ثقافة وادب

كنى نفسه باسمها وفرش الطيب والكافور ليكون لها مداساً، ما هي قصة الجارية التي أخذت لب المعتمد؟

روى لنا التاريخ الكثير عن قوة وجبروت الملوك وعن فتوحاتهم ومعاركهم وهزائمهم، لكن قلما سمعنا عن الملوك العشاق الذين لا يملكون سلطاناً على قلوبهم مثل المعتمد بن عباد الذي هام بمحبوبته اعتماد الرميكية فكنى نفسه باسمها، ورفعها من حياة الرق إلى حياة الترف والبذخ في قصور إشبيلية وقرطبة.   

انقلبت حياة اعتماد الرميكية رأساً على عقب، فبعد أن كانت جارية تغسل الملابس وتعمل في خدمة رميك بن حجاج أصبحت زوجة المعتمد آخر ملوك بني عباد في الأندلس ومليكة قلبه، والسبب: بيت من الشعر.

كان محمد بن عباد (الذي لُقب لاحقاً بالمعتمد) ابن المعتضد حاكم إشبيلية وقرطبة في عهد ملوك الطوائف، وقد اعتاد ابن عباد أن يتبارز بالشعر مع صاحبه الشاعر ابن عمار (الذي أصبح لاحقاً وزير دولته)، فيقول ابن عباد بيتاً ليجيزه صاحبه بالتتمة.

وبينما كان الاثنان يتنزهان في أحد متنزهات إشبيلية – مرج فضة – نظر محمد بن عباد إلى نهر الوادي الكبير وقال: «صنع الريح من الماء زرد» ثم طلب من ابن عمار أن يجيزه، لكن قريحة الشاعر لم تسعفه فسكت طويلاً ولم يكمل البيت، إلا أن جارية اسمها اعتماد كانت تغسل الملابس على طرف النهر قطعت الصمت مجيزة ابن عباد «أي درع لقتال لو جمد».

لم يفتن ابن عباد بموهبة اعتماد في الشعر وسرعة بديهتها فقط، بل فتن أيضاً بحسنها إذ لم تقع عينه على أجمل منها قط.

وبينما أشار ابن عمار على صاحبه أن يشتريها ويضمها إلى جواريه، أبى ابن عباد إلا أن يعتقها ويتزوجها لشدة ما أغرم بها ووقعت في نفسه.

تربعت اعتماد الرميكية إلى جانب زوجها ابن عباد على عرش إشبيلية وقرطبة بعد وفاة والده المعتضد، كما تربعت أيضاً على عرش قلبه.

فلشدة حبه لها كنى ابن عباد نفسه بـ «المعتمد على الله» ما إن تولى عرش أبيه، تيمناً باسمها «اعتماد» وقد كان يعرف قبل ذلك بـ «المؤيد بالله».  

لم يترك المعتمد أمنية إلا وحققها لزوجته، فأغرقها بالنعيم والترف والعطايا، ويروى أن اعتماد رأت الثلوج تهطل لأول مرة بينما كانت في قرطبة وقد كان ذلك نادر الحدوث في جنوب الأندلس، فغمها ذلك وحزنت حزناً شديداً.

ولما سألها المعتمد عن سبب حزنها قالت: «إنك طاغية جبار غشوم، انظر إلى جمال ندف الثلوج اللينة العالقة بغصون الأشجار، وأنت أيُّها الناكر للجميل لا يخطر ببالك أن تُوفِّر لي مثل هذا المنظر الجميل كل شتاءٍ ولا تصحبُني إلى بلدٍ يتساقط فيه الثلج كل شتاء».

فقال لها المعتمد: «لا تحزني ولا تستسلمي لليأس يا سلوة النفس ومنية القلب، فإنِّي أعِدُكِ وعداً صادقاً أنك سترين هذا المنظر الذي أدخل على قلبك السرور كل شتاء».

ثم أمر المعتمد بزرع أشجار اللوز على جبل قرطبة، لتبدو عند طلوع أزهارها كأنها مُغطَّاة بالثلوج وتُسر اعتماد بذلك.

زراعة اللوز في جبال قرطبة لم تكن أمراً عرضي الحدوث، فقد اعتاد المعتمد أن يغدق من الأموال لإرضاء رغبات زوجته الرميكية.

ولعل يوم الطين من أشهر قصص تبذير المعتمد لإرضاء اعتماد.

فقد جلست حزينة مغمومة في يوم من الأيام، ولما سألها عن سبب حزتها، قالت إنها اشتاقت لحياتها السابقة عندما كانت تمشي في الشوارع حرة دون أن تتوجه إليها جميع الأنظار ولا تبالي إن تمرغت قدماها وثيابها بالطين.

لم يهن على المعتمد أن يترك زوجته حزينة، فأمر بأن يُسحَق لها الطيب والعنبر والكافور ثم يصب ماء الورد على المزيج حتى يبدو كهيئة الطين، وتُغَطَّى به كل ساحة القصر، لتتمشى اعتماد فوقه وتمرغ قدميها وثيابها به كما كانت تتمنى.  

إضافة إلى تحقيق جميع رغباتها، واستشارتها في أمور الحكم، نظم المعتمد بزوجته الكثير من الأشعار لعل أشهرها قصيدة تعتبر من روائع شعر الغزل يبدأ كل بيت منها بأحد حروف اسم محبوبته «اعتماد» يقول فيها المعتمد:

أغائبة الشخص عن ناظــري .. وحاضرة في صميم الفــــؤاد

عليك السلام بقدر الشجون .. ودمع الشؤون وقدر السهاد

تملكتِ مني صعب المـرامي .. وصادفتِ وُدِّي سهل القيـــــاد

مرادي لقياك في كل حيــن .. فيا ليت أنــــي أُعطَى مـــرادي

أقيمي على العــهد ما بيــــننا .. ولا تستحيلي لطــــول البعـــاد

دسست اسمك الحلو في طي شعري .. وألفت منه حروف اعتمـــاد

كان المعتمد آخر ملوك بن عباد في الأندلس، وقد كثرت الفتن في عهده وبدأ ملكه بالتهاوي شيئاً فشيئاً حاله كحال بقية ملوك الطوائف.

وقد أثارت نزوات اعتماد الرميكية المتكررة سخط علماء ووجهاء دولة المعتمد، وأصبحوا يرون أنها تجر المعتمد إلى الاستهتار وحياة اللهو.

وقد كانت أعين المرابطين في المغرب على ممالك الأندلس، وعندما أفتى فقهاء المسلمين يوسف بن تاشفين بجواز ضمِّه إمارات ملوك الطوائف إليه بالقوة، كان من ضمن ما أشاروا إليه في فتاواهم تبذير الرميكية وجر زوجها إلى حياة الترف واللهو.

أدت تلك العوامل إلى سقوط إشبيلية في العام 1091 بأيدي المرابطين، واقتيد المعتمد وزوجته وأولاده أسرى إلى المغرب حيث أقاموا أولاً لمدة وجيزة في طنجة، ثم مكناسة، وأخيراً استقروا في أغمات.

وبعد النعيم والترف في قصور الأندلس، عاشت عائلة المعتمد في منزل فقير تحت الإقامة الجبرية في أغمات، واحتملوا سوياً شظف العيش وذل الأسر، إلى أن جاء يوم اختلفت فيه اعتماد مع زوجها وغضبت فقالت له: «والله ما رأيتُ منك يوماً حسناً!»، فقا لها: «ولا يوم الطين!»، فخجلت منه واعتذرت.

توفيت اعتماد بمدينة أغمات في العام 1095 ولم يصبر المعتمد على فراقها، فمات بعدها بأربعة أشهر، وكان قبره بجانب قبرها في غرفة واحدة.

كما أن أهل إشبيلية لم ينسوها، ففي مدينة إشبيلية يوجد تذكار لاعتماد الرميكية، كتب عليه: «اعتماد جارية وملكة، بجمالها وشِعرها وحب المعتمد لها صارت ملكة على إشبيلية». 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى