تقارير وملفات إضافية

لماذا تغير موقف الناتو تجاه ليبيا إيجابياً؟ فتِّش عن الدور التركي الذي قلب مزاج الأوروبيين والأمريكيين

في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وقَّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس المجلس الرئاسي للحكومة الليبية فائز السراج، مذكرتي تفاهم حول التعاون الأمني والعسكري وترسيم الحدود البحرية بين البلدين في البحر الأبيض المتوسط، لحماية حقوقهما النابعة من القانون الدولي.

وفي أعقاب هذه الخطوة الفارقة، بدأ الملف الليبي يشهد تغيرات داخلية وخارجية سريعة، خاصة على صعيد موقف حلف شمال الأطلسي “الناتو” من الحرب في البلد العربي، رغم الخلاف العميق في ليبيا بين العضوتين بالحلف: تركيا وفرنسا.

ومنذ سنوات، تعاني ليبيا من صراع مسلح، فبدعم من دول عربية وأوروبية، تنازع ميليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، الحكومة على الشرعية والسلطة في البلد الغني بالنفط. ومنذ تدخُّله في ليبيا عام 2011، لم يتبع “الناتو” سياسة نشطة تجاهها، لكن في أعقاب توقيع الاتفاق التركي-الليبي، بدأ الحلف بإرسال مؤشرات تفيد بوجود تغييرات في سياسته تجاه البلد العربي، ضمن تغير أوسع في أسلوب تعاطي المجتمع الدولي مع القضية الليبية.

بدأ تدخُّل “الناتو” بليبيا، في فبراير/شباط 2011، مع بدء الموجة الأولى من ثورات “الربيع العربي”، حيث قابل، آنذاك، الراحلُ معمر القذافي، انتفاضة شعبية بقمع مسلح دموي.

في أعقاب قرارَي مجلس الأمن الدولي، 1970 و1973، أطلق “الناتو” عملية “الحامي الموحد” (Unified Protector) في ليبيا، بعد أن أعلن منطقة حظر للطيران.

شن أعضاء في الحلف، على رأسهم فرنسا وبريطانيا، وبمشاركة دول عربية، غارات جوية ضد قوات القذافي، تنفيذاً للقرار 1973، وردّاً على سياسة القمع التي انتهجها القذافي ضد المنتفضين على حكمه (1969ـ2011).

نفذ الحلف وشركاؤه، خلال عملية استمرت نحو 8 أشهر، 26 ألف طلعة جوية في ليبيا، بمشاركة 8 آلاف جندي و21 سفينة حربية وأكثر من 250 طائرة.

ونتيجة لتدخل “الناتو”، امتلكت المعارضة الليبية زمام المبادرة، وأسقطت حكم القذافي عام 2011؛ وهو ما دفع الحلف إلى إنهاء مهمته في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.

في حين بدأت بعض الدوائر، مؤخراً، تطرح تساؤلات عن وجود “الناتو” وصلاحياته، بدأ الحلف تطوير رؤية جديدة لمنظومته باسم رؤية “ناتو 2030”. بعد اجتماع لقادة “الناتو”، بلندن، في 4 ديسمبر/كانون الأول 2019، بدأت ترتفع أصوات تدعو إلى أن يلعب الحلف دوراً سياسياً فاعلاً بالساحة الدولية.

وأعلن الأمين العام لـ”الناتو” ينس ستولتنبرغ، أن الحلف بدأ مراجعة كيفية لعب أدوار أكثر في كل من الحرب ضد الإرهاب والشرق الأوسط، وذلك بضغط من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وشدد ستولتنبرغ، في أكثر من مناسبة، على ضرورة أن يصبح الحلف “فاعلاً قوياً على الصعيد السياسي”، مع الحفاظ على قوته العسكرية. وأثّر هذا الوضع بطبيعة الحال على دور “الناتو” في الساحة الليبية.

بعد 2011، اقتصر موقف “الناتو” من ليبيا بشكل رئيسي على المطالبة بـ”إنهاء العنف” ودعم العملية السياسية، واستقبال كبار المسؤولين بالحكومة الشرعية من وقت إلى آخر، بمقر الحلف في العاصمة البلجيكية بروكسل، والإعراب لهم عن استعداده للعب دور أكثر نشاطاً في ليبيا.

رغم عدم امتلاك “الناتو” وجوداً عسكرياً على أرض ليبيا، فإن قضيتها عادةً ما تكون حاضرة على جدول أعماله.

وذكّر ستولتنبرغ، في 14 مايو/أيار الماضي، بقرارات اتخذها رؤساء دول وحكومات “الناتو”، خلال قمة بروكسل لعام 2018 حول ليبيا. وقال لصحيفة “La Repubblica” الإيطالية: “لا يمكن وضع حكومة السراج، المعترف بها دولياً وتحظى باعتراف الأمم المتحدة، في كفة واحدة مع خليفة حفتر. الناتو مستعد لدعم حكومة طرابلس”.

وشدد على أن الحلف مستعد لمساعدة ليبيا في المجالات الدفاعية والأمنية، إذا تلقى طلباً من السراج. وعقب تلك التصريحات، أجرى ستولتنبرغ مباحثات هاتفية مع الرئيس أردوغان والسراج بشأن مستجدات الملف الليبي.

وقال ستولتنبرغ إن مساعدة “الناتو” لليبيا ستأخذ بالحسبان الوضع السياسي والظروف الأمنية في البلد العربي، مجدِّداً تأكيده استعداد الحلف لدعم حكومة طرابلس.

وخلال اجتماع وزراء دفاع “الناتو”، في 17 يونيو/حزيران الجاري، أعرب ستولتنبرغ عن قلقه بشأن “المقابر الجماعية” التي عثر عليها الجيش الليبي في مدينة ترهونة (90 كم جنوب شرقي طرابلس)، إثر تحريرها من ميليشيا حفتر، في 5 يونيو/حزيران الجاري، مطالباً بإجراء تحقيق في انتهاكات حفتر.

وأضاف أن الحلف يشعر بقلق متزايد بشأن الأنشطة الروسية المتزايدة شرق البحر المتوسط، في كل من سوريا وليبيا، وأنه يتابع تطورات المنطقة عن كثب.

ما سبق يفيد بحدوث تغير في ديناميات “الناتو” المتعلقة بالملف الليبي؛ وهو ما دفع مسؤولي الحلف إلى التأكيد، مراراً وتكراراً، على تطلعاتهم المتعلقة بالمساعدة في بناء المؤسسات الدفاعية والأمنية الليبية، ومساعدة حكومة طرابلس.

ومما لا شك فيه، أن مذكرتي التفاهم بين تركيا وليبيا كان لهما التأثير الأكبر في تغيير تلك الديناميات.

وبفضل التعاون بين أنقرة وطرابلس، تمكَّن الجيش الليبي من تحرير ما احتلته ميليشيا حفتر من مناطق في طرابلس، ثم حرر مدينتي ترهونة وبني وليد ومناطق أخرى، ويتأهب حالياً لتحرير مدينة سرت (450 كم شرق العاصمة).

إضافة إلى ما سبق، فإن تحركات روسيا، المنافس الأزلي لحلف “الناتو”، في سوريا (بجانب نظام بشار الأسد) وفي ليبيا (لدعم حفتر)، بدأت تشكّل مصدر إزعاج لقادة الحلف، مع تزايد الرفض الأمريكي للنشاط الروسي بالمنطقة، وهو يتجلى من خلال دعم جماعة الحوثي في اليمن، بجانب زيادة نشاط موسكو الدبلوماسي مع مصر والإمارات.

يعد نشر الولايات المتحدة صوراً التقطتها أقمارها الاصطناعية، وتُظهر توريد روسيا شحنات طائرات حربية من طرازي “MiG-29″ و”Su-27” إلى ليبيا، يفيد بوجود مؤشرات على مراجعة واشنطن لسياساتها تجاه الملف الليبي.

كما نشرت قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، صوراً لطائرات حربية روسية تقلع من قاعدة “الجفرة” الجوية بليبيا. ووصفت “أفريكوم” روسيا، في بيان، بأنها “تاجر السلاح الأول”، الذي استفاد من الصراعات وحالة عدم الاستقرار في القارة الإفريقية.

وقال قائد عمليات “أفريكوم”، الجنرال برادفورد غيرنغ، إن روسيا تحاول صناعة نقاط ارتكاز استراتيجية في الجناح الجنوبي لحلف “الناتو”، على حساب أرواح الليبيين الأبرياء. وأضاف أنَّ تزايد وتيرة التعاون بين تركيا والولايات المتحدة، البلدين العضوين في “الناتو”، من شأنه تغيير خريطة التحالفات القائمة في ليبيا.

وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أكد الخميس، وجود تقارب بين الرئيسين أردوغان وترامب بشأن ليبيا، وأنهما يعتزمان بناء تعاون ثنائي في الملف الليبي.

من ناحية أخرى، يتعمق انقسام بين دول الاتحاد الأوروبي بخصوص ليبيا، حيث تواصل فرنسا دعم حفتر، رغم عدم اعترافها صراحة بذلك، وهو ما يثير انزعاج إيطاليا وألمانيا.

الأسبوع الماضي، وفي وقت كانت فرنسا تشتبك في مواجهة كلامية مع تركيا بسبب الأزمة الليبية، وتحاول حشد أوروبا ضدها، جرى الإعلان عن تدريبات تركية إيطالية مشتركة بالبحر المتوسط، في مؤشر على استمرار التقارب الإيطالي-التركي في الأزمة الليبية، وتمرد روما على باريس حول ذلك.

ويستمر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في التركيز على ما يصفه بـ”الخطر التركي”، منتقداً سلوك أنقرة في ليبيا؛ وهو الأمر الذي دفع الحكومة التركية إلى تذكيره بدور بلاده في دعم حفتر الذي يهاجم طرابلس لمدة عام، حيث كانت القذائف تتساقط على العاصمة الليبية، بينما يُعقد مؤتمر برلين لتحقيق السلام في هذا البلد العربي.

واليوم أصبح الموضوع محل نزاع بين أعضاء في الناتو، ودول أوروبا، التي أصبحت حائرة بين الموقفين التركي والفرنسي. فالمعتاد أن دول الحلف وأوروبا تنحاز مع فرنسا ضد أنقرة على الدوام، في ظل انحياز غربي تقليدي ضد تركيا، العضوة المسلمة الوحيدة بالناتو.

ولكن في هذه الأزمة تبدو مشكلة فرنسا، وهي أن ما تفعله يهدد أمن أوروبا والناتو عبر تحالفها مع روسيا في دعم حفتر، الذي هو مجرد جسر لبوتين للتسلل إلى خاصرة أوروبا الجنوبية.

ونتيجة لذلك فإن مواقف الناتو جعلت أوروبا تبدو غير منساقة وراء محاولة ماكرون تحويل النزاع الرئيسي حول ليبيا، مع تركيا. وهكذا نرى أن “الناتو”، الذي عاد لاكتشاف دوره في ليبيا، بدأ يدرك أهمية الدور الذي قد يضطلع به في الملف الليبي، وبدأ يعطي مؤشرات على استعداده للعب دور سياسي أكثر نشاطاً في الساحة الليبية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى