تقارير وملفات إضافية

الديمقراطية وحقوق الإنسان في خطر، فهل يستمر النظام الليبرالي العالمي في العقد القادم؟

بدأ القرن الواحد والعشرون بموجة عاتية من المد الشعبوي الرافض لليبرالية والعولمة بشكل عام، ووصلت ذروة تلك الموجة مع صعود رموز لتلك الموجة إلى السلطة، من أمثال الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء بريطانيا، فهل يشهد العقد القادم نهاية الليبرالية والقيم المشتركة، أم أنّ الموجة العاتية ستنكسر؟

مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «لماذا سيستمر النظام الليبرالي العالمي في العقد القادم؟»، تناول القصة من جوانبها المتعدّدة والمتشابكة.

بات من الرائج التساؤل عمّا إذا كان النظام الليبرالي العالمي سينجو من القوة الضارية التي تحتشد لمواجهته في عشرينات القرن الجاري، التي تسميها صحيفة Wall Street Journal «عقد الاضطرابات»، غير أنه بالنظر إلى الاتجاهات الحالية فمن المنصف القول إن الديمقراطية، والعولمة، والتجارة المفتوحة ستصمد بسهولةٍ خلال العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

لم يكن شيءٌ أكثر تهديداً لمبدأ الأممية من الضربتين المتتاليتين المتمثلتين في تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وتولي بوريس جونسون منصب رئيس وزراء بريطانيا، ليعتليا أبرز منصبين في اثنتين من أعرق وأهم ديمقراطيات العالم، ليوقظا مارد القومية القديم. وبتركيز ترامب غضبه على حلف شمال الأطلسي وعلى منظمة التجارة العالمية، وانسحاب جونسون من الاتحاد الأوروبي، فإن القائدين قد حوّلا ما كان يُحتفى به سابقاً بوصفه «علاقةً خاصةً» تُحصّن الاستقرار العالمي (ولو أنها كانت قد تعكرت بحلول حرب العراق) إلى ما يُشبه أكثر كرة الهدم.

وفي أماكن أخرى من العالم سيطرت التوجهات المعادية لليبرالية على ديمقراطياتٍ ناشئةٍ، مثل هنغاريا، وبولندا، بل وتُهدد ديمقراطياتٍ أكثر نضجاً بالصعود السريع للأحزاب القومية مثل حزب البديل لألمانيا، وحزب الحرية النمساوي الذي يترأسه نوربرت هوفر المناهض للهجرة، وفي كبرى ديمقراطيات العالم، الهند، يبدو أن رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه الهندوسي القومي بهاراتيا جاناتا يبعثون بالرسالة نفسها. وهناك شكوكٌ غير هينةٍ حيال ما إذا كان الهيكل السياسي الديمقراطي يحوي نظاماً مناعياً قوياً يكفيه لمكافحة طاعون المعلومات المغلوطة والمضللة القادمة من الإنترنت، والقرصنة المنهجية من حكامٍ مستبدين مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وقد ظلت تُعيد اختراع نفسها في عام 2019 -الذي يُمكن بمنتهى الإنصاف تسميته عام الاحتجاجات العالمية- من الجذور. كان ذلك يحدث في أقل الأماكن توقعاً في العالم، في دولٍ مثل إيران، ولبنان، والعراق، وتشيلي، وفوق كل هؤلاء في هونغ كونغ، حيث واجه مئات آلاف المحتجين الرصاص والغاز المسيل للدموع، معرّضين الرئيس الصيني شي جين بينغ لحرجٍ كبيرٍ، حتى وهو يعزز بوحشيةٍ حكمه المستبد على الأراضي الصينية.

لعل ديمقراطيات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تشيخ وتتفسخ -وسيحمل عام 2020 الكثير من الإجابات عن هذا التساؤل في نوفمبر/تشرين الثاني- لكن فكرة الديمقراطية ستظل محفزاً قوياً دائم التجدد لا يزداد إلا قوةً بتحسن الأوضاع المعيشية ومعدلات الدخل في أنحاء العالم، مثلما ظلّ علماء الاجتماع والسياسيون يقولون لنا.

يخضع الاقتصاد الدولي أيضاً لبعض أصعب الاختبارات وأكثرها إثارةً للتوتر، وينجو منها بطريقة مثيرٍة للدهشة. حمل عام 2019 في بداياته مخاوف عميقةً من أن حرب ترامب التجارية ستُطلق ركوداً عالمياً، ومن بين أشد المتخوفين كان رئيس مجلس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول، الذي قال في منتصف العام إنه وغيره من رؤساء البنوك لم يكونوا يعلمون ببساطةٍ مدى السوء الذي يُمكن أن تصل إليه الأمور.

قال باول: «الأمر ببساطةٍ أنه لا توجد خبراتٌ كافيةٌ فيما يتعلق بالاستجابة لتوترات التجارة العالمية». ولا يزال النمو والاستثمار يتباطآن، ويرجع ذلك بنسبةٍ كبيرةٍ إلى حالة الغموض التي أوجدها ترامب، لكن المخاوف من حدوث ركودٍ قد تراجعت، وقد تبيّن أن رئيس الولايات المتحدة لا يستطيع وحده إعادتها إلى أيام قانون التعريفات الجمركية «سموت-هاولي» -فحتى نظيره القومي البريطاني بوريس جونسون يؤمن بالتجارة الحرة- وتأثير الدومينو للتعريفات الجمركية الانتقامية التي تلت ذلك في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي مهدت الطريق للحرب العالمية. (في يونيو/حزيران من عام 1930 رفعت الولايات المتحدة التعريفة الجمركية بموجب قانون سموت-هاولي إلى نحو 59% في المتوسط، على أكثر من 25 ألف سلعةٍ مستوردةٍ، وانتهجت كل دول العالم تقريباً سياسة المعاملة بالمثل الوقائية، ما تسبب في ضررٍ بالغٍ لحِق بالاقتصاد العالمي)، واليوم، قد تُصعب تعقيدات الترابط العميق للاقتصاد العالمي وسلاسل الموردين الأمر أكثر من اللازم، حتى على أقوى رجلٍ في العالم.

لطالما جمعتِ الولاياتِ المتحدة علاقةٌ مضطربةٌ بحلفائها القدامى زمان الحرب العالمية الثانية، وبالأخص الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، وحلف شمال الأطلسي، على الرغم من إسهامها في إيجاد تلك الكيانات، ولم يكن ترامب إلا الواجهة التي عبّرت عن تلك الهوية الأمريكية، التي لَطالما كانت تغلي تحت السطح. 

وصحيحٌ أن ترامب كان يحط من قدر تلك الكيانات لدرجةٍ غير مسبوقةٍ، ويظل يُطالبهم بالمزيد، لكنه فقط يقول بلهجةٍ أشد حدةً ما كان يقوله مثلاً الرئيس باراك أوباما، الذي انتقد أيضاً حلفاءه في حلف شمال الأطلسي، لكونهم منتفعين غير مساهمين، وما كان يقوله كذلك الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، الذي هزأت إدارته بشكلٍ خاصٍ من حلف شمال الأطلسي، وسخرت من الأمم المتحدة (سلفٌ آخر لترامب  لا نأتي على ذكره إلا قليلاً هو ميكي كانتور، الممثل التجاري المشاكس للرئيس الأسبق بيل كلينتون، الذي قال مرةً إنه غير مهتمٍ بـ «لاهوت» التجارة الحرة، وإنه يفضل أن تتصرف أمريكا بصفتها دولةً ميركانتيليةً).

يشن ترامب هجوماً سريعاً وجاداً يهدف إلى تجريد منظمة التجارة العالمية من سلطتها، عبر إسقاط محكمة استئنافها، لكن حتى تلك المؤسسة ستصمد على الأرجح في مواجهة الرئيس البالغ من العمر 73 عاماً، الذي يملك بحدٍّ أقصى أربع سنواتٍ في منصبه الذي يخول له أن يعيث فساداً في النظام العالمي. ترجح كفة ذلك الاحتمال الآن بشكلٍ خاصٍ بعدما بات ترامب وحيداً في سعيه الحثيث المعادي للعولمة، بعد مغادرة مستشاره للأمن القومي عميق التوجه جون بولتون.

دعونا لا ننسى أن صعود ترامب وجونسون يُمثل رد الفعل الشرعي على أخطاءٍ سياسيةٍ بالغةٍ ارتكبها نخبويون هيمنوا على النظام الدولي. قاد جورج دبليو بوش برعونةٍ الحزب الجمهوري إلى متاهةٍ بحربه الكارثية استراتيجياً على العراق، وسخافة رفع القيود عن وول ستريت، التي أدت إلى أكبر انهيارٍ اقتصاديٍّ منذ عام 1929 والكساد الكبير. تسبّب ذلك في نفور المصوتين من التفكير الجمهوري التقليدي وفتح الباب أمام هيمنة ترامب غير المتوقعة على الحزب.

شيءٌ مشابهٌ حدث في بريطانيا، حين مهّد شريك بوش في أوهام الاقتصاد النيوليبرالي تلك وحليفه في حربٍ لا طائل من ورائها القيادي العمالي الذي كان يوماً ذا شعبيةٍ كبيرةٍ توني بلير، لتسليم حزب العمال السلطة في نهاية المطاف للاشتراكي جيرمي كوربن. (وهو تحولٌ في دوره يماثل صعود السيناتور بيرني ساندرز، والسيناتور إليزابيث وارن، وممثلي اليسار داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي استجابةً لصعود غريمة ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 هيلاري كلينتون، التي كان يُنظر لها على أنها مؤيدةٌ للحرب وغير قاسيةٍ بما فيه الكفاية على وول ستريت).

لكن الطرح الأهم هنا هو أن ترامب وجونسون هما فقط آخر حلقات الضغط على النظام الذي عانى منذ انتهاء الحرب الباردة من ضغوط لا تقل صعوبةً، وصمد مع ذلك.

ومنذ ذلك الحين انهارت الأسواق الاقتصادية عدة مراتٍ، بينما ظل الاقتصاد العالمي سليماً. هاجم إرهابيون إسلاميون مجموعةً من كبرى العواصم في العالم، ولم يُفجر ذلك صداماً بين الحضارات. ويتشاجر أكبر اقتصادين في العالم؛ الأمريكي والصيني باستمرارٍ، لكنهما يظلان يُتاجران معاً. ولا يزال الواقعيون في أبراجهم العاجية تُخطئ تكهناتهم بانهيار النظام الدولي مخلفاً الفوضى، حتى في ظل بذل سياسيين مثل ترامب أقصى جهودهم لتحقيق ذلك.

ومن منظورٍ واقعيٍّ، كان يجب أن ينحل ما يُسمى بالغرب ومؤسساته بعد الحرب الباردة مع اختفاء الاتحاد السوفيتي، ومثلما كتب أون هاريس في مجلة Foreign Affairs عام 1993: «(الغرب) السياسي ليس بنيةً طبيعيةً، بل هو بنيةٌ شديدة الاصطناع. لقد تطلب وجوده والإبقاء على وحدته وجود (شرقٍ) مهددٍ للحياة وعدائيٍّ بشكلٍ بالغٍ. ومن المثير للشك بشدةٍ أن يتمكن من النجاة الآن مع اختفاء غريمه».

غير أن تلك البنى الدولية لم تتوقف عن التوسع -بسرعةٍ وكثافةٍ كبيرتين إلى حد أنها أحدثت رد فعلٍ عكسياً. وذلك التوسع ما زال قادراً بوضوحٍ على صد الجهود الرامية إلى تحجيمه أو تدميره، خصوصاً ونحن نرى أمماً أخرى تُبرم صفقات تجارةٍ دوليةٍ من وراء ظهر ترامب. وفوق كل شيءٍ، ومع تتراجع صورة أمريكا باعتبارها ضابط استقرار النظام الدولي -على يد بوش في بادئ الأمر ومؤخراً على يد ترامب- هناك أخبارٌ إيجابيةٌ حتى في ظل دراما العزل الجارية الآن.

ومع أن ترامب غير متأكدٍ بالمرة من تبرئته في مجلس الشيوخ، فقد كان التصويت على عزله في مجلس النواب بعد أسابيع من شهادات الدبلوماسيين الأمريكيين اللامعين، تأكيداً ملحمياً على القيم الأمريكية العريقة للتعامل المنصف، ليس فقط مع أوكرانيا، وإنما مع كل دول العالم، ولعل ذلك يكون كافياً في الوقت الحالي للحفاظ على مجريات الأمور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى