ثقافة وادب

الخيزران بنت عطاء، جارية قتلت ولدها وحكمت العالم الإسلامي

الخيزران ينحني للعاصفة لكنه لا ينكسر.. وقد كان للخيزران بنت عطاء من اسمها نصيب، فبعد أن تم اختطافها على يد بدوي مجهول وبيعها كجارية في قصر الخليفة العباسي المنصور، استطاعت الخيزران أن تسرق قلب ولده المهدي لتتحول من جارية إلى السيدة صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في قصر الخلافة.

واستطاعت تلك الشابة القادمة من صحراء اليمن انتزاع الخلافة من أحفاد السفاح مؤسس الدولة العباسية، لتجعلها حكراً على أبنائها، ولولاها لما كنا سمعنا قط بهارون الرشيد أو ولديه الأمين والمأمون.

وعندما حاول ولدها الهادي تقليص نفوذها ثم التخلص منها بدس السم لها ومحاولة تنحية أخيه الرشيد عن الحكم، أمرت بقتله وفقاً لبعض الروايات.  

فلنتعرف معاً على أم الخليفتين التي حكمت الدولة العباسية في عهد زوجها وولديها الهادي والرشيد:  

اختلف المؤرخون حول أصول الخيزران، فمنهم من قال إنها جارية عربية استقدمت من اليمن، ومنهم من قال إنها بربرية استقدمت من المغرب، إذ قيل إن بدوياً اختطفها وباعها في مكة للخليفة المنصور، ولعل حادثة الاختطاف هذه كانت أفضل ما قد يحدث للخيزران في حياتها، فقد وقع المهدي ابن المنصور في حبال هواها.

تيم المهدي بالخيزران، وإذا صدق المؤرخون في وصفها لا نستطيع لوم الرجل، فقد كانت شابة جميلة ممشوقة القوام، رفيعة الذوق لدرجة أنها بهرت حتى النخبة من سيدات القصر، فرحن يقلدن حليها وتسريحات شعرها.

كما كانت متعددة المواهب، إذ جرت العادة تعليم نخبة من الجواري الموسيقى والغناء والتنجيم والرياضيات واللاهوت ليستطعن جذب اهتمام سيدهن وتسليته، وقد تفوقت الخيزران على نظيراتها في كل تلك الفنون.

كما واظبت على دراسة الفقه والحديث وعلوم القرآن، وبسبب جمعها بين الجمال والذكاء والظرف والعلم وحسن الحديث والمنطق، أصبحت الخيزران الجارية المفضلة لدى المهدي، فامتلكت قلبه حتى أنسته غيرها من النساء.  

كان من الممكن أن تبقى الخيزران واحدة من محظيات المهدي المفضلات إلى الأبد، لكنها لم تتمتع بالجمال والسحر والجاذبية فقط، بل اشتهرت كذلك بقوة الشخصية والذكاء والفطنة.

واستطاعت الخيزران إقناع المهدي بتحريرها والزواج بها، لتكون بذلك منافسة قوية لزوجته الأولى الأميرة ريتا، ابنة عمه الخليفة السفاح مؤسس الدولة العباسية.

لم تكتف الخيزران عند هذا الحد، فقد استطاعت إقناع الخليفة بتنحية ولده البكر من زوجته الأولى وحرمانه من منصب ولي العهد، وتسمية أولادها خلفاء من بعد والدهم على غير ما جرت العادة آنذاك.

وهذا كله غيض من فيض، إذ لم يقتصر دور الخيزران على كونها محبوبة المهدي المدللة وأم خلفاء المستقبل، وسيدة الحريم الأولى في القصر، بل كان لها دور قوي في تدبير شؤون الدولة والحكم، وكانت تشارك زوجها كل قراراته من خلف الكواليس.

فكانت تختلط برجال الدولة وتتخذ قرارات مفصلية في الحكم، كما أنها قربت أسرتها ومكنت أفراد عائلتها في الدولة العباسية، فولت أخاها غطريف حكم اليمن وزوجت شقيقتيها لأميرين صاحبي شأن في الدولة.

في العام 785 توفي المهدي بينما كان في رحلة خارج بغداد مع ولديه الهادي والرشيد.

وعندما وصل النبأ إلى الخيزران، جمعت الوزراء على الفور وأخذت البيعة لابنها الهادي قبل وصوله إلى المدينة لتأمين حكمه.

وكما كانت الخيزران تسيطر على المهدي وتدبر شؤون دولته من خلفه، أرادت أن تلعب الدور ذاته مع ولدها الهادي، فاستمرت في تسيير أمور البلاد حتى أنها كانت تتفرد أحياناً باتخاذ القرارات دون الرجوع إلى ولدها ومشاورته وكانت تتدخل في تعيين كبار الضباط والولاة والحكام.

لكن الهادي لم يكن راضياً كوالده بهذا الحال، وقد جن جنونه بسبب تدخل أمه في الحكم وحاول جاهداً إبعادها وتقليص نفوذها، إلا أنه فشل في ذلك فقد كانت قوة الخيزران أعظم من قوة الخليفة آنذاك.

وعندما فشلت مساعي الهادي وجد أن الحل الوحيد هو التخلص بشكل نهائي من والدته بحسب المؤرخين.

فقد حاول قتلها عن طريق دس السم في طعامها بحسب ما ذكر الطبري، إلا أن الخيزران كانت أشد فطنة منه فجعلت كلبها يتذوق الطعام أولاً فسقط الكلب ميتاً على الفور.  

يروي العديد من المؤرخين أن معركة الهادي والخيزران كانت محسومة النتائج: إما قاتل أو مقتول، ويقول البعض إن الخيزران علمت بمساعي الهادي لقتل أخيه الرشيد، فضلاً عن محاولة قتلها فقررت أن تتخلص منه أولاً.

وتزعم إحدى الروايات أن الخيزران كلفت جواري الهادي بقتله، عبر وضع الوسائد فوق رأسه وكأنهن يداعبنه ثم الجلوس عليها حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة خنقاً.  

سواء كانت الخيزران فعلاً من أمر بقتل الهادي، أم أنه مات بحادثة غير مدبرة فقد أمنت الخيزران على نفسها بعد رحيله وتولي ولدها الثاني هارون الرشيد عرش الخلافة.

على عكس الهادي، لم يكن الرشيد يعارض تدخل والدته بالحكم بل كان يجلها ويحفظ منزلتها ويستشيرها، ولم يكن يشعر بالخجل أن امرأة تشاطره الحكم كما كان يشعر أخوه الراحل، بل اعترف علناً بحكمتها وحنكتها السياسة وبراعتها في تدبير شؤون الدولة.

ووصلت الخيزران ذروة مجدها في عهد الرشيد، فضربت العملات المعدنية باسمها، كما حملت العديد من القصور اسم “الخيزران” حتى إن المقبرة التي دفن فيها الخلفاء العباسيون لاحقاً تحمل اسمها كذلك.  

توفيت الخيزران في عام 789، وبالرغم من أنها أوصت بعدم إظهار الحزن في جنازتها، إلا أن الرشيد لم يلتزم بتلك الوصية وأقام لها جنازة كتلك التي تقام للملوك والخلفاء معلناً الحداد في كافة أرجاء الدولة العباسية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى