ثقافة وادب

تُغير مسار الأمم وتمحو مجتمعات.. إليك 5 دروس قاسية من أوبئة سابقة

قد لا يكون الماضي وصفة ناجحة للمستقبل، لكنه على أقل تقدير، ينبهنا إلى ما يجب أن نتوقعه. أوبئة سابقة قضت على حضارات بأكملها، في حين شكَّلت المرحلة التي تلتها قوانين ودساتير وحركات سياسية غيرت مجرى التاريخ.

فالأوبئة كالحروب، والكوارث الطبيعية، تستطيع أن تؤثر بالغاً في حياة الأمم
والشعوب.

على سبيل
المثال، أهلك الجدري والملاريا والإنفلونزا الأمريكيين الأصليين بعد احتكاكهم
بالمستعمرين الأوروبيين في القرن السادس عشر، ما مهد الطريق للاستعمار الغربي
للعالم الجديد.

لذا، ومن هذا المنطلق، فسوف تكون لفيروس كورونا أو Covid-19 آثاره السياسية الدائمة.

بالدرجة
الأولى، تشعل الأوبئة مشاعر العداء للمهاجرين والتعصب العنصري.

ولعل
المصطلح الذي استخدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب واصفاً فيروس كورونا
بـ”الفيروس الصيني”، أفضل مثال.

لكن هذا
المصطلح له أصداء خافتة تعود إلى القرن التاسع عشر، عندما دمرت الكوليرا -التي
أطلِقَ عليها “الكوليرا الآسيوية” في الصحافة الغربية- العالم على عدة
موجات.

بحث
الدبلوماسيون الأوروبيون عن أشخاص ليلقوا اللوم عليهم، خاصةً الحجاج المسلمين
العائدين من مكة، على الرغم من وجود عديد من عوامل النقل الأخرى.

أشار آخرون
بأصابع الاتهام إلى الهنود، حيث نشأت الكوليرا في البنغال. وصفوا الهندوس بأنهم
“يرتدون القماش المتسخ، وجلودهم وشعورهم مُحمَّلة بالحشرات ومُشبَّعة
بالعدوى”.

وسخِر مسؤول
استعماري بريطاني بارز، في عام 1872، يدعى هانتر أو WW Hunter،
من الهنود وقال: “قد يُقتل الآلاف في كل عام من مواطنينا الأكثر موهبة في
فيينا أو لندن أو واشنطن… إن إهمالهم يهدد حياة أكثر قيمة من حياتهم”.

كان الترويج
لفكرة أن الهنود أو المسلمين قذرون يجعلهم مرشحين مثاليين لحمل الأمراض، ولكن هذه
المواقف حملت عواقب أبدية، وشكَّلت سياسة الهجرة والسفر التي ستُصاغ فيما بعد.

عبر المحيط
الأطلسي، أدخل الأمريكيون المعادون للمهاجرين مبررات الخوف من الأمراض والأوبئة
كحجة ضد هجرة مختلف الناس، وضمن ذلك الروس ويهود أوروبا الشرقية.

كان بنيامين هاريسون أول رئيس للولايات المتحدة يحظر الهجرة بأمر تنفيذي، استمر حتى أوائل عام 1893؛ خوفاً من الكوليرا.

أدى تفشي
الكوليرا في القرن التاسع عشر إلى النتيجة الثانية للأوبئة: الاضطراب الاجتماعي.

يشير
الأستاذ في جامعة غلاسكو، صموئيل كوهن، إلى أن الثورات الشعبية ازدهرت في أعقاب
تفشي الكوليرا بجميع أنحاء العالم من ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات
القرن التاسع عشر.

هزت
“أعمال شغب الكوليرا” مدناً بأكملها في أوروبا وأمريكا الشمالية،
وأحياناً ما كانت تتلاقى مع حركات الإصلاح السياسي.

في دونيتسك
بأوكرانيا على سبيل المثال، أحرق المشاغبون المدينة بأكملها خلال وباء عام 1892.

استهدف
مثيرو الشغب النخب والسلطات السياسية بانتظام؛ وما يثير القلق أن كوهن اكتشف أن
الأطباء والعاملين في المجال الطبي تحملوا أيضاً نصيبهم من الغضب.

إذ ساد
اعتقاد بأن العلوم الطبية هي أداة النخب لقتل أعداد كبيرة من الفقراء.

وكما هو
الحال اليوم، استبعد الناس المشورة الطبية والخبراء، مستشهدين بالشائعات والأقوال.

قاوموا أو
تهربوا من الحجر الصحي، بحثاً عن العزاء في الدِّين أو التقاليد كعوامل أكثر
فاعلية ضد المرض.

ويبدو أن
بوادر احتجاجات فيروس كورونا بدأت بالفعل في بعض الولايات الأمريكية والعاصمة الفرنسية.

تميل الأوبئة إلى تحفيز الحركات السياسية،
خاصةً الحركات الراديكالية.

فوباء الطاعون الذي اجتاح غرب الهند في
منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر أدى إلى تطبيق السلطات الاستعمارية البريطانية
إجراءات صارمة لاستبعاد شريحة واسعة من السياسيين الهنود.

كان الرد الاستعماري المتسلط بمثابة دفعة
للتيارات الثورية بالهند. وفي عام 1897، في اليوم نفسه الذي احتفلت فيه الملكة
فيكتوريا بيوبيلها الماسي في لندن، أطلق ثائران هنديان النار على مفوض الطاعون
البريطاني.

دفع الحادث القوميين المتطرفين إلى دائرة
الضوء الوطنية، ومن اعتبرتهم السلطة الحاكمة دعاة للفتنة، اعتبرهم أبناء الشعب
أبطالاً.

في الوقت نفسه، أثار الطاعون إلى جانب رد
فعل الحكومة الاستعمارية تياراً معادياً للإمبريالية في بريطانيا العظمى.

انضم السياسيون الاشتراكيون مثل هنري
هيندمان، الذي أسس أول حزب اشتراكي في بريطانيا، إلى الثوار الهنود في مناصرة
الثورة العنيفة ضد الحكم البريطاني.

بل إن هندمان نعت فيكتوريا وقتها باسم
“ملكة الموت الأسود”.

ربما وصل الطاعون في تسعينيات القرن التاسع
عشر إلى الهند لأول مرة، عن طريق سفينة من هونج كونغ، مما يجسد طريقة انتشار
الأمراض مع ازدياد ارتباط العالم.

وهذا ينقلنا إلى درس إضافي من التاريخ:
الأوبئة، التي تنتشر كنتيجة للعولمة، يمكنها أيضاً تسريع العولمة.

واليوم، مع إغلاق الحدود الوطنية وتمركز الطائرات
في المطارات المهجورة، قد يكون من المغري رؤية الوباء على أنه انتكاسة للتكامل
العالمي.

من المرجح أن تكون هذه النكسة مؤقتة للغاية؛
فلا الكوليرا ولا الطاعون خلال القرن التاسع عشر، ولا الإنفلونزا الإسبانية في
القرن العشرين، تمكنت من إيقاف العولمة.

على الرغم من أن الأوبئة تسببت في توقف
الهجرة “غير المرغوب فيها”، فإن التجارة العالمية وسفر النخب استكملا
شؤونهما بسرعة.

ولكن الأوبئة ساعدت في خلق سبل جديدة
للتعاون العالمي، مثل المؤتمرات الصحية الدولية، التي بدأت في عام 1851.

جمعت هذه المؤتمرات دبلوماسيين وخبراء طبيين
من جميع أنحاء العالم.

وأشارت المؤرخة في جامعة Freie Universität Berlin  الألمانية،
فاليسكا هوبر، إلى أن هذه المؤتمرات كانت “المحاولة الأولى لمعالجة مشكلة
انتشار المرض من خلال التعاون الدولي”.

بل شكلت إلى حد بعيد آنذاك ما تقوم به اليوم
منظمة الصحة العالمية اليوم لمكافحة الوباء.

في عام 1517، وصلت أولى الرحلات الاستعمارية
الإسبانية إلى جنوب أمريكا، لتدمر الأوبئة إمبراطورية الأزتك بالمكسيك في غضون سنوات معدودة.

كانت الأمراض الأوروبية مثل الجدري والنكاف
والحصبة أسلحة قوية ضد السكان المحليين الذين يفتقرون إلى الحصانة ضدها.

بل دوّن راهب يدعى فرنسيسكان كان يسافر مع
القائد المستعمر هيرنان كورتيز، تأثير الجدري على قوم الأزتيك قائلاً: “ماتوا
بالأكوام! في عديد من الأماكن كان يموت جميع من في المنزل، ولأنه كان من المستحيل
دفن هذا العدد الكبير من القتلى، هُدمت منازل فوقهم بحيث أصبحت منازلهم”.

وبحلول عام 1520، كان الجدري قد قلل من عدد
سكان تلك الحضارة بنسبة 40% في عام واحد فقط.

أضعف الوباء السكان لدرجة أنهم لم يتمكنوا
من مقاومة المستعمرين الإسبان ولا إنتاج المحاصيل اللازمة.

حتى إن بحثاً صدر عام 2019،
خلص إلى أن عدد الوفيات وصل إلى 56 مليون من سكان أمريكا الأصليين، توفوا في
القرنين السادس عشر والسابع عشر، معظمهم بسبب الأمراض.

واعتبر البحث أن هذا النقص الحاد في اليد
المزارعة غيّر مناخ الأرض، حيث أدى نمو النباتات في الأراضي التي تم حرثها سابقاً
إلى جذب مزيد من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وتسبب في انخفاض درجة حرارة
الأرض.

إذن نستخلص من عِبَر الماضي أن معاداة
المهاجرين والاضطرابات الاجتماعية والتطرف السياسي والعولمة ستشكل مزيجاً قوياً
ومتناقضاً في وقت واحد.

ولكن مع تطورات القرن الحادي والعشرين التي نشهدها، لا شك في أن عوامل أخرى ستؤدي دورها في عاصفة التغيير المقبلة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى