الأرشيفتحليلات أخبارية

كلاب التعذيب وخنازير الأمن الوطني في مصر تحت حكم السيسي و البحث عن مدير تعذيب الأمن القومى

تقرير اعداد
فريق التحرير
منذ يوليو/تموز 2013، عندما أطاح الجيش المصري بأول رئيس منتخب بحرية في البلاد، عاد التعذيب كورقة رابحة للأجهزة الأمنية، وساعد انعدام المساءلة تجاه ممارساته المنهجية في تحديد شكل نظام الحكم السلطوي الذي يقوده الرئيس عبد الفتاح السيسي.
حاول السيسي الوصول إلى الاستقرار السياسي مهما كان الثمن، وهو ما منح وزارة الداخلية – مؤسسة الأمن الرئيسية في البلاد – الحرية الكاملة لارتكاب الانتهاكات ذاتها التي أشعلت انتفاضة عام 2011.
البحث عن مدير تعذيب الأمن القومى
طول هذا العام منذ نشر هذا التحقيق مع ما أرفقته حينها من صورة تخيلية قمت برسمها عن طريق أحد المتخصصين، وأنا أبحث عن تطور أساليب التحقيقات والتعذيب داخل مقرات هذا الجهاز ومبانيه الجديدة، قادني البحث للكثير، سنكشفه في حينه تباعًا، ولكن رغم هذا البحث ظل هناك شغفًا داخليًا بي عن تتبع أخبار هذا اللواء وكل ما ينشر عن وزارة الداخلية على أمل أن أجد صورة حديثة له.

تعيين اللواء محمود سيد عبد الحميد شعراوي، حيث تم ترقيته وتعيينه في 19 من ديسمبر 2015 من مساعد الوزير ومدير إدارة عامة بقطاع الأمن الوطني إلى مساعد لوزير الداخلية لقطاع الأمن الوطني، ومضى عام على تحقيقنا المنشور هنا على موقع نون بوست تحت عنوان الاختفاء القسري.. من داخل عاصمة جهنم، مضى عام وثلاثة أشهر، وحوادث الاختفاء القسري مستمرة حتى تجاوزت المئات، وتزايدت حالات التصفية الجسدية التي لم يكن جوليو روجيني أولها ولا الستة المختفون قسريًا في مدينة العريش الذين تم تصفيتهم واتهامهم أنهم إرهابيون قتلوا في اشتباك مسلح، وهو ما دفع منظمة العفو الدولية عبر بيانها هنا لطلب فتح تحقيق مستقل.
وجاء في التعليق على الصورة أن هذا الاجتماع قد ضم رئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية وعباس كامل ومدير المخابرات الحربية ومدير جهاز الأمن الوطني.
هنا بدأت البحث محاولاً إيجاد صورة بنقاء أعلى، وقد حددت دائرة البحث، حيث لم يكن سوى اثنين في الصورة لا أعرفهم، ومن المؤكد أن أحدهم هو اللواء محمود شعراوي، وفي هذا الإطار وجدت صورة دون أي لوجو، وقمت بتحديد الشخصين الوحيدين المحتملين بالدوائر الحمراء:

وبمراجعة تلك الصورة بالمعلومات السابقة عندي، من أن لون بشرة اللواء محمود شعراوي يميل للأسمر قليلاً، وينسق شاربه بطريقه معينة، وأنه ليس أصلع تمامًا، وبمقارنة تلك الصورة الأخيرة بالصورة التي رسمناها سابقًا، صار من المرجح عندي أن الشخص الجالس على يسار الصورة السابقة هو اللواء محمود سيد عبد الحميد شعراوي.
صار الآن البحث عندي أسهل، فقط عليّ استبعاد بشكل قاطع الشخص الجالس على يمين الصورة، قمت بمراجعة كل المواد الفلمية التي صدرت عن وزارة الداخلية في الأحداث المهة فقط، وتتضمن اجتماع وزير الداخلية بكبار مساعديه، فكان الموجود دائمًا فيها هو هذا الشخص:
الآن وبعد عام، أصبح لدينا صورة واضحة، للمسئول الأول لجهاز الإخفاء القسري والتعذيب الوطني (جهاز الأمن الوطني)، لعل البعض مازال يشكك بما نقول، كنا نؤجل نشر تلك المعلومات منذ شهرين لمزيد من التأكد، وبعد الزيارة صار كل شىء لدينا مؤكداً، ولكن النظام وفي تبجح واضح أعلن أيضًا صحة ما رصدناه، وفي تبجح واضح وعبر أحد أذرعته الإعلامية (قناة صدى البلد) أعلن أحمد موسى وهو مذيع بدرجة مخبر عن شخصية اللواء محمود شعراوي، ويمكن مراجعة الفيديو هنا.
جائت الزيارة تكريماً لجرائم جهاز التعذيب الوطني، جائت الزيارة في ذكرى اقتحام ثوار 25 يناير لمقرات هذا الجهاز، لتكون الزيارة رد اعتبار لهذا الجهاز وضباطه، رسالة تقول لهم وبصراحة: لقد تم لنا الأمر، فامضوا يا ابناء الشياطين، لتتركوا حق إلا وأزلتموه، ولا باطل إلا ورفعتوه، ولا مناضلاً إلا وعذبتموه ليرضخ، فإن أبى فاقتلوه.
عشرات الجرائم ارتكبت في عهد هذا الرجل، ولعل أشهر تلك الحوادث حادثة اختفاء الباحث الإيطالي جوليو روجيني يوم 25 من يناير 2016 ثم ظهوره بعدها يوم الأربعاء 3 من فبراير جثة هامدة نصفها عارٍ وملقى بإحدى الحفر في طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي وعلى بعد كيلومترات من مقر أمن الدولة بمدينة السادس من أكتوبر.
مئات من حوادث الاختفاء القسري حدثت خلال عهده، ظهر أفرادها بعدها على ذمة قضايا، بينما تم تصفية البعض مثل جوليو روجيني وغيره من عشرات الشباب المصري، وما زال المئات من ضحاياه من المختفين قسريًا مفقودين لا يعلم أهاليهم عنهم شيئًا.
البعض لا يعرف تاريخ هذا الرجل، وهو ما رصدناه سابقًا حيث إنه من مواليد سنة 1959، تخرج في كلية الشرطة سنة 1980، وتم تعيينه فور تخرجه بجهاز الأمن الوطني وهو شقيق اللواء محمد شعراوي أحد الذين تولوا منصب مساعد وزير الداخلية لقطاع أمن الدولة في عهد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي.
كان من المطلوبين للثورة المصرية عقب 25 من يناير نظرًا لاتهامه في جرائم تعذيب، وحين نشر اسمه كان يحمل رتبة عقيد، وارتبط اسمه بفترات سيئة من تاريخ مصر واشتهر كأحد أبرز ضباط التعذيب في عهد مبارك تحت رئاسة اللواء محمد سعيد رئيس مكتب قسم مكافحة التطرف الديني فرع القاهرة (الذي قتل لاحقًا).

تميزت فترته بازدياد أعداد المختفين قسريًا على مستوى الجمهورية كما وثقت ونشرت العديد من المنظمات الحقوقية (النديم، التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، المفوضية المصرية للحقوق والحريات، منظمة العفو الدولية).
كان يعمل في فترة نظام مبارك تحت اسم حركي “محمد لاشين”، حيث لا يعرف ضحاياه عنه في هذه الفتره سوى هذا الاسم، أطلق عليه بعض ضحاياه لقب “النجس“، حيث إنه لا يتورع عن فعل أي شىء، كما أنه يستلذ بالتعذيب، ووفق أحدث ما رصدته، فإن أحدث طرق التعذيب التي صار يعتمدها، هو تعذيب بعض المختفين قسريًا بالجير الحي.
الآن وبعد عام من نشر تحقيقي الأول عن جهاز أمن الدولة، صار لدينا وبشكل معلن صورة المسئول الأول داخل جهاز الأمن الوطني عن تلك الجرائم، الصورة الآن بين يدي ذوي ضحايا عمليات التصفية الجسدية، وذوي وضحايا حوادث التعذيب والاختفاء القسري، لعلها تساعد يوماً دموع قلوب الآباء الصامتة حزناً، وآهات الأمهات على فلذات أكبادهم وهم يعذبون، ودموع الزوجات على أحبتهم الذين اختطفوا من بينهم، وتساؤلات الأبناء عمن حرمهم من آبائهم. الصورة بين يديكم من أجل أن يكتمل ملف العدالة بمعرفة المتهم.
استخدمت الشرطة العادية و”قطاع الأمن الوطني” التابعين لوزارة الداخلية على نطاق واسع الاعتقالات التعسفية، الإخفاء القسري، والتعذيب ضد معارضين مشتبه بهم، زعم أن العديد منهم يتعاطفون مع “الإخوان المسلمون”، الجماعة الرئيسية التي تعارض السيسي. حدّدت “التنسيقية المصرية للحقوق والحريات” (التنسيقية المصرية)، وهي مؤسسة حقوقية مستقلة، 30 شخصا ماتوا تحت التعذيب أثناء احتجازهم في مراكز الشرطة ومواقع الاحتجاز الأخرى التابعة لوزارة الداخلية، بين أغسطس/آب 2013 وديسمبر/كانون الأول 2015. في 2016، أفادت التنسيقية المصرية أنها محاميها تلقوا 830 شكوى بشأن التعذيب، وأن 14 شخصا آخرين ماتوا من التعذيب أثناء الاحتجاز. 
قالت “هيومن رايتس ووتش” في تقرير إن ضباط وعناصر الشرطة و”قطاع الأمن الوطني” في مصر، في عهد عبد الفتاح السيسي، يعذبون المعتقلين السياسيين بشكل روتيني بأساليب تشمل الضرب، الصعق بالكهرباء، وضعيات مجهدة، وأحيانا الاغتصاب.
يبين هذا التقرير، استنادا إلى مقابلات مع 19 محتجزا سابقا وعائلة معتقل آخر تعرضوا للتعذيب بين 2014 و2016، كيف يستخدم عناصر وضباط الشرطة والأمن الوطني التعذيب بانتظام أثناء تحقيقاتهم، لإجبار المعارضين المشتبه بهم على الاعتراف أو الكشف عن معلومات أو لمعاقبتهم.
وصف المحتجزون السابقون الذين تمت مقابلتهم لإعداد هذا التقرير ما يشكل سلسلة إجراءات متكاملة لارتكاب الانتهاكات بهدف تلفيق قضايا ضد المعارضين المشتبه بهم، تبدأ بالاعتقال التعسفي، ثم تستمر بالتعذيب والاستجواب خلال الاخفاء القسري، وتنتهي بتقديمهم أمام وكلاء النيابة، الذين كثيرا ما يضغطون على المحتجزين لتأكيد اعترافاتهم دون اتخاذ أي تدابير للتحقيق في الانتهاكات التي يتعرضون لها. شجع وكلاء النيابة في حالات عديدة وثقتها “هيومن رايتس ووتش” على إساءة المعاملة عن طريق تأكيد تواريخ الاعتقال المزورة التي قدمها عناصر الأمن الوطني، الذين زعموا أنهم قبضوا على المشتبه فيهم قبل يوم من تقديمهم إلى النيابة العامة، مما أدى بالفعل إلى محو السجل الرسمي للإخفاء القسري. هدد أحد وكلاء النيابة بإعادة محتجز إلى التعذيب. شارك 2 في الضرب بنفسيهما، وفقا للمحتجزين السابقين وأسرهم.
انتهكت كل خطوة من هذه الخطوات الدستور المصري، الذي يحظر بوضوح الاعتقالات دون مبرر والاستجواب دون حضور محام، ويطالب بأن يُسمح للمحتجزين بالبقاء صامتين وتقديمهم إلى النيابة العامة خلال 24 ساعة وإبلاغهم فورا بسبب اعتقالهم، والسماح لهم بالاتصال بمحام وأحد أفراد عائلتهم. يحظر الدستور التعذيب، التخويف، الإكراه، والأذى “البدني أو المعنوي” بحق المحتجزين، ويحدد أن التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم. ينص أيضا على وجوب تجاهل أي إفادة يدلي بها المحتجز تحت التعذيب أو التهديد بالتعذيب. تعكس هذه المعايير التزامات مصر بموجب أبسط قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، التي تحظر التعذيب بحزم في جميع الظروف. لكن مصر لم تف بها
قال المعتقلون السابقون الذين قوبلوا في هذا التقرير إن تجاربهم كانت تبدأ عادة بمداهمة منازلهم فجرا، أو اعتقالهم من الشارع قرب مكان يعرف ارتيادهم إياه، مثل المنزل أو الجامعة أو مكان العمل. لم يظهر رجال الشرطة أو الأمن الوطني للمشتبه فيهم مذكرة توقيف أو أخبروهم عن سبب اعتقالهم، في أي من الحالات التي وثقتها هيومن رايتس ووتش. في بعض الحالات، اعتقلوا أفراد الأسرة في نفس الوقت. ثم نقل العناصر المشتبه فيهم إلى مراكز الشرطة أو مقرات الأمن الوطني.
من بين الحالات الـ 20 التي وثقتها هيومن رايتس ووتش، تعرض 13 محتجزا للتعذيب في مقرات الأمن الوطني، و5 في مراكز الشرطة، و2 في كلا المكانين. تعرض 6 رجال للتعذيب في المقر الرئيسي للأمن الوطني داخل وزارة الداخلية بالقرب من ميدان لاظوغلي في القاهرة، وهو المكان الذي تحدث المحتجزون عن تعرضهم للتعذيب فيه على مدى عقود. في 5 حالات، استخدم عناصر الأمن التعذيب لإرغام المشتبه فيهم على قراءة اعترافات مكتوبة مسبقا أمام الكاميرا، لتسجيل فيديوهات نشرتها وزارة الداخلية في بعض الأحيان على قنوات التواصل الاجتماعي.
لا تمثل الشهادات في هذا التقرير إلا بعض من حالات التعذيب الكثيرة التي وثقتها هيومن رايتس ووتش تحت حكم السيسي، والتي شملت أطفالا تعرضوا للتعذيب في الإسكندرية بعد اعتقالهم بسبب التظاهر؛ رجالا تعرضوا للتعذيب من قبل عناصر الأمن الوطني والاستخبارات العسكرية بعد تفجير في كفر الشيخ؛ ومستشار وزارة المالية السابق وشقيقه، اللذين تعرضا للتعذيب بالصدمات الكهربائية على يد عناصر الأمن الوطني لإرغام المستشار على الاعتراف بأنه عضو في الإخوان المسلمين. سجّل صحفيون ومنظمات غير حكومية عشرات الحالات الإضافية منذ 2013.
وفقا للمعتقلين، تبدأ جلسة التعذيب النموذجية بتعريض عناصر الأمن المحتجز وهو معصوب العينين وعار ومقيد اليدين للصدمات الكهربائية بأداة الصعق، وفي كثير من الأحيان في أماكن حساسة مثل الأذنين أو الرأس. في نفس الوقت، يصفعون المشتبه به أو يلكمونه أو يضربونه بالعصي والقضبان المعدنية. إذا لم يقدم المحتجز إجابات مرضية على أسئلتهم الأولية، يزيد العناصر مدة الصدمات الكهربائية ويستخدمون أداة الصعق على أجزاء أخرى من جسمه، بما فيها أعضاؤه التناسلية. يستخدم المحققون الأسلاك المكهربة أيضا في بعض الأحيان.
بعد الصدمات الكهربائية، يستخدم الأمن أسلوبين رئيسيين لإلحاق ألم شديد بالمشتبه بهم. في الأول، يقيد العناصر يدي المشتبه به خلف ظهره، ويسحب يديه، ويعلق أصفاده على الحافة العلوية من الباب، ليرفعه فوق الأرض، وهي وضعية غير طبيعية تسبب ألما شديدا في الظهر والكتفين، وأحيانا تتسبب بخلعهما. يسحب بعض العناصر ساقي المشتبه به لزيادة الألم. وفي أشكال أخرى لهذه الطريقة يُعلق المشتبه به من أصفاده على خطاف في السقف، ليُرفع بشكل غير طبيعي من الخلف. أما وضعية الأسلوب الثاني، التي تسمى “الفرخة” أو “الشواية”، فتشمل وضع المشتبه به على ظهره على الأرض، ووضع ركبتيه فوق عصا أو قضيب، وتُلف يديه حول القضيب من الجانب الآخر بحيث يربط القضيب بين المرفقين الملتويين والجزء الخلفي من ركبتيه، وتُربط يديه معا فوق قدميه لتأمين الوضعية. عندما يرفع العناصر القضيب ويعلقون المشتبه به في الهواء، يبدو كدجاجة على شواية، ويتسبب وزن المشتبه به بألم شديد في الأكتاف والركبتين والذراعين.
يبقي العناصر المشتبه بهم في وضعيات التعذيب هذه فترات زمنية تتراوح بين دقائق وساعات، وكثيرا ما يضربونهم ويصدمونهم بالكهرباء وهم معلقون وغير قادرين على الدفاع عن أنفسهم.
في عدة حالات، تجاوز عناصر الأمن هذه الطرق المعتادة للتعذيب. قال أحد المعتقلين السابقين لـ هيومن رايتس ووتش إن العناصر في مركز شرطة في القاهرة اغتصبوه مرارا بإدخال عصا في فتحة الشرج. قال آخر إن ضباط الأمن الوطني في وزارة الداخلية هددوا باغتصابه. قال محتجز سابق لدى عناصر الأمن الوطني في منشأة بمحافظة الجيزة إنهم اقتلعوا أحد أظافره بكماشة وآخر بأسنانهم. قال محتجز آخر في وزارة الداخلية إن عنصرا من الأمن الوطني غرز في ذراعه مسمارا معدنيا ملفوفا بأسلاك مكهربة لزيادة آلام الصدمات الكهربائية. قال محام احتجزه عناصر الأمن الوطني في منشأة في محافظة الغربية إنهم لفوا سلكا حول قضيبه لصدمه بالكهرباء. قال 3 محتجزين سابقين لـ هيومن رايتس ووتش إن عناصر الأمن هددوا بتعذيب أفراد أسرهم إذا لم يعترفوا.
في معظم الحالات، أوقف عناصر الشرطة والأمن الوطني استخدام التعذيب بمجرد حصولهم على اعترافات أو أسماء أصدقاء ومعارف المشتبه بهم. لكن لم يعنِ ذلك أن محنتهم قد انتهت. في جميع الحالات تقريبا، كان التعذيب والاستجواب بمثابة مقدمة لإجراءات الادعاء، التي انتهى بعضها إلى المحاكمة.
قال محتجز واحد فقط من المحتجزين السابقين الـ 19 الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش، وهو طالب ضربه عناصر الشرطة، صدموه بالكهرباء، علقوه إلى السقف، واغتصبوه باستخدام عصا، إن العناصر أخذوه إلى وكيل النيابة خلال 24 ساعة من القبض عليه، حسبما يتطلب القانون المصري. قال 10 محتجزين إن العناصر احتجزوهم بصورة غير مشروعة لأكثر من أسبوع قبل تقديمهم إلى وكيل النيابة. انتظر 8 من هؤلاء الرجال شهرا على الأقل لرؤية وكيل النيابة. لم يسمح لأي منهم الاتصال بمحامين أو أقارب لهم مسبقا. من بين المعتقلين العشرة الذين رأوا وكيل النيابة في غضون أسبوع من اعتقالهم، لم يسمح لأغلبية المحتجزين بمحام حتى أثناء استجوابهم.
يقتضي القانون الدولي تقديم المحتجزين بسرعة إلى قاض، عادة في غضون 48 ساعة، لاستعراض احتجازهم، ولكن القانون المصري لا يوفر مثل هذه الحماية. يمنح “قانون الإجراءات الجنائية” المصري النيابة العامة، وليس القضاة، سلطة تجديد الاحتجاز السابق للمحاكمة في جميع القضايا الخطيرة التي تنطوي على جرائم سياسية أو متعلقة بالأمن الوطني، ما يسمح للنيابة العامة باحتجاز المعتقلين مؤقتا لمدة تصل إلى 18 شهرا، وإذا كانت الجريمة يعاقب عليها بالإعدام أو السجن مدى الحياة، لمدة تصل إلى سنتين. رغم أنه على القضاة في نهاية المطاف مراجعة اعتقال المشتبه فيه خلال هذه الفترة، إلا أن قرار تجديد الاعتقال من صلاحية النيابة العامة.
قال جميع المحتجزين السابقين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش، باستثناء واحد منهم، إنهم أبلغوا وكلاء النيابة العامة بتعذيبهم، ولم يشهدوا في أي حالة دليلا على أن هؤلاء اتخذوا أي إجراء للتحقيق في ادعاءاتهم، وفقا لما يقتضيه القانون الدولي. هذا يتناقض مع الادعاءات التي تكررها مصر في المحافل الدولية، ومفادها أن وكلاء النيابة يحققون في جميع مزاعم الانتهاكات.
أدى التعذيب الممنهج والإفلات من العقاب على ممارسته إلى خلق مناخ لا يرى فيه من يتعرضون للإساءة أي فرصة لإخضاع المسيئين للمساءلة. لم يحاول معظم المحتجزين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش السعي إلى تحقيق للمساءلة بعد أن تجاهل الادعاء مزاعمهم بالتعذيب. كما وجد معظمهم أنفسهم مطلوبين من قبل عناصر الأمن الوطني في قضايا جديدة بعد الإفراج عنهم، واعتقدوا أن أي اتصال آخر مع نظام العدالة الجنائية من شأنه أن يولد لهم محنة أخرى طويلة من سوء المعاملة والاخفاء.

الممارسات المحددة الموثقة في هذا التقرير بالتأكيد ليست جديدة. سجّلت هيومن رايتس ووتش استخدامها لأول مرة في بداية عام 1992، وكتبت حينها أن “جهاز مباحث أمن الدولة” (أمن الدولة)، الذي تمت إعادة تسميته “قطاع الأمن الوطني”، لديه “نظام لتدريب أفراد أمن الدولة على تقنيات التعذيب”. في عام 1996، خلصت “لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة” إلى أن “التعذيب يُمارس بشكل منهجي من قبل قوات الأمن في مصر، ولا سيما من قبل مباحث أمن الدولة”. خلص تحقيق ثانِ في حالة مصر، نشرت نتائجه “لجنة مناهضة التعذيب” في يونيو/حزيران 2017، إلى أنه “يفلت مرتكبو أعمال التعذيب على الدوام تقريبا من العقاب، وأن “الحقائق التي جمعتها اللجنة تقود “إلى استنتاج لا مفر منه وهو أن التعذيب ممارسة منهجية في مصر”.
يبين هذا التقرير، وتقارير أخرى نشرتها منظمات غير حكومية مختلفة على مدى السنوات الـ 25 الماضية، أن عناصر الشرطة والأمن الوطني ارتكبوا على مدى عقود أنواعا متطابقة من التعذيب في مراكز الشرطة ومديريات الأمن ومقرات الأمن الوطني في جميع أنحاء البلاد، ما يشير إلى أن الممارسة كانت آنذاك وما زالت الآن منهجية ومنتشرة على نطاق واسع. بموجب القانون الدولي، يمكن اعتبار التعذيب جريمة ضد الإنسانية، تحاكَم أمام “المحكمة الجنائية الدولية” إذا ارتُكبت “في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق”. تعتقد هيومن رايتس ووتش أن وباء التعذيب في مصر يشكل على الأرجح جريمة ضد الإنسانية.
رغم الانتفاضة التي شهدتها كافة أنحاء البلاد في عام 2011 والتي تأججت إلى حد كبير بوحشية قوات الأمن، استمر التعذيب رغم 4 تغييرات متتالية في النظام. لم تكن هذه النتيجة محتومة. بعد الانتفاضة، ترأس إصلاح قطاع الأمن جدول أعمال كل مجموعة سياسية وحركة احتجاج تقريبا. بدا أن الوقت قد حان لإعادة بناء وزارة الداخلية، المؤسسة التي تمثل قلب إرهاب الدولة لآلاف المصريين. لكن منذ البداية، عرقلت كل من الحكومات العسكرية والمدنية الإصلاح، ولم تجر تحقيقا شاملا في انتهاكات وزارة الداخلية لسنوات سبقت الانتفاضة وأدت إلى اندلاعها.
منذ أن أطاح الجيش بالرئيس السابق محمد مرسي عام 2013، أعادت السلطات تشكيل وتوسيع الأدوات القمعية التي عُرفت أثناء حكم الرئيس حسني مبارك الذي دام نحو 30 عاما قبل الانتفاضة. ازدادت حالات الاخفاء القسري وسوء المعاملة في السجون والتعذيب والقتل خارج القضاء بشكل ملحوظ بعد مارس/آذار 2015، عندما عيّن السيسي مجدي عبد الغفار وزيرا للداخلية، وهو من قدامى المسؤولين في أمن الدولة والأمن الوطني لـ 3 عقود. في 9 أبريل/نيسان 2017، أعلن السيسي حالة الطوارئ، بعد التفجيرات الانتحارية التي نفذها تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضا بـ “داعش”) في كنيستين أسفرت عن مقتل 45 شخصا، وركز في القانون على صلاحيات الاعتقالات والمراقبة
والاحتجاز التي تمارسها الشرطة والأمن الوطني. لا تزال حالة الطوارئ هذه قائمة حتى وقت إعداد هذا التقرير.
حتى قبل حالة الطوارئ، عملت قوات الأمن مع إفلات تام من العقاب. وجدت هيومن رايتس ووتش خلال مراجعتها معلومات متاحة للجمهور 6 قضايا فقط استطاع فيها وكلاء النيابة نيل حكم بإدانة عناصر في وزارة الداخلية متهمين بتعذيب المعتقلين منذ يوليو/تموز 2013، من بين مئات من مثل هذه المزاعم. لم يبدُ أن أيا من هذه الأحكام أيدته محكمة الاستئناف حتى وقت إعداد هذا التقرير للنشر. حتى الآن، لم تُصدر أي محكمة في التاريخ المصري الحديث حكم إدانة نهائي ضد عنصر في أمن الدولة أو الأمن الوطني لارتكاب انتهاكات.
يتمتع موظفوا إنفاذ القانون بحرية في البيئة التي يحددها قانون الطوارئ، ولا يشكك القضاة ووكلاء النيابة العامة المكلفون بذلك في أعمالهم. في الوقت نفسه، عمدت السلطات إلى تقويض الجهود داخل مصر لمكافحة التعذيب بإغلاق “مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب”، وهي المنظمة الأبرز في البلاد والمكرسة لتوثيق الضحايا ومعالجتهم، ومن خلال فتح تحقيقات ضد القضاة والمحامين الذين وضعوا تشريعات لمكافحة التعذيب. حتى الآن، لم تتحقق آثار الحكم الصادر في 3 يوليو/تموز 2017 عن “المحكمة الإدارية العليا”، الذي يأمر وزارة الداخلية بالتحقيق في أماكن تواجد جميع المواطنين المفقودين، بمن فيهم الذين يُدّعى أنهم أُخفوا قسرا. في الماضي، تجاهلت وزارة الداخلية هذه الأحكام بشكل صارخ مرارا وتكرارا.
في الوقت نفسه، لا يزال المسؤولون الحكوميون على أعلى مستوى ينكرون خطورة وباء التعذيب، محاكين موقف إدارة مبارك بأن التعذيب يرتَكب أحيانا وفقط من قبل عناصر في حالات فردية. عندما سُئل السيسي وعبد الغفار عن التعذيب في مصر، استخدما جملا محددة بأن التعذيب لا يحدث في السجون، وهو ما يبدو وكأنه محاولة تجنب مناقشة التعذيب المتفشي في أماكن أخرى، في مراكز الشرطة ومقرات الأمن الوطني. رغم الأدلة الدامغة التي تخالف التصريحات، ذكر وفد مصر لدى “مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة” خلال المراجعة الدورية الشاملة الخاصة بالبلاد أواخر عام 2014 أنه “يُحقَّق في جميع ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة، ويُقدم الجناة إلى العدالة”.  
يوضح هذا التقرير أن هذه التصريحات غير صحيحة، ويعيد تقديم النتائج ذاتها التي توصلت إليها هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى خلال سنوات من العمل، بأن الإطار القانوني الذي يجرّم التعذيب في مصر لا يزال غير كاف ولا يفي بالتزامات مصر الأساسية بموجب القانون الدولي، مما يسمح للضباط والعناصر المسيئين بالتهرب من العدالة. كما يوثق أن النيابة العامة – السلطة المخولة بالتحقيق في انتهاكات وزارة الداخلية – تقوم بانتظام بتجاهل الشكاوى المتعلقة بالتعذيب، تدعم صراحة أو ضمنا استخدامها من قبل الشرطة أو عناصر الأمن الوطني، نادرا ما تمارس سلطتها القانونية لإجراء زيارات تفتيش غير معلنة إلى مراكز الشرطة، ولا تجري مثل هذه الزيارات نهائيا لمقرات الأمن الوطني. لا يستطيع “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، وهو الهيئة الوحيدة الأخرى التي يأذن لها القانون بزيارات الاحتجاز، فعل ذلك إلا بعد الحصول على إذن من مسؤولي الشرطة أو الأمن الوطني المعنيين، مما يجعل هذه السلطة عمليا بلا معنى.
توصي هيومن رايتس ووتش بأن يوجه السيسي وزارة العدل على الفور إلى إنشاء منصب مدع خاص أو مفتش عام للتحقيق في الشكاوى المتعلقة بإساءة المعاملة من قبل ضباط وعناصر وزارة الداخلية، ومقاضاة هذه الشكاوى في المحكمة، والاحتفاظ بسجل متاح للجمهور للشكاوى الواردة ونتائج التحقيقات. في الوقت نفسه، نحثّ البرلمان على تعديل تعريف التعذيب في المادة 126 من قانون العقوبات لجعله يتماشى مع “اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، وتشديد العقوبات في المادة 129 المتعلقة باستخدام المسؤولين للعنف، وزيادة العقوبات المنصوص عليها في المادة 282 المتعلقة بالتعذيب أثناء الاحتجاز غير القانوني من أجل جعل هذه العقوبات تتناسب مع خطورة الجرائم.
بموجب القانون الدولي، يُعامل التعذيب باعتباره جريمة من اختصاص الولاية القضائية العالمية، ما يعني أنه يمكن مقاضاتها في أي مكان. تُلزم الدول بتوقيف أي شخص في أراضيها يشتبه في تورطه في التعذيب والتحقيق معه، وأن تحاكمه إذا كانت هناك أدلة كافية على إدانته. رغم أنه من الأفضل لضحايا التعذيب محاسبة مرتكبيه في البلد الذي وقع فيه التعذيب، إلا أن الولاية القضائية العالمية تعمل كشبكة أمان عندما تكون الدول، مثل مصر، غير راغبة أو غير قادرة على التحقيق بشكل صحيح ومحاكمة المشتبه بارتكابهم التعذيب.
في غياب جهد جدي من قبل حكومة السيسي لمواجهة تفشي التعذيب، نحث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على التحقيق مع عناصر الأمن المصريين وغيرهم من المسؤولين المتهمين بارتكاب التعذيب أو السماح بحدوثه، وإذا اقتضت الضرورة مقاضاتهم في محاكمها، وفقا لمبدأ الولاية القضائية العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى