لايف ستايل

كيف يمكننا تكوين صداقات وثيقة في الكِبر؟ وهل حقاً نحتاج ذلك؟

غالباً ما يتردد بين مجموعات البالغين شكل من أشكال هذه الشكوى: من الصعب تكوين صداقات وثيقة كشخصٍ بالغ. وإذا لم تكن على تواصل دائم بأصدقاء طفولتك أو جامعتك لأي سببٍ من الأسباب، فمن الممكن أن ينتهي بك الحال، في الثلاثينيات أو الأربعينيات أو الخمسينيات، من عمرك وأنت تعرف كثيراً من الأشخاص، لكنك لست مقرباً إلا لعدد قليل جداً منهم.

حين تكون مرهَقاً ومثقَل كاهلك، سيصعب عليك استحضار
الدافع إلى تناول العشاء مع صديقك في مقابل متابعة Netflix في أثناء تناول العشاء مع زوجتك. لكن نتائج البحث تشير بوضوح إلى
أنَّ: الصداقات الوثيقة ضرورية من أجل الصحة والسعادة.

قالت سيرينا تشن، خبيرة علم النفس الاجتماعي
والأستاذة بجامعة كاليفورني، لصحيفة The New York Times: «نحن مخلوقات اجتماعية ونحب المشاركة. فحين نكون في علاقة
حميمة مع شخص آخر، نشهد استجابات عقلية وجسدية إيجابية في الجسم والعقل والقلب».

درَسَ أمير ليفين، طبيب نفساني ومتخصص بعلم الأعصاب
ومؤلف كتاب «Attached:
The New Science of Adult Attachment and How It Can Help You
Find and Keep Love»، البشر والحيوانات بغية فهم الترابط الإنساني.

وقال ليفين: «تعد الروابط الاجتماعية الوسيلة الأقوى بالنسبة لنا لضبط شعورنا بالألم النفسي. فقربك من شخص تربطك به علاقة آمنة، هو الطريقة الأكثر فاعلية لتهدأ في حال كانت مشاعرك مضطربة».

بالنظر إلى الثقافة الشعبية كمرجع لفهم معنى الصداقة
الوثيقة، نجد بعض الكليشيهات الشائعة: صديقك هو من يفديك بروحه؛ الصديق هو ذلك
الشخص الذي يمكنك الاتصال به في منتصف الليل وتعلم أنه سيساعدك بغضّ النظر عما
سبَّبت له من إزعاج؛ صديقك هو من تستطيع مشاركته أي شيء.

لكن لا يُشترط أن تكون الصداقة الوثيقة الصادقة
علاقة جامحة.

قالت سيرينا: «الشعور بالألفة هو أساس الصداقة
الوثيقة، ويكمن جزء كبير من هذا التآلف في القدرة على أن تكون نفسك بالكامل، وأن
يراك الآخرون ويفهموك. فعندما لا يفهمنا الأشخاص المقربون منَّا، يقل الشعور
بالألفة».

يعد التشارك أيضاً عاملاً جوهرياً لخلق الشعور
بالألفة. وتوضح سيرينا أنَّ جميع الأشخاص الذين تعرفهم على مواقع التواصل
الاجتماعي، فيسبوك أو إنستغرام، ليسوا بالضرورة أشخاصاً مقربين، لأننا «حين
ننشر شيئاً ما على فيسبوك ويشجعنا الناس من خلال كتابة التعليقات اللطيفة، التي
يكون وقعها علينا جيداً، فإنها لا تخلق شعور الألفة بالضرورة، لأنها تفتقر إلى
الأخذ والعطاء».

يكمن جزء كبير من الألفة في شعور كل طرفٍ بأن الآخر
يراه ويفهمه.

إذا كان صنع صداقات وثيقة أمراً جوهرياً من أجل صحة
الإنسان النفسية، فالظاهر أننا سنكون ماهرين بالفطرة فيه.

لكن اتضح أنَّ العكس ربما هو الصحيح: الصداقات
الوثيقة مهمة للغاية بالنسبة لنا، لأنها أمرٌ يصعب الحصول عليه.

إذ يرى جون كاسيوبو، عالم الأعصاب المتخصص بدراسة
العُزلة (توفي في 2018)، أنَّ البشر من المحتمل طوروا ميلاً متأصلاً ضد تكوين
الصداقات بسهولة، لأن اجتناب عدوٍّ سيكون مهماً أكثر من الحصول على صديق.

وقال كاسيوبو: «إذا أخطأت الحُكم على شخص
واعتبرته عدوّي، وانقلب الحال ليصبح صديقي، فلا بأس بهذا، لا أصادق الناس بالسرعة
نفسها، لكنني سأتحمل الأمر. لكن إن حدث العكس، وأصبح صديقي عدواً لي، فقد يكلفني
ذلك حياتي. لقد تشكَّلنا عبر الزمان بهذه النزعة الإنسانية».

تُطرح حالة التوتر هذه بشكلٍ أكثر تفصيلاً في عالمنا
المعاصر. إذ تقول سيرينا: «ثمة نقاش طويل في مجتمع علم الأعصاب حول ما يفضّله
البشر أكثر: أن يكونوا محل إعجابٍ أم معروفين. وأوضحت أنَّ الإعجاب كان مصحوباً
بكثير من الامتيازات: شعورٌ جيد، مصحوبٌ بمنافع اجتماعية، وقد تصحبه أيضاً مكانة
مرموقة ومكاسب مالية.

لكن أن نكون محل إعجابٍ ومعروفين بطرقٍ قد لا تتفق
مع الطريقة التي نرى بها أنفسنا بالفعل -فربما نحن غير واثقين بأنفسنا أو ناجحين
كما يعتقد الآخرون- يمكن أن يكون له تأثيرٌ على رغبتنا في أن يفهمنا الآخرون وفي
أن نقترب منهم.

فمن الناحية الثقافية، يركز الناس أكثر على النجاح
الوظيفي، والإنجازات المالية، والخطوات البارزة على المستوى العائلي، في مقابل مدى
تواصلهم مع الآخرين.

وأشارت سو جونسون، وهي واحدة من علماء النفس
الرائدين في مجالات الترابط الأسري والارتباط والعلاقات الرومانسية، ومؤسسة المركز
الدولي المختص في العلاج المرتكز على الناحية العاطفية
«ICEEFT»،
إلى أنَّه حين يسرد شخصٌ ما أهداف حياته -أو حتى قرارات السَّنة الجديدة- نادراً
ما يذكر رغبته في تكوين صداقات وثيقة، أو التقرُّب أكثر من أصدقائه
الحاليين.

وأضافت، قائلةً: «حين يتعلَّق الأمر بالصداقة،
فإننا نختار الكمَّ فضلاً عن الجودة؛ ومن ثم يصبح السؤال هو: كم شخصاً سيحضر حفل
عيد ميلادك؟

في حين أنَّ السؤال الذي يستوجب طرحه هو: في حال كنت
مستعداً للانفتاح وإظهار هشاشتك مع عدد قليلٍ منهم، فهل أنت على استعدادٍ لتستمع
إليهم عاطفياً وتتجاوب معهم متى احتاجوك؟».

إذا كنت ترغب في توطيد صداقاتك، فالخطوة الأولى هي
أن تقرر أنك ستفعل شيئاً حيال ذلك.

قالت سو: «ننظر إلى العلاقات باعتبارها أشياء
تحدث لنا، ولكن الحقيقة هي أننا نصنعها»، إذ يتطلَّب التقرب من أصدقائك
الحاليين تخصيص الوقت لهم.

فيما يلي، 5 تقنيات يمكنك تجربتها بمجرد أن تقرر العمل على توطيد صداقاتك.

إننا بحاجة إلى الشعور بالأمان، قبل أن نحاول توطيد
علاقاتنا. حدَّدَ أمير، من خلال البحث الذي أجراه، العناصر الأساسية الخمسة
للعلاقات الآمنة، والتي يشير إليها بالاختصار «CARRP».

بمجرد توافر تلك العناصر الخمسة، يمكن أن يمهَّد
الطريق لتواصلٍ أعمق. إذ يقول أمير: «حالما نشعر بالأمان، من منظور الترابط
والتعلُّق، يمكننا أن نتحلى بروح المغامرة والمرح أكثر، وهو ما يساعدنا على إنجاز
العمل، وتربية أطفالنا، فضلاً عن جوانب حياتنا الأخرى».

ولا يعني هذا وجوب الرد على الرسائل النصية في غضون
ساعة من وقت تلقِّيها، ولكن المقصود هو أنك بحاجة إلى بناء قاعدة أساسية من الوجود
والتجاوب، حتى يشعر أصدقاؤك بالأمان في  علاقة الصداقة التي تجمعكم.

وبالمثل، إذا كان لديك أصدقاء لا يُعتمد عليهم، ولا
يتجاوبون معك، وغير جديرين بالثقة، فسيكون من الأفضل بالنسبة لك معرفة ما إذا كان
بإمكانهم تغيير تلك الصفات أم لا، وإلا فابحث عن أشخاصٍ آخرين لتحصل على صداقة
وثيقة.

قال أمير: «كثيراً ما نُحدِّث أنفسنا بضرورة
ألا نعير الأمر اهتماماً في حال ألغى شخصٌ ما الخطط، أو كنا لا نعتمد عليه، ونرى
ضرورة أن نكون مسترخين أكثر ونتوقف عن التصرف باحتياجية. لكن هذا الأمر أشبه
بمعاندة تركيبنا الأساسي».

تكمن الخطوة التالية لتكوين صداقات وثيقة في أن تفتح
عينيك. يتمتع البشر بمقدرة فريدة على قراء المشاعر عن طريق محاكاة تعبيرات الوجه
الخفية.

تقول سو: «ينشأ الشعور بالألفة من الاهتمام
والانسجام. فحين تنظر إلى شخص وأنت في انتباهك بالكامل، تبدأ عضلات وجهك في عكس
عضلات وجهه خلال جزء من الثانية. فإذا لم تكن توليهم انتباهك، فستفقد الشعور بهم
كلياً».

تساعدنا هذه المحاكاة في التعاطف مع التجارب
العاطفية للشخص الآخر. وتقترح سو، حين تكون مع صديق يشاركك شيئاً ما عن حياته، أن
تنظر في وجهه مباشرةً وتهتم بما يقول تماماً، وسيترتب على هذا خلق إيحاء نفسي
بالتواصل.

إذا كنت ترغب في أن يرى الناس شخصيتك الحقيقية،
فعليك أن تكون على استعداد للتوقف عن التظاهر بأنَّك شخص ألطف أو أكثر ذكاءً مما
أنت عليه.

اعترف بأنك تغار من إنجازات الآخرين، أو أنك لا
تُنظف أسنانك دائماً قبل النوم. قل تلك الدعابة السخيفة، وشارِك تلك التفاصيل
المُنفِّرة.

قال دونالد ميلر، مؤلف كتاب «Scary Close: Dropping the Act and Finding True Intimacy«: «عليك أن تحاول مساعدة الناس على فهمك وتقبُّلك، وهو
ما يعني بالضرورة ضرورة أن تفهم وتتقبَّل نفسك بما يكفي لاعتقاد أنَّك تستطيع أن
تؤثر في حياة شخص آخر وتجعلها أفضل، فقط لمجرد كونك جزءاً منها».

وذكر ميلر أنَّه، في الأربعينيات من عمره، كان يملك
حياةً مهنية ناجحة كمؤلف ومتحدِّث عام له جمهور يعشقه، لكنه عاش مفتقداً شعور
الألفة الحقيقية في حياته.

وتعلَّم أنَّ الطريقة الوحيدة للشعور بالحميمية التي
كان يبحث عنها، تكمن في أن تبدأ أن تكون أكثر صدقاً بشأن حقيقتك.

يحدد معظمنا شخص ما باعتباره صديقاً مقرَّباً يمكن
الاتصال به في أوقات الشدة. ولكن إذا كنت تملك حبيباً أو تعيش بالقرب من عائلتك،
فنادراً ما تجد نفسك بحاجة إلى طلب المساعدة من صديق.

في المرَّة المقبلة التي تواجه فيها مشكلة -سواء
تعرَّضت لموقف ضاغط في العمل، أو كنت بحاجة للمساعدة في تنسيق عشاء للاحتفال
بمناسبة خاصة- ينبغي أن تفكر في الاعتماد على صديق.

لا تعتبر تلك الطريقة مجرد اختبارٍ لمدى موثوقية
صديقٍ فحسب، لكنها تكوِّن شعوراً بالتقارب والحميمية.

يقول أمير: «حين نمنح أحدهم الفرصة لمساعدتنا،
فإننا نسمح بذلك بخلق مزيد من الترابط والقُرب».

سؤال يطرح نفسه: ما مدى القرب الذي تريده؟ الأمر ليس
بهذه البساطة.

قالت سيرينا إنَّ الأمر يختلف من شخصٍ إلى آخر، إذ
يحتاج البعض منا عشرات المرات من التواصل، في حين يكتفي البعض الآخر بمرَّةٍ أو
ثلاث مراتٍ فقط، لكننا جميعاً بحاجةٍ إلى الشعور ببعض التقارب مع الآخرين.

وأكَّدت سو أنَّ بناء تواصل حميمي في علاقاتنا
العاطفية أمرٌ أكثر أهمية من بنائه في علاقات الصداقة.

وقال دونالد إنَّ من المهم أن يكونوا أشخاصاً
مناسبين. في حين أشارت سو إلى أنَّ القدرة على ائتمان أحدهم على أسرارك، فضلاً عن
طلب مساعدته عند الحاجة، هي في الأصل ليست سوى صورة واحدة من التقارب، وليست
بالضرورة الشكل الوحيد المهم.

اتفق الخبراء جمعيهم على أنَّ الشعور بالتآلف مع
الآخرين -سواء كانت الزوجة/الزوج، أو أحد أفراد الأسرة أو الصديق- واحد من أعمق
الطرق لتصبح أكثر سعادةً، وصحةً، وهدوءاً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى