تقارير وملفات إضافية

مَن الجاني وراء التقشف في السعودية: كورونا أم قرارات ولي العهد وصراع العرش؟

بدأت تتضح ملامح “القرارات المؤلمة” التي تحدث عنها وزير المالية السعودي، مع الإعلان عن إلغاء صرف بدل غلاء المعيشة للمواطنين المحتاجين ورفع ضريبة القيمة المضافة بثلاثة أضعاف، ما يثير التساؤلات حول وعود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عندما قدم رؤيته الاقتصادية 2030 قبل خمس سنوات.

أعلنت الحكومة السعودية اليوم الإثنين 11 مايو/أيار عدداً من الإجراءات التقشفية، الرامية إلى “مواجهة التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا”، ونقلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية عن وزير المالية، محمد الجدعان، القول إن الحكومة اتخذت عدة إجراءات ستوفر للمالية العامة نحو 100 مليار ريال سعودي.

وأضاف الجدعان أن أبرز تلك الإجراءات هو وقف صرف بدل غلاء المعيشة للمواطنين، اعتباراً من شهر يونيو/حزيران المقبل، وكذلك رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة، من 5% إلى 15%، بداية من شهر يوليو/تموز المقبل، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC نقلاً عن “واس”.

الجدعان برر القرارات بالقول إن الاقتصاد السعودي تلقى ثلاث صدمات بسبب وباء كورونا: أولها انخفاض أسعار النفط إثر انخفاض الطلب العالمي عليه بسبب إجراءات الإغلاق، ما أسفر عن “انخفاض كبير في إيرادات الدولة”، وثانيها “توقف أو انخفاض كثير من الأنشطة الاقتصادية المحلية، ما انعكس بالسلب على حجم الإيرادات غير النفطية والنمو الاقتصادي”، أما ثالثها فتمثل في زيادة الاعتمادات المالية لقطاع الصحة، لدعم القدرة الوقائية والعلاجية ضد الوباء، إضافة إلى “اعتماد عدد من المبادرات لدعم الاقتصاد وتخفيف أثر الجائحة، والمحافظة على وظائف المواطنين”.

وشملت الإجراءات التقشفية إلغاء أو تمديد أو تأجيل بعض بنود النفقات التشغيلية والرأسمالية لعدد من الجهات الحكومية، وخفض اعتمادات عدد من مبادرات برامج تحقيق الرؤية والمشاريع الكبرى للعام المالي 2020.

كان الملك سلمان بن عبدالعزيز قد أصدر أمراً ملكياً، في التاسع من ديسمبر/كانون الأول عام 2019، بتمديد صرف بدل غلاء المعيشة، لمدة عام إضافي حتى نهاية عام 2020، والذي كان يهدف إلى “مساعدة المواطنين على ملاءمة المتغيرات الاقتصادية الجارية اتساقاً مع رؤية 2030″، وهي خطة التنمية التي يتبناها ولي العهد محمد بن سلمان.

الآن مع إلغاء بدل غلاء المعيشة وزيادة ضريبة القيمة المضافة بثلاثة أضعاف يعني مزيداً من الضغوط الاقتصادية على الطبقات الأكثر احتياجاً في المملكة أكبر مصدر للنفط في العالم، من الطبيعي أن تزداد حدة الانتقادات الموجهة للحاكم الفعلي للبلاد الأمير محمد بن سلمان، خصوصاً في ظل الوعود الكثيرة التي قدمها للسعوديين تحت مسمى “رؤية 2030” لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط.

ونتوقف هنا عند أبرز وعدين قدمهما الأمير محمد وهما: “نريد أن نضاعف قدراتنا: نريد أن نحول أرامكو من شركة لإنتاج النفط إلى عملاق صناعي يعمل في أنحاء العالم، ونحوّل صندوق الاستثمارات العامة إلى أكبر صندوق سيادي في العالم”، بنصّ رسالته في تقديمه لرؤيته لمستقبل المملكة.

في تقديمه للقرارات “المؤلمة”، ألقى وزير المالية السعودي باللوم على وباء كورونا الذي تسبب في الكارثة الاقتصادية التي تواجهها المملكة، لكن حقيقة ضعف الاقتصاد السعودي وانهياره تسبق الجائحة وذلك بالأرقام التي لا تكذب ولا تنحاز.

فكما جاء في مقال الصحفي البريطاني ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي البريطاني، قبل أسبوعين، لم يتجاوز معدل نمو الاقتصاد السعودي 0.3% العام الماضي 2019، كما تكبد قطاع الإنشاءات منذ 2017 تراجعاً بمقدار 25%، رغم أن هذا القطاع تحديداً -طبقاً لرؤية ولي العهد- كان يجب أن يشهد نمواً كبيراً، في ظل مشروع نيوم الذي يمثل حجر الزاوية في رؤيته الاقتصادية وتبلغ تكلفته التقديرية أكثر من 500 مليار دولار.

الوعد الآخر الذي قدمه ولي العهد وهو أن يصبح صندوق الثروة السيادي الرئيسي أو صندوق الاستثمار العام الأكبر عالمياً، يأتي الآن في المركز الرابع خليجياً بعد سلطة أبوظبي للاستثمار، وبعد سلطة الاستثمار الكويتية وبعد سلطة الاستثمار القطرية، حيث تأتي الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الأولى بصناديق سيادية تصل قيمتها إلى 1.213 تريليون دولار، ثم الكويت بقيمة 522 مليار دولار، ثم قطر بقيمة 328 مليار دولار ثم السعودية بقيمة 320 مليار دولار، ولا دخل لجائحة كورونا بهذه الأرقام فهي موجودة بنهاية العام الماضي أيضاً.

الأرقام أيضاً تظهر أن معاناة الاقتصاد السعودي ارتبطت بشكل مباشر بتولي الملك سلمان العرش وتصعيد ابنه الأمير محمد ولياً للعهد، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد من 25243 دولاراً في عام 2012 إلى 23338 دولاراً في 2018، بحسب أرقام البنك الدولي، كما قدر صندوق النقد الدولي أن الدين الصافي سيصل إلى 19% من الناتج المحلي الإجمالي السعودي هذا العام، وسيصل إلى 27% في العام القادم، بينما سيدفع فيروس كورونا وأزمة النفط الاقتراض إلى أن يصبح 50% بحلول عام 2022، وكلها تقديرات مفرطة في التفاؤل، بحسب الخبراء.

كما أن المؤشر الآخر الذي بدأ قبل جائحة كورونا بسنوات وارتبط مباشرة بتولي ولي العهد الشاب مسؤولية اتخاذ القرارات في المملكة هو الاحتياطات النقدية والتي كانت تبلغ 723 مليار دولار عام 2015 وانخفضت إلى 464 ملياراً فقط بنهاية مارس/آذار الماضي، وتشي القرارات المؤلمة التي تم اتخاذها اليوم بتعرض تلك الاحتياطات للمزيد من الانخفاض في أبريل/نيسان.

وكان صندوق النقد الدولي قد ذكر في تقريره الأخير الشهر الماضي أنه “إذا ما قامت المملكة العربية السعودية بتنمية صندوق الاستثمار العام لديها من 300 مليار دولار كما هو حالياً إلى هذا الحجم، فإن العوائد المالية وحدها لن تشكل دخلاً بديلاً كافياً في عالم ما بعد النفط. إنتاج النفط بمستوى 10 ملايين برميل في اليوم، بقيمة 65 دولاراً للبرميل، تترجم إلى إيراد سنوي من النفط قدره حوالي 11 ألف دولار لكل سعودي في الوقت الحالي”.

تصدرت قرارات اليوم في السعودية -إلغاء بدل الغلاء ورفع ضريبة القيمة المضافة- تويتر في السعودية بوسم “القرارات الجديدة” تلاه وسم “سمعا وطاعة في المنشط والمكره“، شهدت تغريدات تنم عن الثقة في قيادة ولي العهد للمملكة من البعض وسخرية وحسرة مما وصلت إليه الأمور من جانب آخر، وفي كل الأحوال يكشف ذلك الزخم عبر تويتر -منصة التواصل الأكثر استخداماً لدى السعوديين- عن حالة واضحة من الجدل بشأن قرارات ولي العهد وقيادته للمملكة.

ويأتي هذا في ظل الصراع على العرش والذي أصبح السمة الأبرز منذ تصعيد الأمير محمد ولياً للعهد على حساب ابن عمه الأمير محمد بن نايف الذي اعترفت السعودية أخيراً باعتقاله بشكل رسمي أمس الأحد 10 مايو/أيار عندما أصدرت المديرية العامة للسجون، التي تتبع لوزارة الداخلية، على حسابها الرسمي على تويتر بياناً قالت فيه إن “بن نايف نُقل إلى العناية المركزة إثر إصابته بنوبة قلبية”، نافياً أن يكون الأمير البالغ من العمر 60 عاماً قد توفي.

التغريدة التي تم حذفها لاحقاً دون توضيح السبب هي أول اعتراف رسمي سعودي بوجود ولي العهد في السابق في السجن، كما أن عمَّ ولي العهد الحالي الأمير أحمد بن عبدالعزيز يقبع هو الآخر في معتقلات محمد بن سلمان، إضافة إلى الأمير فيصل بن عبدالله -نجل الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز- الذي قالت تقارير حقوقية نقلاً عن أفراد أسرته إنه تم احتجازه مؤخراً في مكان غير معلوم.

التقارير الأخيرة عن اعتقال ولي العهد للأمراء الذين يمثلون تحدياً مباشراً له ليست سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة الأحداث الدرامية التي بدأت منذ تصعيد الملك لابنه الشاب ليصبح ولياً للعهد فيما وصفه البعض بالانقلاب، وشهدت ذروتها في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 بالقبض على أغلبية أمراء آل سعود وكبار أثرياء المملكة واحتجازهم في فندق الريتز كارلتون في الرياض فيما أطلق عليه ولي العهد “حملة مكافحة الفساد”، فيما أصبح واضحاً للجميع داخل المملكة وخارجها أن كل ما يجري يصبُّ في إطار سعي ولي العهد لخلافة والده دون معارضة.

مراجعة أبرز قرارات أو بالأحرى مغامرات ولي العهد السعودي منذ توليه منصبه ترسم صورة أكثر وضوحاً لما وصلت إليه الأمور في المملكة التي يفترض أنها واحدة من أغنى دول العالم وليس الخليج فقط، حيث إنها المصدر الأكبر للنفط في العالم وإليها يحج ملايين المسلمين سنوياً لأداء فريضة الحج والعمرة، وهذان مصدران للدخل جعلا المملكة تتمتع بوضع اقتصادي يميزها عن غيرها.

لكن قرار حرب اليمن الذي اتخذه ولي العهد دون استراتيجية واضحة وتقدير للموقف، والأهم دون رؤية زمنية واقعية لما يمكن أن يحدث، أدى لاستنزاف موارد المملكة في حرب كارثية تحولت لمستنقع مستمر منذ 6 سنوات أضرت بسُمعة المملكة عالمياً وكبدتها خسائر فادحة على كل المستويات ولا تزال.

تدخل ولي العهد في الشؤون الداخلية لكثير من دول المنطقة أيضاً كلف الموازنة السعودية المليارات دون تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، إضافة للانصياع التام وراء أجندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الشرق الأوسط والعالم كلف المملكة تريليونات دون أن تحظى ولو بالحماية ضد التهديدات الإيرانية، وليس أدل على ذلك من الهجمات المدمرة التي تعرضت لها منشآت أرامكو النفطية في سبتمبر/أيلول الماضي دون أن تتمكن الرياض من حماية نفسها ودون تدخل واشنطن لحمايتها.

اتخاذ ولي العهد قرار احتجاز رئيس وزراء لبنان السابق سعد الحريري في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 كان أيضاً مغامرة متهورة كلفت الرياض نفوذها في بيروت وتركتها لقمة سائغة لطهران دون أن تجني السعودية أي شيء سوى فقدان ورقة ضغط كلفتها استثماراً ضخماً منذ توقيع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان عام عام 1990.

خلاصة القول إن السعودية الآن مقبلة على ما يمكن تسميته السنوات العجاف، بحسب تقرير لموقع المونيتور الأمريكي، وهو ما يمثل ضربة قوية لخطط ولي العهد، حيث من المتوقع أن تستغرق الأزمة الاقتصادية الحالية سنوات على أقل تقدير.

وبحسب التقرير، فإن تطبيق انخفاض كبير في الإنفاق العام في السعودية له طرق سهلة لتقليص حجم الإنفاق في الميزانية، بدايةً بالمشاريع الضخمة مثل مشروع نيوم العملاق المخطط له، وحتى الانتقال إلى ما هو أقل حيث الوزارات والعمل على جعلها أكثر فاعلية وأقل إنفاقاً، ثم هناك قطاع النفقات العسكرية، وهو موضع آخر يسهل العثور فيه على ضغط في التكاليف، كما أن التوصل إلى حل للحرب القائمة في اليمن سيفضي إلى قطع شوط طويل فيما يتعلق بتخفيض الإنفاق، غير أن ما يفوق كل ذلك صعوبةً هو تخفيض فاتورة أجور القطاع العام. 

والحال أن السؤال عما يجب استقطاعه من الميزانية أسهل في الإجابة عنه من السؤال عن سبب عدم القيام بذلك من قبل، إذ لا غرابة في أن تحاول إدارة عجز مالي أو أن تحاول الوصول إلى أسواق رأس المال الدولي للحصول على قروض لتجاوز فترة اقتصادية صعبة، ولن تكون السعودية الدولةَ الوحيدة في محاولة القيام بأي منهما. 

لكن ما يجعل هذه الأزمة مزعجة بشدة بالنسبة للمملكة هو أنه لا يوجد أي سبب وجيه يدعوها لتوقع انتعاش الإيرادات المستقبلية إلى ما كانت عليه حتى وقت قريب، لا سيما الفترة الخاصة أو ما يسمى “العِقد السحري” من 2003 إلى 2014، عندما ارتفعت عائدات النفط إلى حد كبير، وانتهت تلك الأيام، ومع ذلك فإن نموذج الإيرادات الحكومية لم يُعدَّل، والأمر نفسه فيما يتعلق بأنماط الإنفاق التي لم تتغير، فالأسباب الهيكلية للعجز الحالي هي نفسها كما كانت عندما انخفضت أسعار النفط في أواخر عام 2004. لكن حلول الأزمة المزدوجة المتمثلة في جائحة كورونا مع انهيار أسعار النفط، جعلت المحتوم يقع في وقت أقرب فحسب.

ومن ثم لكي تخفض الحكومة النفقات، يجب أن يتم التخلي عن الإنفاق الرأسمالي أولاً، سواء أكان على المشاريع العملاقة أم حتى على المشاريع الحكومية الضخمة. وتقليص السحب العسكري من الاحتياطيات، وربما أيضاً عن عمليات البيع المحتملة لأصول من صندوق الاستثمار العام، إذ على الرغم من عمليات الاستحواذ البارزة والصاعدة الأخيرة، فإن عمليات الخصخصة المحتملة في الأصول التي جرى التخطيط لها بالفعل قد تجني الآن إيرادات أقل من المتوقع.

أما فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي، فإن التقديرات تشير إلى أن المستقبل سيكون مختلفاً، فمتوسط الدخل سيكون أقل، ولن يعيش الشباب بالطريقة التي عاش بها آباؤهم، وربما يتعايش معظم الشباب بهذا الواقع إذا شعروا بأن فرصهم وحرياتهم الاجتماعية تستمر في التحقق والانفتاح تحت قيادة ولي العهد، ولكن الشيء الوحيد الذي قد يظل صامداً من خطوات رؤية 2030 هو إعادة هيكلة سوق العمل، إذ سيفقد العديد من العمال الأجانب وظائفهم ويغادرون المملكة، وهو ما يفسح المجال لمزيد من المواطنين للدخول إلى سوق العمل بحكم الضرورة، قد تذهب المصاعب الاقتصادية والتبريرات القوية بالحفاظ على المصلحة الوطنية في مصلحة ولي العهد وتعزيز سيطرته، لكن توقف المشروعات العملاقة نفسها بسبب نقص الموارد المالية يهدد بارتفاع مستويات البطالة حتى بين السعوديين أنفسهم.

وسيظل هناك العديد من السعوديين الأثرياء وأصحاب النفوذ، ومنهم أفراد من العائلة الحاكمة، يرون قيادته للبلاد فيما يتعلق بحرب أسعار النفط والإنفاق على المشروعات الباذخة دليلاً على فشل عملية انتقال اقتصادية، وهم أكثر من لديه ما يخسره في تدابير التقشف العسيرة القادمة، ما يفتح الباب على جميع السيناريوهات، خصوصاً في قضية تولي ولي العهد الملك في حالة وفاة والده أو تنحيه لصالحه بدواعٍ صحية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى