القصص القرآني و واقعنا المعاصر (12)

موسي .. فرعون .. و عباد العجل ( الجزء الثالث )
بقلم الأديب الكاتب
دكتور جمال محمد
عجائب قصة موسي و فرعون و القوم المؤمنين و الدروس المستفادة منها لا تنتهي , و رأينا في الحلقة السابقة كيف أوحي الله الي موسي فرسم لهم طريقا ربانيا ما أحوجنا الي انتهاجه في مرحلتنا هذه , نتلمس خطي من كان قبلنا , …طريقا هو بداية الخلاص من فرعون و جنده , فكما ذكرنا من قبل أن للتاريخ دورات و أحداث تتكرر , لخصها الله لنا جميعها في ” قصصه الكريم “, ( المقال الثاني ) , ينير لنا طريقا في ظلمات الفتن و اليأس , طريقا يجعلنا نحلق بجناحي التوكل و اليقين بالله , غير آبهين بمستجدات و أحداث تلقي بظلال اليأس عند بعض ضعاف النفوس و الايمان ….و هذا ما نحن مطالبون به في مرحلتنا هذه في الأساس , الي جانب دوام التمسك بحبل الله الموصول ( فضلا : مراجعة مقالي غزوة الأحزاب و حرب غزة , و من بدر الي القدس عبر غزة علي الموقع ).
كانت بداية المرحلة و بداية الطريق هي اقامة الصلاة والصبر و الدعاء والصبر والثبات ” قال موسي لقومه استعينوا بالله و اصبروا , ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين .”
…………………
. ” و قال موسي ياقوم ان كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين . فقالوا علي الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين . و نجنا برحمتك من القوم الكافرين .”
و كانت مكافأة الصبر علي الأذي و صدق التوكل علي الله و اليقين في موعوده كما بينه الله في الآيات …” و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها , و تمت كلمة ربك الحسني علي بني اسرائيل (بما صبروا) , و دمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه و ما كانوا يعرشون “.
و الملاحظ هنا أن هذا كان هو السبيل الوحيد أمام موسي و قومه في هذه المرحلة , و لم يكونوا علي دراية بالمرحلة التي تليها , فقط كان المطلوب تحقيق النقاط السابق ذكرها , و هنا مربط الفرس , فلما حققوا هذه الخطوة , و أحسنوا التوكل علي الله كما أمرهم , خلق الله ( الوكيل = الذي يوجد الأسباب و يكمل النقص في الاستعدادات ) لهم الأسباب في نهاية الأمر كما سنري في آخر المقال . ولكن لنا هنا وقفة قصيرة وسؤال :
لماذا تسع آيات ؟؟
——————
.” و لقد آتينا موسي تسع آيات بينات , فسأل بني اسرائيل اذ جاءهم فقال له فرعون اني لأظنك يا موسي مسحورا “
أرسل الله لفرعون و قومه الآية تلو الآية , فلماذا لم تكن خمس آيات مثلا , و والله ان واحدة لكافية لمن كان له قلب أو ألقي السمع و هو شهيد . و كأن حكمة الله البالغة ( الحكيم = الذي يضع الشئ في موضعه , في توقيت لا يعلمه الا هو ) , شاءت أن تمهل و تمهل كي لا يكون للناس حجة , و لمن لم يري ..أن يري , حتي اذا أخذ الله الظالمين لم يفلتهم , و أخذهم أخذ عزيز مقتدر .
و ما أشبه الليلة بالبارحة , كم من آية باتت واضحة للعيان و لمؤيدي الانقلاب الغاشم , تكشف و تفضح سوء النوايا والخداع , و تظهر الحرب علي الاسلام في أوجها , يقودها في بلادنا من يسمون بالعسكر , خدمة لمشروع صهيوني , انكشف و انفضح الا لعبيد العسكر .
أسوق هنا عدة أمثلة علي سبيل المثال لا الحصر لأدلة و براهين , تكشف المستور الا لمن أصيب بعمي القلب و البصيرة :
– ألم تتعهد عصابة العسكر و زعيمها أن ينأوا بأنفسهم عن الحكم….فاذا هم ينكثون ؟!
– ألم تقم ثورة 30 يونيو المزعومة لاصلاح حال البلد ؟!…فما الذي تحسن ؟! و ما الذي تغير ؟!
– ألم تكن قناة السويس قد بيعت لقطر ! فكيف يمكن اقامة مشروعات عليها ؟!
– هل تحسن حال الكهرباء ؟!
– هل انخفض العجز أو انخفض سعر الدولار ؟!
– ألم يجلسوا علي مائدة مفاوضات مع ” حماس ” التي من المفترض أن الرئيس تخابر معها ؟!
– ألم نصل الي مرحلة الفقر المائي و لم يحل موضوع سد النهضة ؟!
– ألم يقتل في الشوارع أبرياء المفروض أنهم أهل و جيرة لأناس ارتضوا غشاوة علي أعينهم ؟!
– ألم تنكشف حقيقة مشاريع الكفتة و قناة السويس و غيرها ؟!
ألم تواصل البورصة خسائرها و انهيارها اليوم تلو الآخر ؟!
هل طبق أي مشروع كالمليون وحدة سكنية و غيرها ؟!
الكثير و الكثير من آيات ظاهرة تفضح و تكشف , و هناك بالفعل من استفاق و لكن يبقي من أصروا علي اعطاء الدنية في دينهم و وطنهم و عرضهم بل و انسانيتهم .
” و ما نريهم من آية الا هي أكبر من أختها …”
” و قالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين .”
“……….
و من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا , أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم , لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم .”
” أفرأيت من اتخذ الهه هواه و أضله الله علي علم و ختم علي سمعه و قلبه و جعل علي بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله , أفلا تذكرون “…..
و كم تذكرني هذه الآية بمشايخ السلطان من العبيد .
الله الحليم اللطيف الخبير , يمهل أناسا يعرف فيهم الخير , علهم يرجعون و وهناك من يحتاجون وقتا أطول لازالة الغشاوة عن العيون , الي وقت معلوم عند الله يكون فيه قمة الخير و النصر لعباده المؤمنين , و الذل و الخزي و الفضيحة لأهل الباطل , الذين ما زالوا ينكشفون يوما تلو الآخر ………اللهم افضحهم فوق الأرض و تحت الأرض و يوم العرض .
لماذا الغرق ؟؟
—————
كان من الممكن أن يصيب الله فرعون و قومه بصاعقة من السماء أو الحرق أو الصيحة , و لكن سبحان الله فالجزاء من جنس العمل , فكما منع فرعون الناس هواء الحرية و العبودية لله ” و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون ” , و التي هي الحرية الحقة المطلقة , منع الله عنه هواء التنفس و الحياة بالغرق , و تركه ملفوظا من البحر آية لمن يعتبر , و لكن هيهات هيهات , هناك من لا يعتبر الا بعد فوات الأوان . أغرقهم الله في لحظة ….فاعتبروا يأولي الأباب ……….لحظة لم يكن يعرفها حتي موسي نفسه الا في حينها .
و ما ترك الله لجسد فرعون الا آية و حجة علي الفراعين علي مر الزمان , لا يعيها و لا يعتبر بها الغافلون , الذين اذا تليت عليهم هذه القصص قالوا ( أساطير الأولين) , ” فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية , و ان كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون “.
موسي و العصا :
العصا من أكبر الآيات التي أيد الله بها موسي , و لكن لنا هنا وقفة هامة جدا للعظة و الاعتبار ….
فما كانت العصا الا سببا من الأسباب , و حتي لحظة وقوف موسي علي شاطئ البحر , لم يكن يعرف أهمية العصا عندها , و لا أنها سبب النجاة , أي معه السبب و لكن لم يأذن الله له بعد باستعماله في هذا الموضع و لا معرفته بعد , و لا عرف كنهه و أهميته الي أن أوحي الله له , ” فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسي انا لمدركون . قال كلا ان معي ربي سيهدين . فأوحينا الي موسي أن اضرب بعصاك البحر , فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم .”
و الي هذه اللحظة أيضا لم يكن يعرف موسي أن فرعون و جنده مصيرهم الغرق , الي أن وصلوا الي الشاطئ الآخر , و أراد موسي أن يتصرف من تلقاء نفسه و أن يضرب البحر بالعصا , فأوحي الله اليه … ” و اترك البحر رهوا انهم جند مغرقون “.
كان تعلق بني اسرائيل بالأسباب ما زال أكبر من رب الأسباب و لذلك نري موسي يقول ” كلا ان معي ربي سيهدين ” , و أظننا كمسلمين قد وصلنا الي مرحلة أرقي ايمانيا من ذلك كما علمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام و هو في الغار عندما قال لصاحبه ” لا تحزن ان الله معنا ” , ندعو الله أن يكون تعلقنا به أكبر من تعلقنا بالأسباب حتي نستحق نصرته , فنقدم رب الأسباب علي الأسباب .
قارن الكثير من العلماء بين قول موسي ” ان معي ربي سيهدين ” , و بين قول المصطفي ” لا تحزن ان الله معنا “. و في كل خير , فموسي قدم العندية و ذكر الرب و ليس الله , لتعلق بني اسرائيل بالأسباب والأرباب , ليطمئنهم لأنهم أهل مادة , لكن الصادق المصدوق ذكر ” الله” مقدما علي العندية موحيا أنه بمجرد وجود الله , ينعدم ( التفكير في الأسباب ) , و تتسلل الطمأنينة الي القلوب , بل و يتأكد مفهوم النصر و النصرة من عند الله عز و جل , و أدعو الله أن نكون علي نهج رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام , سائرين علي الدرب ظاهرا و باطنا , ممعنين في التوكل علي رب الأسباب.
الله الذي هزم الأحزاب وحده بالريح , و أغرق فرعون و جنده في البحر , سييسر لنا الأسباب بقدرته و مشيئته , يكشفها لنا في حينها و يفعلها لنا , مقيضا لنا نصرا باذن الله , فقط مطلوب منا الثبات والصبر و اليقين في هذه المرحلة الصعبة كما ذكرنا آنفا ….منفذين أوامره عز و جل كما بيناها , متذكرين قوله تعالي ” و قال موسي ياقوم ان كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين .”
فوائد هامة جدا نستشفها و نستنبطها من قصة شق البحر :
1 – الله ( الوكيل ) هو رب الأسباب و هو موجدها بغير ترتيب من البشر و لا توقع .
2 – السبب قد يكون موجودا و لكن لم يأذن الله لنا بعد باستعماله .
3 – السبب قد يكون بين أيدينا و ظهرانينا و لم يأذن الله بمعرفته بعد .
4 – السبب قد يكون بين أيدينا و شاءت ارادة الله ا( الحكيم ) ألا يعمل السبب .
5 – السبب قد يكون بين أيدينا و حكمة الله الحكيم أجلت استعماله لحكمة ربانية محكمة .
6 – الله الحكيم الذي يقدر و يضع الشئ في موضعه , يقدر ظهور السبب في توقيت لا يتوقعه أحد و ….لعله خير ( مقال : سورة الكهف و لعله خير ) .
****
اتباع النهج الرباني , كما رسمه الله من خلال قصة موسي و فرعون , و تحقيق تلك الشروط ( المقال السابق ) , لابد أن يتبعه ظهور أسباب لم تكن في الحسبان , و كما حدثت التسريبات في وقت قدره الله , و بغير حول منا و لا قوة . و لكن كيف لنا التعامل مع تلك الأسباب , التي يجب أن تزيدنا من التمسك بالله و الثقة في موعوده لأهل الحق ..هو موضوع الجزء القادم ان شاء الله ( موسي و التسع آيات ..و التسريبات ).
ربنا عليك توكلنا و اليك أنبنا و اليك المصير
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين , و نجنا برحمتك من القوم الكافرين
اللهم أهلك الظالمين بالظالمين و أخرجنا من بينهم سالمين