الأرشيفتحليلات أخبارية

النفس البشرية بين النفور والفجور

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى

* جاء فى الحديث الشريف : ” إياكم والكذب , فإن الكذب يهدى إلى الفجور , وإن الفجور يهدى إلى النار “ يقول الحافظ بن رجب رحمه الله : الفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا  والباطل حقا , وهذا مما يدعو إليه الكذب . وجاء فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه  قال : ” إن أبغض الرجال إلى الله الألد الأخصم ” وهل هناك أسوأ وأخبث وأشر من الذين يعايرونك بما ليس فيك ؟ سواء كانت هذه المعايرة على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو حتى الحكومات والدول  ؟ إنها نار الخصومة ولهيب الكراهية التى ما تذر  من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم .
كم من خصومة وكراهية  وشقاق بسبب اختلاف وجهات النظر لا أكثر بين أبناء الوطن الواحد،  وقد تحول شررها إلى أحقاد وضغائن ونيران مستعرة تأكل الأخضر قبل اليابس ولا تفرق بين متفائل ويائس أو بين غنى أو فقير بائس ، وقد عصفت بالأوطان، وسفكت الدماء، وذهبت بالأمن والأمان ، وحل الخوف، وتعطل العمل والبناء والإنتاج. ووضعت المجتمع كله على شفا جرف هار حتى صار على وشك الإنهيار . إنها حالة النفور التى تحولت إلى الفجور فى القول والعمل , فلا قيم ولا أخلاق ولا مبادئ . إنها حالة العرى الأخلاقي من كل رداء يستر عورة المتخاصمين سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو أحزابا أو دولا .

* قلت آنفا أن الكذب هو أقصر الطرق إلى الفجور وإطلاق سهام الاتهامات التى تصيب الأبرياء فى مقتل . والكاذب والفاجر توأمان لا ينفصلان ولا ينفكان لأن مصيرهما واحد ونهايتهما واحدة .
  وهل هناك كذب وفجور أكبر من هذا الموقف : عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: شكا نفرمن أهل الكوفة سعد بن أبي قاص رضي الله عنه وكان واليا عليهم ، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فعزله واستعمل عليهم عمارا حتى أنهم شكوا أن سعدا رضي الله عنه لا يحسن الصلاة، وهذا من الفجور في الخصومة، فأرسل عمر لجنة تقصي الحقائق للتثبت والتأكد بصفته أمير المؤمنين، فلم تدع  هذه اللجنة مسجدا إلا سألت عنه،  فكانوا يثنون معروفا على سعد، حتى دخلت اللجنة أحد المساجد، فقام رجل من المسجد ، يقال له: أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة، فقال: أما إذا نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، قال عبد الملك بن عمير الراوي عن جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد سنوات قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن، وكان إذا سئل يقول: “شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد” هذه هى النهاية المأساوية للكذابين والفجرة الذين تخصصوا وتفننوا  فى إلقاء التهم جزافا على عباد الله الأبرياء ليشوهوا سمعتهم وينالوا من كرامتهم وعرضهم وشرفهم  .

*
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل من ربه أن يوفقه للحق والعدل، حتى في حال الغضب لكي لا يظلم أحدا، وهو بذلك يعلم أمته ويربيها على هذه القيم والأخلاق، حتى لا تنحرف عن الصراط المستقيم، فكان يقول في دعائه: “اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى” . كم من سهام باطلة أصابت قوم أبرياء فأردتهم قتلى , وكم من تهم باطلة أصابت قوما آخرين فأوردتهم حبل المشنقة ظلما وعدوانا . وكم من تقارير باطلة عن دول آمنة مستقرة , بأنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل كتلك التى وجهت للعراق أثناء حكم الراحل صدام حسين , فكانت هذه التقارير الكاذبة الملفقة سببا فى تدمير العراق وشعب العراق  , وتفتت الدولة إلى شيعة وسنة وأكراد وغيرها , ناهيك عن الحروب الأهلية والفتن الطائفية التى أصابت البلاد والعباد . فلم نعد ندرى من القاتل ومن المقتول , ومن الكاذب ومن الصادق , ومن البرئ ومن المتهم . صارت العراق وغيرها من بلاد العرب تموج فى موج كالجبال ظاهرها كباطنها لاتدرى لها ليل من نهار . والسبب الفجور فى الخصومة من أمريكا والغرب ضد دولة أرادت فقط أن تعيدها إلى عصر القرون الأولى حقدا وكراهية وظلما وعدوانا . هل رأيتم فجورا وكذبا أعظم من هذا ؟  جاء فى بعض التفاسير فى قوله تعالى ” أولئك هم الكفرة الفجرة ” أى الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة , وكأن الغبرة للفجور والقترة للكفور .

* يقول أحد العلماء فيما جاء بالحديث ” وإذا خاصم فجر ” :، الأصل أن يمسك المرء لسانه عند الخصومة فلا يتعدى ولا يتجاوز ولا يتكلم إلا بما هو خير، ولا يتكلم بشيء تصل إليه مضرته، بل يكون كلامه باعتدال وتوسط، ولا يتجاوز الحد إلى أن يكون ظالماً لمن يحدثه ومن يخاصمه فيكون(وإذا خاصم فجر) أي: أنه إذا خاصم لا يتحاشى في الكلام، بل يزيد في الكلام ويتكلم بالكلام  الفاجر بالخصومة، فالفجور هو: الميل عن الحق مع الاحتيال عليه. وقد جاء فى الحديث الشريف أيضا ” ملعون ذو الوجهين ,ملعون ذو اللسانين ” . وتسمع وتشاهد اليوم أقواما يزعمون ظلما وعدوانا أنهم إعلاميون ومفكرون وكتاب وأصحاب رأى , فإذا بهم يكفرون فى آخر النهار بما آمنوا به فى أوله . فليعنون فى المساء من امتدحوه فى الصباح , ويسقطون فى الصباح من رفعوه فى المساء  , ويصدقون اليوم من كذبوه بالأمس . إنها لعنة الفجور التى أصابتهم فصاروا  لا  يستحيون من الله ولا من الناس ولا حتى من أنفسهم .إن تلك الكائنات الحية أستحى أن أطلق عليهم لفظ البشر لان الحياء صفة لازمة للبشر , فمن خلع ثوب الحياء , فليبحث له عن عالم آخر ينتسب إليه غير جنس البشرية التى قال عنها خالقها عز وجل ” ولقد كرمنا بنى آدم ” أكرمهم الله غير أنهم أهانوا أنفسهم بفجورهم وميلهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم  حتى سقطوا فى مستنقع الرذيلة والفجور .

* ومن علامات الفجور, الانحراف عن شرع الله، والاستهانة بتعاليمه، وعدم الاكتراث بالمعاصي، كما روى البخاري عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه “.  فماذا كان يقول ابن مسعود لو كان حيا اليوم ورأى ما تشيب من هوله الولدان ؟ ماذا عساه أن يقول لو رأى زواج المثلين , الرجل يتزوج الرجل , والمرأة تتزوج المرأة ؟ ماذا عساه أن يقول لو رأى حفلات تبادل الزوجات فى أفخم وأشهر الفنادق على مرأى ومسمع من الجميع ؟ ماذا عساه أن يقول لو سمع ورأى إدمان المخدرات وتناول الخمور والرقص بين سيقان العاهرات الكاسيات العاريات ؟ ماذا عساه أن يقول لو سمع ورأى من يحل دماء الأبرياء وانتهاك الأعراض واغتصاب النساء واستباحة الضعفاء الذين لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا ؟ ماذا عساه أن يقول لوسمع وشاهد علماء ومشايخ ودعاة بألف وجه وألف لسان يدورون مع مصالحهم حيثما كانت بصرف النظر عن الحق والباطل والحلال والحرام , يحرمون ما أحلوه بالأمس , ويحلون بالنهار ماحرموه بالليل ؟ ماذا عساه أن يقول لو سمع وشاهد شباب المسلمين من بنين وبنات وهم يرتدون البناطيل الممزقة وهى تكشف ماستره الله ؟ ماذا عساه أن يقول لو سمع وشاهد زنا المحارم , وقطع الأرحام , والإفطار جهرا فى رمضان ؟ أرأيتم فجور أكبر من ذلك ؟

أما ابن القيم فى كتابه ” تهذيب مدارك السالكين ”  فقد صور هؤلاء الفجرة أبشع تصوير حيث صورهم بالحيوانات فقال : ” فمشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ، ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها ، فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية فضلا عن درجة الملائكة ، فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر ، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها . فمنهم   من نفسه كلبية ، لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها ، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ، ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق : ميتة أو مذكى ، خبيث أو طيب ، ولا يستحي من قبيح ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك ، وإن منعته هرك ونبحك . ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف , كلما زيد له فى علفه زيد له فى كده ” هكذا صور ابن القيم رحمه الله هؤلاء الفجار بالكلاب والحمير حيث كان العلف كانت مصلحتهم , أرأيتم كيف ..! اللهم ردنا إلى دينك وإلى قول الحق والعمل به ردا جميلا واحمي أوطاننا من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى