ثقافة وادب

كيف تحوّل من صوت العرب إلى مذيع النكسة؟ عن قصة أحمد سعيد وحقيقة الإعلام في بلادنا!

الإعلام ميدان الشغوفين بالبحث عن
الخبر والحقيقة، من يسخرون سيل مدادهم لنقل معاناة من سالت دماؤهم، يجعلون من
ميكروفوناتهم وسيلة لنقل قصص مَن لا صوت لهم وتغدو عدسات كاميراتهم عيناً على
الحقيقة، يجمعهم ميثاق أخلاقي واحد: “الخبر مقدس والتعليق حر”.

لكن الإعلام سلاح فتاك في يد مَن
يملكه يسعى الانقلابيون إلى السيطرة عليه في بداية مهمتهم، وتوجهه المعارضة إلى
الأغلبية للإطاحة بهم، بينما تتفنن الدولة في تلقيمه بخرطوش الأكاذيب والحقائق
المزيفة، فهل يظل ولاء الصحفيين لقدسية الخبر أم لضرورة الخبز؟

صوت العرب ينادي أمة العرب من قلب
العروبة النابض من القاهرة، عبارة محفورة في الذاكرة العربية بصوت أحمد سعيد.
الصوت الجهوري الذي كان يصدح وطنية ومقاومة ضد الاحتلال ويبث حماسة الثورة في قلوب
مستمعيه. كانت تتحلق العائلة في بداية اليوم حول ذلك الصندوق الصغير الراديو
لتستمع إلى صوت العرب، وتمضي بقية اليوم في مناقشة ما قاله «صوت العرب». غدا أحمد
سعيد صوت العرب بل تعدى ذلك ليصبح صندوق أحمد سعيد والراديو مترادفتين لمعنى واحد.
غير أن حب الناس لسعيد أخمدته البيانات العسكرية الكاذبة التي بثها في نكسة 1967. عندما أعلن سعيد
بنفس حماسه المعهود انتصار الجيوش العربية بينما كان يتساقط جنودها كبيادق على
رقعة شطرنج لاعب مبتدئ.

انهارت أسطورة
«صوت العرب» الجهوري الذي تبين أنه صوت أجش لا يتكلم باسم العرب بل باسم حكامهم،
إنه لم يكن سوى كذبة كبيرة كقضية العروبة نفسها.

استقال سعيد بعد
أحداث 67 ليقضي بقية حياته مع لقب جديد مذيع النكسة، وهو يتجول من لقاء إلى مجلة إلى
جريدة مدافعاً عن نفسه بتصريح ربما يكون أصدق ما قال في حياته: حرية الصحافة كلام
معاهد أما في الحقيقة فالإعلام لمن يملكه.

ويذكرني سعيد بوينستون شخصية العالم
الخيالي الأورويلي في رواية 1984. كان وينستون موظفاً بسيطاً في وزارة الحقيقة
مهمته تعديل الحقائق بما يتماشى مع مصالح الأخ الأكبر وتأليف أخبار جديدة تغدو
حقائق في لحظة كتابتها، كونها تتماشى مع مصالح الأخ الأكبر. اقتصر عمل وينستون
كجميع موظفي وزارة الحقيقة على تطبيق شعارها «الجهل هو القوة». تزوير، تدليس
وتأليف أخبار زائفة للحرص على تجهيل الشعب وتضييق أفق تفكيره.

كان أورويل من الأوائل الذين أشاروا
إلى ارتباط اللغة بالتفكير، فاللغة تصنع فكر الشعب  وتحدد مفاهيمه. وإذا
أخذنا اللغة العربية على سبيل المثال لا الحصر نجد أنها قد ساهمت بشكل أو بآخر في
زرع العنصرية في عقول شعوبها فاللغة هي التي قدمت لنا اللون الأسود كلون مكروه غير
مرغوب نربطه بالشؤم ولوائح المجرمين. وهي التي تفضل المذكر على المؤنث فإذا كان
هناك ذكر واحد وسط مجموعة إناث سلب منهن ضمير التأنيث هن. سلبت منهن أنوثتهن؛ لأن
الذكر يخجل من أن ينادى بالمؤنث.  كلمة الإنسان مذكرة وكلمة الله مذكرة
فسيطرة المذكر في اللغة زرعت سيطرته في المجتمع.

وقد جعل أورويل موظفي وزارة الحقيقة
يعتمدون معجماً جديداً بعنوان النيوسبيك اللغة الجديدة يحتوي على كلمات بسيطة
ويخلو من المترادفات والأضداد فلا حاجة إلى كلمة رائع وسيئ بوجود كلمة جيد، يكفي
أن نقول كلمة جيد جداً أو غير جيد. فكلما ضاقت المعرفة اللغوية للشخص ضاق أفق
تفكيره، حيث إن اختزال اللغة يؤدي إلى اختزال التفكير ويمنع الشعب الأورويلي من
ارتكاب جرائم الفكر التي تتمثل في المطالبة بحرية الإرادة والتعبير والتمرد على
قوانين الأخ الأكبر. ويحيلنا النيوسبيك على إحدى أهم القواعد التي يخبرك بها أي
صحفي اشتغل مطولاً في وزارة الحقيقة وتشبع بمبادئها: التزمي البساطة يا بنيتي
وتجنبي الكلمات
الصحب والإحالات الأدبية فهي
ترهق دماغ القارئ مغسول الدماغ فقير المعرفة؛ لأن مهمتك ليست هي تطوير تفكير
القارئ وتنويره بل هي المحافظة على ركوده وجموده، باستخدام نفس الأسلوب الكئيب
وتكرار نفس الكلمات المستهلكة لتنتج نصاً يبدو في ظاهره يحمل معلومة، لكنه في
جوهره مفرغ من أية قيمة معرفية حقيقية.

ونجد تداخلاً عجيباً بين العالم
الأورويلي والعالم الحقيقي، حيث تفصح وزارة حقيقته عن حقيقة وزارات إعلامنا، التي
تكفي جولة بسيطة في سراديبها للمس الجو الأورويلي الذي يطغى على جو العمل فيها حيث
الخبر مغتصب والتعليق مسجون، وكله باسم الخط التحريري، ذلك الخط المتعرج المتذبذب،
الذي ترسمه أهواء الأخ الكبير فترتفع مصداقيته في الخبر الفلاني وتنعدم في الخبر
العلاني. هناك حيث يقبع أشباه وينستون وصوت العرب الذين ينتهكون قدسية الخبر، من
أجل ضرورة الخبز، أو خوفاً من الغرفة 101 في وزارة الحب.

ولو كتب أورويل روايته في زمننا هذا،
لأقحم شخصيات جديدة في وزارة الحقيقة فاشينستات، يوتبرز روتيني اليومي وإنستغرامرز
يتجولون في وزارة الحقيقة ويحملون ألقاب إعلاميين. ويستبدل اسم السلطة الرابعة
بالسَّلطة الرابعة بفتح السين؛ ليقدم مشهد سلطة من إعلاميين عديمي الشغف
وفاشينستيين يقتاتون على عدد “اللايكات” والمتتابعين، يفضون عذرية الخبر
الحقيقية ويصلبون التعليق على صليب الخوف والجهل.

أنا بسمة العاطي وعمري 19 سنة أدرس في السنة الثانية من الإجازة المهنية في علوم التواصل وتقنياته بجامعة محمد الخامس بالمغرب، وقد اخترت مجال دراستي بناءً على شغفي بالصحافة بجميع مكوناتها وأنواعها. أكتب في مدونات عديدة من بينها مدونة زوايا ومدونة ساسة بوست، بالإضافة إلى صحيفة هسبريس المغربية، وقد اجتزت تدريباً مكثفاً لمدة شهر في التلفزيون الوطني المغربي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى