تقارير وملفات إضافية

كيف يبرر «حميدتي» جرائم قواته في دارفور وفض الاعتصام وتجارة الذهب والحروب الخارجية؟

محمد حمدان دقلو، الذي سماه الرئيس المعزول عمر حسن البشير «حميدتي» (حمايتي)، والذي تشير إليه الصحافة الغربية منذ ثورة أبريل/نيسان على أنه «الرجل القوي» في السودان، دافع عن نفسه وعن قوات الدعم السريع التي يقودها في مقابلة صحفية نادرة، فماذا قال؟

صحيفة الإندبندنت البريطانية نشرت المقابلة التي أجرتها بل ترو وهي مراسلة بريطانية تغطي شؤون الشرق الأوسط، بعنوان: «الإبادة الجماعية والذهب والحروب الأجنبية: قائد السودان الأكثر إثارة للخوف يتحدث».

كان رجل السودان الأقوى المعروف باسم «حميدتي» يرتدى جلابية بيضاء تقليدية، ويلف رأسه بغطاء للرأس، بحيث بدا أكثر شبهاً بتاجر الجمال الذي كان عليه في يوم من الأيام، لا قائد قوة شبه عسكرية متهمة باغتصاب المتظاهرين وقتلهم في الخرطوم، ومرتكبة لأعمال إبادة جماعية في دارفور.

وكان في ذلك تحول واع عن ظهوره السابق قبل وبعد ثورة أبريل/نيسان السودانية التي أطاحت رئيسه، الرئيس السوداني السابق عمر البشير، إذ تخلى عن ردائه العسكري وقبعة الكاكي التي لطالما ميزته، ولم يكن اللقاء أيضاً في مكاتبه المطلة على قاعدة «قوات الدعم السريع» (RSF) التي يقودها.

بدلاً من ذلك، جرت هذه المقابلة النادرة داخل مقر إقامة حميدتي في العاصمة، حيث جلس على أريكة مطلية مساندها بلون أزرق باهت يكاد يذهب عن أريكته كطلاءِ أظافر آخذ في التحلل.

وقد استهل كلامه خلال المقابلة بحثِّ بريطانيا على إقامة شراكة مع قوات الدعم السريع التابعة له، متوسلاً بجهود مفترضة للميليشيات التي يقودها في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

وبصوت أبوي ناعم يشبه تلك النغمة التي عمد إلى نشرها في خطاباته الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، أخذ حميدتي يقول: «أولويتي ليست الحكم. أقسم بالله أني أرى نفسي مجرد فرد سوداني، أنا مواطن عادي، وشخص بسيط، ولست صاحب سلطة».

«نؤكد للشعب البريطاني أن هذا التغيير تغييرٌ حقيقي. صحيح، قد تكون هناك بعض المشاكل هنا وهناك، لكننا شرعنا في التعامل معها ويجري معالجتها جميعاً ولذلك، فنحن نأمل أن تكون المملكة المتحدة قريبة منا، لكي نبني شراكة حقيقية».

كان رجل الميليشيا الملياردير قد تحوّل هذا العام تحولاً غير مألوف من ذراع البشير المقرّب إليه، حتى إنه هو من أطلق عليه اسم حميدتي «حمايتي»، أي حاميي، ليصبح قائد الجهاز الأمني ذاته الذي أزاح الرئيس.

أجبرت ثورة أبريل/نيسان السودانية البشيرَ على الخروج من السلطة، وهو الآن في السجن يواجه اتهامات بالفساد، وأصبح حميدتي، البالغ من العمر 43 عاماً، نائب رئيس المجلس السيادي الحاكم للبلاد، وهو هيئة انتقالية مدنية-عسكرية مشتركة تدير البلاد خلال الوقت الحالي.

لكن وبالنظر إلى وجود جيش قوي من جنود قوات الدعم السريع التابعة له وثروات كبيرة خلفه، فإنه غالباً ما يجري الحديث عنه باعتباره القوة الحقيقية وراء السلطة في السودان، ورغم أنه يريد تصوير نفسه على أنه حامي الثورة، فإن قوات الدعم السريع التي يقودها لها تاريخ دموي في دارفور، علاوة على أنها متهمة بعد ذلك بتنفيذ هجمات ضد متظاهرين سلميين خلال الانتفاضة السودانية.

لا أحد يعرف بالضبط عدد الأشخاص الذين قتلوا منذ اندلاع الصراع لأول مرة في دارفور في عام 2003، لكن التقديرات تتراوح بين 300 ألف إلى نصف مليون قتيل، كما أسفر القتال عن تشريد نحو مليوني شخص، وفقاً للأمم المتحدة.

وعلى الرغم من إعلان وقف لإطلاق النار بعد الثورة، فإن أكثر من عشرة أشخاص في دارفور، ومنهم زعماء قبائل، قالوا لصحيفة الإندبندنت إن هناك غارات لا تتوقف تُشن على نحو منتظم في منطقة جبال مرة الشرقية في دارفور.

يقول سليمان بلدو، المستشار بمنظمة «كفاية»  Enough Project، وهي مؤسسة غير حكوميةٍ أجرت أبحاثاً في أعمال الإبادة الجماعية هناك، إن «أكبر الهجمات على المدنيين في أعوام 2014 و2016 و2017  كانت قوات الدعم السريع من نفذها، وقد أجمعت لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالسودان ومهمة المساعدة التابعة للأمم المتحدة على القول إن تلك الهجمات جرت بالفعل ضد الأشخاص الذين بقوا في جبال مرة الشرقية».

فقد نشرت منظمة العفو الدولية هذا الصيف أدلة جديدة مقلقة تُبين أن قوات حكومية سودانية، تشمل قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها، مستمرة في تدمير القرى وارتكاب أعمال القتل خارج نطاق القانون، وجرائم العنف الجنسي، كذلك سبق أن سجّلت وسائل إعلامية محلية مساراً ثابتاً من هجمات وحشية وعمليات قتل، رغم أنه لم يعلن رسمياً عن عدد القتلى.

لكن حميدتي رفض هذه الادعاءات بزعم أنها «استهداف منهجي موجه ضد قوات الدعم السريع… من قبل النظام القديم»، وأخذ يصف القوات بأنها «حارسة دارفور»، و»حامية الثورة».

واستمر في القول، بصوت يزداد حدة، «من يحرس دارفور؟ من يحمي هؤلاء المشردين داخل البلاد؟ من يعوضهم؟ ومن الذي يعيد إلى الناس حقوقهم؟ نحن، نحن من نفعل كل ذلك»، «وأولويتنا القصوى الآن هي نجاح الحكومة المدنية».

كذلك عمد إلى تغيير موضوع الحوار حين التطرق إلى مزاعم ارتكاب قواته أعمال عنف أخرى في العاصمة.

كانت منظمة «هيومن رايتس ووتش» نشرت تحقيقاً الشهر الماضي، تُحمّل فيه قوات الدعم السريع المسؤوليةَ عما جرى في 3 يونيو/حزيران الماضي خلال فض اعتصام مناهض للحكومة في العاصمة الخرطوم، والذي شهد مقتل 120 شخصاً على الأقل.

وفي حين أقرّ القائد بأن قواته «ليست ملائكة» وأنه «ربما كانت هناك جرائم» في الماضي، فإنه شدد أيضاً على أن هناك عمليات مساءلة داخلية جرت، وشمل ذلك التحقيق في الهجوم على الاعتصام.

وخلافاً للخطاب الذي اتبعه خلال مقابلات سابقة، والتي كان قد تحدث فيها عن أن قواته دُفعت إلى التحرك بفعل «استفزازات وتحرشات لا توصف»، ذهب خلال تلك المقابلة إلى القول بأن الذين ارتكبوا تلك الهجمات المروعة في العاصمة كانوا متسللين تظاهروا بانتمائهم إلى قوات الدعم السريع.

«الحقيقة أن اقتحام الاعتصام كان انقلاباً مدبراً»، وتابع قائلاً إنه جرى اعتقال 200 شخص على الأقل بتهمة انتحال الانتماء إلى رجاله في مساعي لتشويه سمعة قواته، وأضاف: «تبين لنا أن المسؤولين عن تلك الهجمات كانوا ضباطاً محسوبين علينا، من رتب مختلفة، ومنهم لواءات وجنرالات كبار، يعود انتماؤهم إلى زمن النظام القديم».

وبعيداً عن اتهامات العنف، كان حميدتي حريصاً على تناول الموضوع الشائك المتعلق بالذهب في السودان، وهو أحد موارد السودان الأكثر قيمة وإثارة للجدل أيضاً.

بعد أيام قليلة من سقوط البشير، ادّعى حميدتي في خطاب متلفز أنه قد أودع مليار دولار في بنك السودان المركزي، كان قد تحصل عليها من تجارة الذهب إضافة إلى أموال تلقاها من حكومات خليجية نظير مشاركة قوات الدعم السريع في القتال إلى جانبهم في اليمن.

لفتت تلك التصريحات الأنظار مسلطةً الضوء على شركته العائلية «الجنيد»، والتي يقال إنها تعمل في مجالات تمتد من النقل وأعمال البناء، إلى إدارة المناجم في دارفور وجنوب كردفان، وجميعها تقع تحت حماية جنود قوات الدعم السريع. وقد بلغت تجارة الذهب في شركته نجاحاً كبيراً، حتى إنها، بحسب المزاعم، تنقل كميات هائلة بقدر حمولات طائرات كاملة من سبائك الذهب إلى دبي.

لكن حميدتي أخذ منذ ذلك الحين يقلل من علاقته بتجارة الذهب واحتياطيه الهائل في البلاد، وخلال هذه المقابلة، عمد القائد إلى تقديم نفسه على أنه وطني دافع للضرائب لديه «شراكات» وأسهم» في شركات، منفصلة عن عمله مع قوات الدعم السريع.

وتابع، في ترددٍ إلى حدٍّ ما، قائلاً: «أنا لا أمتلك مناجم… أنا مجرد شريك ضمن شركاء آخرين في منجم ذهب واحد بجبل عامر»، وشدَّد على أنه وشركاءه «ندفع الضرائب. ونؤدي الزكاة. وندفع رسوم الجمارك، ورسوم التصدير».

أراد أن يؤكد أن «الجنيد» تقوم بأعمالها على نحو قانوني، وأن قوات الدعم السريع لا «تخلط بين السلطة والتجارة».

لكن مصادر حكومية ومن القطاع الصناعي، وكذلك شهود عيان، يرسمون صورة مختلفة إلى حد ما وأكثر غموضاً، إذ تتردد في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، حكايات عن رحلات ليلية إلى الإمارات بطائرات محملة بالذهب، ويقول أحد السكان، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، «لقد رأيت بالفعل إحدى تلك الشحنات ذات مرة، إذ سقطت بعض سبائك الذهب منها، فأغلقوا المطار بأكمله حينها».

وفي تحقيق أجرته وكالة رويترز مؤخراً، قال مسؤولون حكوميون في الخدمة حالياً وسابقون، فضلاً عن مصادر تعمل في مجال استخراج الذهب، إن البشير كان قد منح حميدتي أول «امتيازٍ/ اتفاق خاص» يسمح له ببيع الذهب من خلال شركة «الجنيد» التي تمتلكها أسرته في عام 2018، عندما كان الاقتصاد السوداني ينهار.

ويفترض أن يقدم حميدتي، في مقابل ذلك، بعض عائدات تصدير الذهب إلى الدولة، لدفع ثمن مشتريات الحكومة من الوقود والقمح، وتُبين فواتير طيران وقسائم دفعٍ حصلت عليها وكالة رويترز أنه خلال فترة استمرت أربعة أسابيع من عام 2018، أرسلت شركة الجنيد ما قيمته نحو 30 مليون دولار من سبائك الذهب، في حمولات يبلغ وزنها نحو طن، إلى دبي.

وقد أنكر متحدثون باسم شركة الجنيد أي مخالفات أو صلة للشركة بحميدتي أو قوات الدعم السريع، لكن خلال هذه المقابلة، تحدث حميدتي عن الشركة كما لو أنه جزءاً منها.

ويسود اعتقاد أيضاً بأنه استفاد على نحو كبير من الحرب في اليمن. فعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، قاتل آلاف من مقاتلي قوات الدعم السريع في اليمن لحساب السعودية والإمارات وحلفائهم في الحكومة اليمنية ضد الحوثيين المدعومين من إيران.

وأخبر ضباط في قوات الدعم وصحفيون سودانيون عملوا على تحقيقات تتعلق بقوات الدعم السريع صحيفة الإندبندنت أن الخليج دفع لحميدتي مليارات من الدولارات مقابل استخدام جنوده الذين يُدفع بهم أحياناً في مقدمة الهجمات ضد الحوثيين، لكن الاستخدام الأكبر لهم كان نشرهم كقوات تأمين للمدن التي جرى الاستيلاء عليها مؤخراً، وتعرضوا أيضاً لمخاطر كبيرة خلال استخدامهم بوصفهم جنودّ حمايةٍ للقوات الإماراتية المتواجدة على أرض المعركة.

وتعليقاً على ذلك، قال أحد الضباط: «إنها عملية مربحة»، وادعى أن الأرباح تحققت من خلال تحويل المدفوعات بالدولار إلى جنيه سوداني باستخدام سعر صرف أفضل في السوق السوداء، قبل دفع الرواتب بالعملة المحلية وتحصيل الفرق، وينفي حميدتي كل ذلك جملة وتفصيلاً، مضيفاً أن قوات الدعم السريع قد أخذت تنسحب من اليمن.

ويقول حميدتي عن سبب انضمام قواته إلى الحرب: «لقد كان اتفاقاً يتعلق بدعم الشرعية في اليمن»، «وقد اتخذت الدولة هذا القرار، لقد وجهت إلينا أوامراً فحسب. فهو ليس اتفاقاً شخصياً».

وإلى جانب احتمال الانسحاب الكامل لقواته من اليمن، سعى حميدتي للحديث عن مستقبل قوات الدعم السريع وتصويرها بوصفها تضطلع بدور مركزي في المعركة ضد الإرهاب والهجرة غير الشرعية من شمال إفريقيا إلى أوروبا.

أخذ الاتحاد الأوروبي يضخ ملايين اليوروهات في السودان في مساعي لوقف تدفق المهاجرين عبر البلاد، وقال سليمان بلدو، الذي سبق له التحقيق في ذلك، إن تلك الأموال انتهى بها المآل في جيوب قوات الدعم السريع التي ارتكبت مذابح من قبل، ولكن حميدتي يؤكد أن قوات الدعم السريع «أنقذت» المهاجرين، وأنها «كانت تعمل عوضاً عن الاتحاد الأوروبي».

فحميدتي الذي ولد في عشيرة متفرعة من قبيلة الرزيقات العربية القوية، بدأ حياته تاجر إبل مرتحل في منطقة دارفور، غرب السودان. إذ بعد أن ترك المدرسة في وقت مبكر من عمره، ساعد في تأسيس تجارة لعائلته في مجال الثروة الحيوانية، وتجارة الحيوانات في جميع أنحاء السودان وحتى التصدير إلى مصر.

ارتفعت حظوظه الشخصية عندما انضم إلى ما كان يعرف آنذاك بقوات «الجنجويد«، وهي قوة مختلطة ضمت ميليشيات محلية ورجال القبائل العربية الذين زودهم البشير بالأسلحة في عام 2003 لمحاربة المتمردين الذين كانوا قد حملوا السلاح ضد نظامه الذين اتهموه بقمع السكان السودانيين من غير العرب.

وتقول منظمات معنية بحماية حقوق الإنسان إن البشير استخدم هذه القوات لشن هجمات برية وجوية، وحتى هجمات بأسلحة كيماوية، على المتمردين والسكان المدنيين، وهو ما أدى إلى موجات من النزوح، في حملة بلغت حد أعمال التطهير العرقي، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عامي 2009 و2010 مذكرة توقيف بحق البشير بتهمة الإبادة الجماعية، بسبب أعمال القتل التي مارستها قواته.

خلال هذه الفترة الدموية، كان حميدتي صعد بثبات خلال الرتب العسكرية ليصبح قائداً بارزاً من ذوي الرتب المتوسطة، لكنه لم يكن حتى عام 2013 عندما صنع اسماً كبيراً لنفسه حقاً، فقد ولاه البشير حينها قيادة قوات الدعم السريع لقمع تمرد داخلي داخل القوات ذاتها.

لكن حميدتي يشدد على أنه في حين أن النظام السابق شوّه سمعة السودان في أوروبا، فإن كل ذلك قد تغير خلال فترة ما بعد الثورة، «إن قوات الدعم السريع لها دور يتجاوز كل ذلك بكثير لكن الجوانب الإيجابية مما تفعله غير واضح للعيان. يمكنني التحدث عن جهودها لشهرٍ كامل دون انتهاء».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى