين، وتماثيل للرياضيين والمحاربين النازيين، ورأساً من الغرانيت يزن حوالي 4 كجم لمؤسس الاتحاد السوفييتي فلاديمير لينين. وفق ما ذكرته مجلة Atlas Obscura الأمريكية.

استغرق المشروع عامين من الجدل السياسي والبيروقراطي في ألمانيا ليرى النور. لكن أولاً، توجّب على يورت إيفرت (مديرة المتحف) موازنة مخاطر عرض جرس الكنيسة الذي رُكِّب خلال الفترة النازية. فماذا سيمثِّل الجرس للزوار؟ وماذا يمكن للزوار أن يتعلَّموا منه؟ وهل يمكن أن يتحول إلى نوعٍ من المزارات لأعضاء الجماعات اليمينية المتطرفة أو النازية الجديدة في ألمانيا؟

تتمثل مهمة إيفرت في متحف القلعة، الذي يقع في مستودع مؤنٍ سابق لحصنٍ من حصون عصر النهضة، في إجراء فحصٍ نقدي لثقافة الآثار. وبدلاً من تنظيف مساحة التماثيل التي ترمز إلى العنصرية من أشكال العنف والقمع، يهدف المتحف إلى تأطير الماضي وعرض الحقائق غير المريحة بطرقٍ بنَّاءة وتعليمية، وأحياناً صعبة.

تقول إيفرت: يواجه الزوّار داخل المتحف تماثيل وآثاراً كانت ترمز سابقاً للقوة. ويمكنهم لمس كل شيء، ولا يوضع أيّ شيء تعريفي على قاعدة تمثال. 

فيمكنك رؤية التلاميذ مثلاً يتسلَّقون على رأس لينين فيما يستريح السائحون عند أقدام الملوك البروسيين سيّئي السمعة.

وقد تزامَنَ الشهر الأول من إعادة افتتاح المتحف، في مايو/أيَّار بعد الإغلاق بسبب كورونا، مع احتجاجاتٍ عالمية للمطالبة بالعدالة العرقية، التي أثارها مقتل جورج فلويد على يد ضابط شرطة في مدينة مينيابوليس الأمريكية.

وحينما أطاح المتظاهرون التماثيل الكونفدرالية وأسقطوا الآثار الاستعمارية، اجتمع الصحفيون وأطقم التصوير في متحف القلعة لتغطية نهجه المميز في عرض هذه الآثار. كان هذا هو المكان الذي لم تُفكَّك فيه رموز العنف العنصري وإرهاب الدولة أو تُنفى أو حتى تُخفَى في المخازن، بل عُرضت على الجمهور لتفقُّدها ومناقشتها. تقول يورت إيفرت مديرة المتحف: ظلّ هدف المتحف الأساسي جعل التاريخ ملموساً.

جاءت فكرة إنشاء متحف للآثار، المرفوضة والسيئة من أندريا ثيسين، المديرة السابقة لقلعة سبانداو التاريخية، التي نظمت الافتتاح في عام 2016. وقد تُرك كلّ تمثال على حالته التي وصل بها، فقد تعرضت العديد منها إلى التفكيك بأوامر من الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، وبعضها يحمل ثقوباً بسبب الرصاص وأضراراً ناجمة عن القنابل.

رسالة المتحف واضحة: التماثيل ليست سرداً وصفياً للتاريخ، بل قطعةً أثرية تاريخية تحكي قصة عن السلطة. ويمكن في هذا المتحف للزوار دراسة آثار برلين للتعرُّف بشكلٍ أوضح على من ملك السلطة وكيف استُخدمت.

بالنسبة للفيلسوفة سوزان نيمان، مؤلِّفة كتاب Learning from the Germans  الصادر في عام 2019 والذي يُجري مقارنةً بين الطرق الأمريكية المستخدمة في التعامل مع تاريخ العبودية وقرون من التمييز العنصري في أمريكا وجهود ألمانيا في التصالح مع الهولوكوست، تقول سوزان:

يعد متحف القلعة مثالاً جيداً لما يجب فعله بالآثار التي لم تعد تمثل القيم التي نختار احترامها. وعندما يدعو المتحف الزوار إلى “اللعب” بالآثار حرفياً،  فإنّه يساعد على التخلُّص من أي ميلٍ إلى الحنين إلى الماضي السيئ. وفي الوقت نفسه، من الواضح أن اللعب يمثل أمراً جاداً يفتح الطريق نحو مناقشة متأنية للماضي وقيمه.

لكن خارج المتحف في برلين لم ينتهِ الأمر بعد؛ إذ ينتقد بعض سكان برلين حالياً تسمية الشوارع والساحات على اسم القادة الاستعماريين، بينما يطالب آخرون بإزالة النصب التذكارية لأوتو فون بسمارك، أول مستشار لألمانيا ومنظِّم مؤتمر برلين عام 1884 الذي قسم القادة الأوروبيون فيه القارة الإفريقية مخلفين آثاراً قاتلة.

كما أثارت تماثيل إيمانويل كانط، فيلسوف التنوير الذي كتب أنّ الرجال البيض متفوقون على النساء والأشخاص الملونين، جدلاً حول مكانة كانط في اللغة والتاريخ والثقافة الألمانية.

ويقول يورغن زيمرير، أستاذ التاريخ العالمي بجامعة هامبورغ وخبير الماضي الاستعماري لألمانيا: نحتاج إلى نزع الطابع البطولي عن هذه الآثار لإزالة الجاذبية البطولية. وبدلاً من محو جميع الآثار، يقترح استخدامها لفحص التاريخ بشكلٍ نقديّ. فيمكن مثلاً القيام بذلك عن طريق وضعها على الأرض أو وضعها رأساً على عقب. وبهذه الطريقة، سيضطر كافة المارة إلى الاندماج مع المعنى من وراء عرض هذه الآثار.

وبالنسبة إلى سوزان، تحمل العديد من المواقع التاريخية في برلين دروساً جيدة للأمريكيين، وتقول: كان كل نصب تذكاري في برلين تقريباً في الثلاثين عاماً الماضية موضوعاً لنقاش، استمر غالباً لسنوات، حول ما يجب نصبه وما يجب إزالته وما يجب امتهانه.

ويتشاجر علماء مدينة برلين والسياسيون والمواطنون دائماً وبشكلٍ منتظم حول تصميمات نصبٍ تذكارية جديدة وخططٍ لتحديث المتاحف.

وتستطرد سوزان: من الفادح وصف الآثار السيئة بأنها تاريخ وتراث. نحن لا نحتفي بكل جزء من تاريخنا. بل نختار، ونختار الرجال والنساء الذين تجسّد حياتهم القيم التي نريد أن تشاركها مجتمعاتنا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى