تقارير وملفات

مصر دولة جنرالات العسكر القمعية الفاسدة

تقرير بقلم

شريف-محمد-جابر

شريف محمد جابر
الحاكم العسكرى المتخفى في لباس الحاكم المدني، هذا شكل من أشكال الدولة العسكرية المقنعة؛ حيث تمارس فيها الآليات الديمقراطية كتداول السلطة والانتخابات ولكن في إطار مقيّد، يسمح للجيش بالتدخل إذا وجد أنّ الديمقراطية تأتي بنتائج لا تتفق مع علمانية الدولة كما هو الحال في تركيا سابقا، وفي مصر حاليا. 
خلفية تاريخية
دخل الحكم العسكري إلى البلاد العربية والإسلامية بعد خروج الاحتلال الأوروبي تدريجيّا، حيث كان من المستحيل بقاء الاحتلال الأوروبي العسكري في بلاد المسلمين؛ لأنه يجرح كبرياء الشعوب المسلمة فتستمرّ في مقاومته لتكبّد الدول الأوروبية خسائر كبيرة.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية خرجت القوى الأوروبية منهكة ضعيفة، فتحوّلت وجهتها إلى لملمة جراحها وترميم قواها المتصدّعة، وكان أن حاولت الاستعاضة عن الاحتلال المباشر باحتلال غير مباشر، وذلك من خلال إيصال نخب علمانية عميلة لها إلى سدّة الحكم في ظلّ ما سُمّي آنذاك بمرحلة “الاستقلال”، والتي ظنّت فيها الشعوب العربية أنها خرجت فعلا من الاحتلال الأوروبي، ولم تكن تدرك أنّ هذه النخب العلمانية التي صعدت إلى سدّة الحكم هي نخب “عميلة”، لا تملك قرارها المستقلّ خارج ما يحدّده لها المحتلّ الغربي، بل لم تكن تدرك آنذاك أنّ هذه النخب الحاكمة ستكون أكثر قمعًا ودمويةً من الاحتلال الغربي المباشر!
خرجت جحافل الجيوش الغربية من بلاد العرب والمسلمين، وبدأت مرحلة “الاستقلال” في أربعينيات القرن الماضي، واستمرت في بعض البلدان حتى السبعينيّات. ومنذ بدايات مرحلة الاستقلال بدأ النفوذ “الأمريكي” بالحلول تدريجيا مكان النفوذ الأوروبي في المنطقة العربية؛ فقد كانت الولايات المتّحدة هي الدولة الكبرى التي خرجت منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية، فورثت المستعمرات الأوروبية وأصبح نفوذها هو الأقوى، إلى جانب النفوذ الإنجليزي والفرنسي والروسي.
كانت الأداة الأكثر فاعلية لضمان الهيمنة الأمريكية على المنطقة العربية هي السيطرة على النخب الحاكمة، على أن تكون هذه النخب الحاكمة نخبا “عسكرية”؛ لأنها هي التي تسيطر على “الجيش”، القوة الماديّة الأعلى في البلاد. وهكذا، من خلال نخب عسكرية عميلة ارتمت في أحضان المحتلّ، استطاعت أمريكا أن تحافظ على مصالحها في المنطقة، إلى جانب رعاية “الملكية” التي حلّت مكان الدولة العثمانية في الجزيرة العربية والأردن وبلدان أخرى إلى مدى معيّن.
والمشترك بين “الملكية” و”الحكم العسكري” اللذين رعتْهُما الإدارة الأمريكية على مدى طويل في المنطقة هو “الاستبداد”، ومصادرة إرادة الشعوب وحريتها في اختيار قيادتها السياسية ومؤسساتها السيادية، فلم تكن أمريكا راغبة بديمقراطية حقيقية في بلاد العرب والمسلمين على نمط الديمقراطية الغربية؛ لأنّ الديمقراطية الحقيقية (بمعنى اختيار الشعوب الحرّ للقيادة السياسية) سوف تفرز – لا محالة – قيادات سياسية تحاول الخروج من الهيمنة الأمريكية؛ لأنّ “الشعور العام” لدى الشعوب العربية والإسلامية، المنطلق أساسا من عقيدتها وهويّتها الإسلامية، هو شعور رافض للاحتلال الغربي والهيمنة الغربية أيّا كانت، بعد تجربة مريرة في مرحلة الاستعمار، وبعد مرحلة الاستقلال حيث كان الغرب وأمريكا رأس حربة على الإسلام والمسلمين، فنتج عن ذلك كراهية كبيرة لأمريكا، بالإضافة إلى الدافع الأساسي وهو الإيمان الإسلامي الذي يرفض كل أشكال ولاية الكفار واحتلالهم وتحكّمهم ببلاد المسلمين.
لم يكن ممكنا بالنسبة لأمريكا إعطاء هذه الشعوب الفرصة لتفرز قيادة سياسية ستكون – ولا شكّ – مناوئة لسياستها ومصالحها، أو على الأقل؛ أقلّ تعاونا من النخب الفاسدة المستبدّة. ولذلك كان الخيار الاستراتيجي الأمريكي هو الإبقاء على الملكية في البلاد التي تناسبها الملكية والتوريث كصيغة من صيغ الاستبداد، والحفاظ على هيمنة جنرالات العسكر التابعين لها في البلاد التي لم يعد للملكية فيها مكان. تمّ ذلك من خلال انقلابات عسكرية تسندها أمريكا ويتمّ الترويج لقادتها أمام الشعوب على أنهم “أبطال” و”مقاومون” معادون للإمبريالية العالمية المتمثّلة بأمريكا، هكذا في الظاهر، أمّا تحت الستار فقد كانت الهيمنة الأمريكية تتوغّل شيئا فشيئا بواسطة هؤلاء القادة العسكريّين الفاسدين، وصولا إلى سيطرتها التامّة على المسار السياسي والاقتصادي بل والاجتماعي والثقافي لأنظمة حكم تلك البلاد!
سى

مصر دولة الجنرالات
إذا أخذنا “مصر” نموذجًا سنجد تجربة عبد الناصر وانقلاب يوليو، وما تلاه من استبداد وحكم فردي ومصادرة للحياة النيابية، ثمّ الانبطاح والهزيمة أمام الدولة اليهودية الناشئة في فلسطين، ثمّ مرحلة السادات والدخول طوعا في “ثقافة كامب ديفيد”، حيث أصبحت اللعبة “على المكشوف”، وأصبح الارتباط بالإدارة الأمريكية ظاهرا للعيان، يعلمه الأمّيُّ قبل السياسي الخبير!
ثم جاء مبارك وحفنة الجنرالات الفاسدين، وأصبحت المعونة الأمريكية للجيش المصري مظهرا بارزًا لتحكّم الولايات المتّحدة في الخيارات السياسية والاقتصادية للدولة المصرية، وصار يُذاع علانيةً في وسائل الإعلام أنّ مصر هي “الحليف الاستراتيجي” الأكبر للإدارة الأمريكية في المنطقة. ويا لها من مهانة!
وهكذا كان حكم العسكر أداة فعالة في إبقاء الهيمنة الغربية على بلاد المسلمين، فما هي خصال هذا الحكم ومميزاته؟
في هذا المقال سوف نتعرض لأبرز سبع خصال للدولة العسكرية، وسوف نتناول الحالة المصرية باعتبارها الحالة الأبرز والأكثر أهمية في العالم العربي والإسلامي، ومواكبةً للأحداث الأخيرة حيث قامت قيادة الجيش المصري بانقلاب عسكري على الرئيس المنتخب د. محمد مرسي، وكان واضحا أنّها حركة مدبّرة، خطّها الأساسي هو الحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة، وعلى سياسة “كامب ديفيد” التي تحتّم تحجيم مصر وإبقائها ضعيفة غارقة في مشكلات العالم الثالث؛ للحفاظ على الهوّة الاستراتيجية بينها وبين “إسرائيل”، فهذه هي الاستراتيجية الأمريكية الأساسية تجاه مصر. 
في الفقرات التالية سوف نتعرّض للخصال السبع للدولة العسكرية، مع تطبيقات ونماذج من الواقع المصري لكل خصلة من هذه الخصال.
يذكر الأستاذ الراحل عبد المجيد الشاذلي رحمه الله هذه الخصال السبعة للدولة العسكرية (المصريّة بشكل خاصّ)، وذلك في محاضرة له ألقاها في أحد مساجد الإسكندرية بتاريخ 1.7.2011 حول “الدولة المدنية والدولة العسكرية”. وعملنا في هذا المقال هو ذكر هذه الخصال كما أوردها الشيخ وتنسيقها، والتوسّع في شرحها وبيان أبعادها في الواقع مع الاستعانة بمصادر أخرى لإثراء المقال، والإتيان بأمثلة معاصرة لكلّ خصلة من الخصال.
 الحكم الفردي الاستبدادي (Autocracy) جنرالات العسكر من عبد الناصر الى عبد الفتاح السيسى
فليس في الدولة العسكرية حياة نيابيّة وفرصة للشعب لاختيار من يحكمه، وإنْ وُجدَ ذلك فهي أمور “شكلية” لا تأثير لها على أخذ القرارات المصيرية للدولة. ويقوم الفرد الحاكم والمجموعة التي معه بتحديد مسار السياسة الداخلية والخارجية. وقد تمثّل ذلك في الدولة العسكرية في مصر من خلال تملّك زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي للسلطة ورسم خطوط السياسة الداخلية والخارجية، وظهوره بالواجهة في كثير من الأحيان في الزيارات السياسية لبعض الدول، رغم أنّه قام بتعيين رئيس مؤقّت للبلاد، ولكنّه – كما علم القاصي والداني – رئيس دون صلاحيات، بل تمّ إطلاق وصف “الطرطور” عليه باللهجة المصرية الدارجة كسخرية من عدم تأثيره في مجرى السياسة وكونه مجرّد “ظلّ” لمن يتّخذ القرارات ويسوس البلاد.

مصر
 الاعتماد على القوّة العسكرية والجيش (Militarism)
حيث يتمّ استخدام القوة العسكرية (الجيش) في الهيمنة على شؤون البلاد، سواء في بداية السيطرة من خلال انقلاب عسكري، أو من خلال توطيد أركان الحكم واستقراره. وقد رأينا ذلك جليّا من خلال المذابح التي قامت بها المؤسسة العسكرية بواسطة أداة الجيش، بداية من فترة حكم المجلس العسكري (2011 – 2012) أو بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبد الفتاح السيسي بتاريخ 3.7.2013، حيث تم قمع التظاهرات السلمية المدنية بالقوة العسكرية إلى جانب القوات الأمنية، بالإضافة إلى حماية السلطة والهيمنة عليها من خلال نشر قطع الجيش وفرض هيمنة العسكريّين المتحكّمين بالقوة. وما مجزرة رابعة وما تلاها وسبقها من مجازر عنّا ببعيد.
دولة القمع الدولة البوليسية (Police State)
والدولة البوليسية: هي دولة تخضع فيها نشاطات الناس للرقابة الصارمة من قبل الحكومة بمساعدة قوّة الشرطة. حيث تسود السجون والملاحقات والتعذيب، وتبحث أدوات الدولة عن كلّ صوت معارض ليُزجّ به في المعتقلات التي تمتلئ بالمعارضين والأبرياء. ويتمّ تفعيل قانون الطوارئ، وشيطنة كلّ صوت معارض.
يقول الدكتور رفيق حبيب في دراسة له بعنوان “جمهورية الخوف”: “المخطط الرئيس للانقلاب العسكري، والذي يراهن قادة الانقلاب على نجاحه، ويعطون له الأولوية، هو إعادة بناء الدولة البوليسية، بشكل كامل. ولأنّ الانقلاب العسكري، هو عودة للوراء، ومحاولة لإعادة إنتاج الماضي، لذا فإنّ مخطط الانقلاب العسكري الرئيس، يهدف إلى استعادة دولة المخابرات، من زمن جمال عبد الناصر. ولا نقول استعادة دولة جمال عبد الناصر، ولكن فقط استعادة جانب واحد منها، وهو دولة المخابرات، حيث تسيطر أجهزة الأمن والمخابرات والجيش، على مختلف مناحي الحياة، وتمنع ممارسة الحريات السياسية بشكل كامل.
“وأول ملامح الدولة البوليسية، تمثل في غلق القنوات الفضائية المناهضة للانقلاب العسكري، أما بقية القنوات المؤيدة للانقلاب العسكري، فهي تدار أساسا من أجهزة الأمن والمخابرات، سواءً قبل الانقلاب أو بعده، ولن يسمح لها بالخروج عن السياسات الأمنية الموضوعة لها، لتصبح مجرد أجهزة توجيه معنوي؛ وأي وسيلة إعلامية سوف تخرج عن النطاق المسموح لها به، سوف تواجه الإغلاق. ومع مرور الوقت، سوف تضيق مساحة الحرية أكثر فأكثر، حتى نصل لسيطرة كاملة على كلّ وسائل الإعلام، تحت قيادة أمنية مخابراتية مباشرة. ومنذ اللحظة الأولى، بدأت سياسة الاعتقال، تحت مظلّة الإجراءات القانونية، والتي تسمح بتوسيع دائرة الاعتقال إلى حدود غير مسبوقة”. ويقول كذلك: “وإذا نجحت الخطوات الأولى، للقمع البوليسي، سوف تبدأ مباشرة مرحلة حظر القوى والجماعات الإسلامية، وتقنين تجريم العمل السياسي الإسلامي. ثم بعد ذلك، تبدأ مرحلة السيطرة على كلّ القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، والذي ستكون السيطرة عليها أمرا سهلا”.
 حكم الأقلية الفاسدة (Oligarchy)
يقول الأستاذ عبد المجيد الشاذلي في المحاضرة المذكورة إنّ نظام الحكم حين أتّصف بهذه الصفات الثلاثة السابقة: فردي، عسكري، بوليسي؛ فلا بدّ أن تأتي الخصلة الرابعة وهي Oligarchy حكم الأقليّة، والتي تعني – بتعبير الأستاذ عبد المجيد – “رأسمالية اللصوص وتسلّط الأقليّة”.
ويحكي الأستاذ في المحاضرة كيف تمرّغ الفاسدون من “الضبّاط الأحرار” بالمال الحرام، وسرقوا مجوهرات محمّد علي واستولوا على الأصول الملكية والمؤسسة الاقتصادية ونهبوها، ثم فرضوا الحراسة على أموال الناس ونهبوها، واستمرت عملية النهب منذ أن صودرتْ الحياة النيابية.
وقد يدخل في حكم الأقلية الفاسدة أن يتحالف رجال الأعمال الفاسدون مع الحكّام العسكريّين فيحدث ما يمكن تسميته “تحالف السلطة والثروة”. ومن الواضح جدّا كيف تحالفت السلطة أيّام مبارك والمجلس العسكري مع رجال الأعمال كساويرس وغيره من أصحاب الشركات العملاقة والقنوات التلفزيونية المنتشرة، وكيف ساهم رجال الأعمال في تمويل “البلطجية” لإسقاط حكم الدكتور مرسي، وما زال هذا التحالف بين رجال الأعمال الفاسدين والطغمة الحاكمة تحالفًا وثيقًا لا يخفى عن العيان.

1
 تسييس الدين واختيار شيوخ السلطان
يقول الأستاذ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله في كتابه “الحكومة الإسلامية: رؤية تطبيقية معاصرة” عن هذه الفكرة شارحًا معناها المذموم: “هو بمعنى جعل الدين مطيّة لأغراض سياسية، أو أن يكون الدين خاضعا لأهواء الناس ومواقفهم المخالفة للشريعة في حقيقتها، ثم يستدلّون على مواقفهم بالدين بحسب ما يوافق أهواءهم؛ لتبرير مواقف قد تكون كارثية للأمة، وتكون الحجّة في ذلك الدين! حتى يعطوا لأفعالهم المخالِفة شرعيةً دينيةً. كما كانوا يلجأون إلى الأزهر لتبرير المشاريع الفاسدة كحرب الخليج، أو لتمرير التوريث، أو للمشاركة في الانتخابات المزيفة كواجب شرعي! وكأخذ الدين حجّةً للبطش بالمعارضين، ولو كانوا شرفاء يبحثون عن مصالح الأمة ويحذرون الناس من مغبة استمرار خط الفساد.
وبالتالي فمعنى تسييس الدين هنا ألا يخضع لمعاييره العلمية الصحيحة، بل يخضع لأهداف النظم الحاكمة المستبدة لتثبيت حكمها، والقضاء على معارضيها، أو لنيل عرض زائل وحقير من أعراض الدنيا، وهذه جريمة، تقع في الدين كما تقع في غيره من المجالات، كما يُسيّس القضاء مثلا، فلا يخضع لمعاييره ويصبح تابعًا لأهواء الناس ولمواقف سياسية تستغلّه للضغط في اتجاهات تآمرية منحرفة، فلا يكون قضاءً مهنيًّا، بل تابعًا لمواقف مسبقة (كما في محكمة الحريري ومحاكمة البشير).
ومثله تسييس الاقتصاد وغيره من المجالات التي لها معاييرها المهنية والعلمية الخاصّة كتسييس العلم؛ فإنّ الإنجازات العلمية ظلّت ترتبط بالأهداف السياسية (والعسكرية منها على وجه الخصوص)، أكثر من ارتباطها بأيّة أهداف أخرى، مما جعل مسيرة العلم تنحرفُ عن مسارها الصحيح، لتركز على أنواع معينة من الكشوف والاختراعات، وتغفل من ثمّ الجوانب الأهمّ والأكثر فائدة للبشرية.
كذا تسييس الإعلام وتسخيره لخدمة الأغراض السياسية والحزبية في كثير من دول العالم العربي والإسلامي، ممّا أفقده القدرة على الحركة والحرية والإبداع. وخلا الميدان – بذلك – من المخلصين والمبدعين، وأصبح مليئًا بالمقلّدين والمهرّجين والمرتزقة!
فكذلك الدين له معاييره العلمية الشرعية التي يجب أن يُفهم من خلالها، وأن يُعرف حكم الله تعالى باتّباعها، فلو خضع لمواقف أخرى لكان بدعًا وأهواءً وانحرافاتٍ، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:78]”.
وكنموذج صارخ على هذه الخصلة، أي تسييس الدين، رأينا كيف استغلّ الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتّاح السيسي المؤسسة الدينية – بفروعها المختلفة – لإضفاء الشرعية الدينية على الانقلاب والحكم الجديد منذ اللحظة الأولى؛ حيث حضر بيان الانقلاب وأيّده كلٌّ من: شيخ الأزهر أحمد الطيب، وبابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تواضروس، وأحد رموز حزب النور “السلفي” وهو جلال مرّة.
 أرستقراطيةالنجوم فاحشة الثراء

فنانات
والمقصود ذلك التعاون الوثيق بين الحكم العسكري المستبدّ، وبين طبقة النجوم فاحشة الثراء. ومنهم نجوم السينما والمسلسلات والمسرح والفنّ والكرة والإعلام وغيرها. ومن مظاهر ذلك الامتناع عن التعرّض للحدّ الأقصى للأجور، لأنّه سوف يمسّ – أول من يمسّ – هذه الطبقة فاحشة الثراء، وفي المقابل يقوم رموز هذه الطبقة بإضفاء الشرعية على نظام الحكم، بما لديهم من حظوة في قلوب الجماهير، ولذلك يحرص المستبدّون على إرضائهم وكسبهم إلى جانبهم.
ومن المشاهد الساخرة لهذه الظاهرة ما نراه من حين لآخر من تملّق أحد النجوم لمبارك في تسجيلات قديمة، سواء من نجوم السينما أو الإعلام أو غيرهم، ثم تأييده لثورة 25 يناير بعد نجاحها في خلع مبارك، ثم عودته للتصفيق للفريق عبد الفتاح السيسي والإشادة به لكونه أحد الأبطال الذين أنقذوا مصر! وهكذا تتبدّل مواقف هؤلاء تبعًا لمصالحهم الاقتصادية من جهة، وتبعًا لرغبات السلطة الحاكمة من جهةٍ أخرى.
 العلمانية أو فصل الدين عن الدولة
وهذه الخصلة وإنْ كانت تتوفّر كذلك في النظم غير العسكرية، إلّا أنّها كانت صفة ملازمة للدولة العسكرية في السياق العربيّ الحديث، وفي السياق المصري على وجه الخصوص. وإذا استحضرنا بداية المقال وحديثنا عن استخدام النخبة العسكرية لفرض الهيمنة غير المباشرة للغرب على بلاد المسلمين، فهمنا جيّدا أهمّية توفّر هذه الخصلة في الدولة العسكرية العربية؛ فالمطلوب أن تكون النخبة العسكرية الممسكة بزمام الحكم معادية لهوية الأمة، لا ساعية لترسيخها، فبوصلة انتماء هذه النخبة الإيديولوجي تكون بحسب رغبة السيّد الأمريكي، الذي يهدف إلى سلخ الأمة عن هويّتها الإسلامية، وزحزحتها عن قيمها الإسلامية شيئًا فشيئًا، وليس كالطغمة العسكرية الحاكمة بالحديد والنار، بما تملك من أدوات الحكم والتأثير، ليس مثلها من يقوم بهذه المهمّة على أفضل وجه!
بل وقد لاحظنا كيف انحازت أبرز النخب العلمانية (حمدين صبّاحي – محمد البرادعي وغيرهم) إلى جانب الانقلاب “العسكري” ليحقّقوا مآربهم ومصالحهم. وكيف كانت خياراتهم السياسية دومًا أقرب للاستبداد وأبعد عن خيار الشعب الحرّ من خلال الانتخابات الحرّة والاستفتاءات الحرّة. ممّا يدلّ على تلك الصلة الوثيقة بين “العلمانية العربية” و”الدولة العسكرية العربية”.
يقول الدكتور رفيق حبيب في مقال له بعنوان “البحث عن ديمقراطية عسكرية”، ملخّصًا ظاهرة التحالف بين النخب العلمانية والاستبداد العسكري: “وإذا كان المقصود بالدولة الدينية، هي الدولة التي تحكم بالحق الإلهي وبفرض الوصاية على الناس، فالدولة التي تريدها بعض النخب السياسية هي دولة دينية أو عسكرية، تقوم فيها نخبة بالحكم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث تفرض إرادتها على الدولة، ويحمي الجيش هذه الإرادة. فالبعض يحاول بناء دولة تقوم على دور خاص للنخب العلمانية، بحيث تفرض هذه النخب طبيعة وهوية الدولة، ويقوم الجيش بحماية ما تفرضه النخب على الدولة، ويؤمّن لتلك النخب دور يفوق الإرادة الشعبية الحرة، ويعلو على إرادة الناس، بحيث تتمكن تلك النخب من مراقبة أي نخبة تصل للحكم، خاصة نخب التيار الإسلامي، وتمنعها من الخروج عن مقتضى العلمانية، وتلجأ تلك النخب للجيش لمنع أي تيار إسلامي من الحكم وفقا لتصوّره ورؤيته الإسلامية.
والحقيقة أنّنا بصدد بعض النخب التي تصوّر الدولة المدنية تصوّرا يجعلها دولة الحكم بالوصاية على الناس، أي دولة دينية ثيوقراطية، دينها العلمانية، وتريد هذه النخب من الجيش أن يحمي مشروعها. وتلك مفارقة، فبعد ثورة شعبية رائعة، يريد البعض بناء ديكتاتورية جديدة، تحت عناوين مضلّلة، مثل عنوان الدولة المدنية، الذي يراد به عكس ما يفهم من معناه، فكيف تكون الدولة مدنية، ويفرض فيها الوصاية على الشعب، ويحمي الجيش هذه الوصاية المفروضة على الناس؟”. العجيب أنّ هذا المقال للدكتور رفيق حبيب منشور منذ العام 2011!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى