تقارير وملفات إضافية

بعد تلقّي الإمارات إشارة تحذيرية.. ماذا ستفعل دول الخليج عندما تطلب منها أمريكا فض الشراكة مع الصين؟

تواجه العلاقات بين دول الخليج والصين اختباراً حاسماً يعتقد أن الولايات المتحدة ستكون وراءه خلال المرحلة القادمة.

فكما هو الحال مع الكثير من المقاربات في أنحاء العالم، غيَّرت الجائحة والتراجع الاقتصادي المرتبط بها المقاربة التي تصيغ شكل النقاشات حول أمن الخليج، والذي كان سيبدأ حتماً في الانتقال تدريجياً من مظلة دفاعية أمريكية أحادية القطب تحمي الممالك الغنية بالنفط من إيران، إلى هيكل متعدد الأطراف أكثر، حسبما ورد في مقال لجيمس دورسي، الزميل الأول في كلية راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة، ونُشر بموقع Responsible Statecraft الأمريكي.

أدَّت تداعيات الجائحة إلى تغييرات محتملة، لكن ليس بالضرورة على نحوٍ يوفر أفضلية للسياسات الحالية لدول الخليج.

باتت علاقات السعودية مع الغرب محل تشكيك على نحوٍ متزايد، وربما كانت حرب أسعار النفط السعودية الروسية في مارس/آذار الماضي هي القشة التي قصمت ظهر البعير. 

ومن المرجح أن تخسر المملكة ودولة الإمارات العربية المتحدة على الأقل بعض النفوذ المالي الذي سمح لهما بلعب دورٍ أكبر من حجمهما، حتى لو كان يُرجَّح أن تستثنيا مشتريات السلاح من تدابيرهما التقشفية.

ويأتي ضعف النفوذ المالي في لحظة تتجهَّز فيها دول الخليج وإيران لسباق تسلُّح عقب إطلاق إيران الأخير لقمر صناعي، وكشفها الستار عن غواصة مُسيَّرة غير مأهولة على خلفية الاتفاق النووي الدولي لعام 2015، والذي كبح البرنامج النووي للجمهورية الإيرانية ودفعه باتجاه الانهيار. 

وتضع هذه الغواصة المُسيَّرة إيران ضمن نادي نخبة، أعضاؤه الوحيدون القادرن على إنتاجها هم الولايات المتحدة وبريطانيا والصين. ويضيف القمر الصناعي إيران إلى مجموعة من نحو 12 دولة فقط قادرة على إطلاق أقمارها الصناعية.

أضف إلى ذلك حقيقة أنَّ أيّاً من اللاعبين الإقليميين –السعودية والإمارات وقطر وإيران وتركيا وإسرائيل- لا تشعر بأمان بأنَّ أيٍّ من القوى الخارجية –الولايات المتحدة والصين وروسيا- تمثل شريكاً أمنياً وجيوسياسياً موثوقاً.

اعتَبَرت دول الخليج، منذ سنوات تعود إلى حقبة الرئيس باراك أوباما إن لم يكن الرئيس بيل كلينتون، على نحوٍ متزايد، أنَّ الولايات المتحدة هي للأسف خيارها الوحيد على أساس فرضية أنَّهم غير مستعدين لتغيير سياساتهم، خصوصاً تجاه إيران، لكنَّها خيار من الواضح أنَّه غير موثوق وغير مستعد للدفاع عن دول الخليج بأي ثمن، وفي بعض الأحيان يختلف معهم من حيث أهداف السياسة.

والمشكلة بالنسبة لدول الخليج هي أنَّ أيَّاً من روسيا والصين لا يوفران بديلين حقيقيين، على الأقل ليس بشروط تكون دول الخليج مستعدة لقبولها. 

فروسيا غير مهتمة وغير قادرة على أن تحل محل الولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، فإنَّ خطتها الأمنية الخليجية على أقل تقدير تتعارض مع السياسة السعودية.

وتدعو الخطة إلى ترتيبٍ أمني على غِرار الترتيب الأمني في أوروبا، تحت رعاية “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا”. ومن شأن ترتيبٍ كهذا، على عكس المظلة الأمنية الأمريكية، أن يشمل إيران، لا أن يكون مُوجَّهاً ضدها.

وقد أوضحت السعودية، تحت حكم ولي العهد محمد بن سلمان، أنَّها غير مهتمة بالتواصل مع إيران.

تُعَد الصين بوضوح هي المشكلة الواضحة التي يتجنَّبها الجميع.

فعلى الصعيد المنطقي تُعَد الصين ودول الخليج في نفس المركب، لأنَّهما تواجهان حالة عدم اليقين بشأن الترتيبات الأمنية الإقليمية الحالية. 

فكما هو الحال مع دول الخليج، لَطالما اعتمدت الصين على المظلة الدفاعية الأمريكية لضمان أمن تدفق الطاقة والبضائع الأخرى عبر المياه المحيطة بالخليج، فيما أطلقت عليه الولايات المتحدة “الركوب المجاني”.

فهناك مؤشرات على أن بكين تفضل الهيمنة الأمريكية على هذه المنطقة، رغم أهميتها الاقتصادية المتزايدة لبكين.

وتحسُّباً لليوم الذي لن يكون بإمكان الصين فيه الاعتماد على الأمن الذي توفره الولايات المتحدة مجاناً، كيَّفت الصين استراتيجيتها الدفاعية تدريجياً، وأسَّست أول منشأة عسكرية خارجية لها في جيبوتي تواجه الخليج من منطقة القرن الإفريقي. وأشار المخططون الاستراتيجيون إلى أنَّ جيبوتي هي خطوة أولى في التأسيس المُرجَّح لقواعد أخرى.

لكن كما هو الحال مع الروس، قد يفترق المخططون الاستراتيجيون الصينيون ونظراؤهم الخليجيون حين يتعلَّق الأمر بما قد تكون معالم أساسية جيوسياسية مقبولة لهيكل أمني إقليمي جديد، لاسيما فيما يتعلَّق بإيران.  

لطالما كانت الفرضية هي أنَّ الصين يمكنها في أحسن الأحوال تأجيل التنفيذ، لكن لن يكون أمامها خيار في نهاية المطاف إلا الانخراط في سياسة المنطقة. 

وأشار مؤخراً محللون صينيون نافذون إلى أنَّ بكين قد يكون لديها خيار آخر: إدارة ظهرها للمنطقة. 

قد يبدو هذا لا يُصدَّق، بالنظر إلى اعتماد الصين على موارد طاقة الشرق الأوسط، فضلاً عن الاستثمارات الكبيرة في المنطقة.

لكنَّ هؤلاء المحللين يجادلون بأنَّ الصين قادرة على تنويع مصادر طاقتها، وأنَّ الاستثمارات الصينية في المنطقة ليست إلا نسبة ضئيلة من إجمالي الاستثمارات الصينية بالخارج.

فضلاً عن ذلك، يتناغم تراجع الاهتمام الاقتصادي الصيني في الشرق الأوسط مع نمط من تراجع تدفقات رأس المال الصيني إلى خارج الصين.

إذ قالت أغاثا كراتز، المديرة المساعدة بمجموعة Rhodium Group البحثية المستقلة: “منذ عام 2016 على وجه الخصوص، تراجعت التدفقات المالية الصينية بصورة كبيرة في كلٍّ من الإقراض والاستثمار”.

وبطبيعة الحال، واظب المسؤولون والمحللون الصينيون على الإشارة إلى أنَّ الشرق الأوسط ليس أولوية صينية، وأنَّ أي معارك مستقبلية مع الولايات المتحدة ستُخاض في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وليس الخليج.   

لكنَّ الأمر الأكثر احتمالاً من إقدام الصين جدياً على إدارة ظهرها للشرق الأوسط هو احتمالية أن تبعث برسالة إلى المنطقة لا تختلف عما تقوله روسيا: نظِّموا أنفسكم وجِدوا طريقة لتهدئة التوتر. وهي رسالة يبدو أنَّها سُمِعَت في دول الخليج الأصغر، لكن لم يتردد صداها بعدُ في الرياض، وهي أيضاً رسالة لم ترفضها إيران تماماً.

وقامت صحيفة تابعة للحزب الشيوعي الصيني مؤخراً بأول إشارة في وسائل الإعلام، التي تسيطر عليها الدولة، إلى تقارير عن اتفاق تعاون سري مزعوم لمدة 25 عاماً بمليارات من الدولارات في إيران، وسط حالة من الجدل في الجمهورية الإسلامية. 

والتزم المسؤولون الصينيون الصمت إلى حدٍّ كبير بشأن التقارير الإيرانية التي تحدثت عن اتفاق بقيمة تتراوح بين 120 و400 مليار دولار أمريكي، يبدو أنَّ إيران اقترحته، لكن لم توافق عليه الصين بعد.

كتب الباحث في شؤون الشرق الأوسط فان هونغدا في صحيفة Shanghai Observer التابعة لصحيفة Liberation Daily، وهي الصحيفة الرسمية للجنة الحزب الشيوعي الصيني في شنغهاي، يجادل بأنَّه على الرغم من أنَّ الاتفاق ليس قريباً من التطبيق، فإنَّه سلَّط الضوء على “لحظة مهمة من التطور”، في وقتٍ سمحت فيه التوترات الأمريكية الصينية لبكين أن تكون أقل اكتراثاً بالسياسات الأمريكية تجاه إيران. 

ويشير فان إلى أنَّ الشقاق الصيني الأمريكي منح بكين مجالاً أكبر لتطوير علاقتها مع إيران، وأنَّ ذلك لن يمر دون ملاحظة من الرياض والعواصم الخليجية الأخرى.

قد تتحدد الطريقة التي يتغير بها كل ذلك من خلال شد الحبل الآخذ في الظهور في الشرق الأوسط بين الصين والولايات المتحدة. 

وقد عَلِقَت إسرائيل بالفعل في هذه اللعبة وأوضحت خيارها، حتى لو أنَّها ما زالت تحاول الحفاظ على هامش للمناورة.

مع ذلك، تعرف إسرائيل مع مَن تكمن مصلحتها، لاسيما في لحظة تمثل الولايات المتحدة فيها الداعم الوحيد لسياسات إسرائيل في ضم الأراضي. 

وعلى النقيض من إسرائيل، يُرجَّح أن تجد الولايات المتحدة الأمر أصعب حين تحاول إقناع الدول الخليجية بالحد من انخراطها مع الصين، بما في ذلك التعامل مع شركة الاتصالات العملاقة “هواوي”، التي تملك بالفعل عمليات كبيرة في المنطقة.

وكما هو الحال مع إسرائيل، يسعى مسؤولو الإمارات إلى نقل رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أنَّهم ينظرون إلى العلاقات مع واشنطن باعتبارها لا غنى عنها، ولو أنَّ هذا لم يخضع للاختبار بعد حين يتعلَّق الأمر بالصين. 

لكنَّ تأكيد المسؤولين الخليجيين على أهمية العلاقات لن يحميهم من المطالبات الأمريكية بإعادة مراجعة علاقتهم مع الصين والحد منها، كما لن يحميهم من تحذيراتها من أنَّ التعامل مع هواوي قد يُعرِّض الاتصالات الحساسة للخطر، لاسيما بالنظر إلى وجود العديد من القواعد الأمريكية في المنطقة.

وفي إشارة تحذيرية، رفضت السفارة الأمريكية في أبوظبي الشهر الماضي، يونيو/حزيران عرضاً إماراتياً للتبرع بمئات من اختبارات فيروس كورونا لفحص موظفيها. 

وقال مسؤول أمريكي إنَّ سبب الرفض هو أنَّ الاختبارات إمَّا صينية الصنع أو مرتبطة بشركة BGI Genomics، وهي شركة صينية نشطة في الخليج، وهو ما أثار شكوكاً بشأن خصوصية المرضى.

مشكلة الولايات المتحدة ليست أنَّ سياسات ترامب، أو عدم وجود سياسة من جانب ترامب، تجاه الشرق الأوسط هي ما تُقوِّض الثقة، لكن أيضاً السياسات التي يبدو ظاهرياً أنَّها لا علاقة لها بالشرق الأوسط. 

فكانت الولايات المتحدة تطالب شركاءها، بمن فيهم الخليجيون، بمنحها وقتاً لتطوير بديل لشبكة الجيل الخامس التابعة لهواوي. لكنَّها في نفس الوقت تمنع ذلك النوع من الناس الذين تحتاجهم شركات التكنولوجية لتطوير الأنظمة من دخول أراضيها.  

بغض النظر عما ستؤول إليه لعبة شدّ الحبل في الشرق الأوسط، فإنَّ الجانب الإيجابي هو أنَّ الولايات المتحدة، شأنها شأن الصين، لا يسعها تحمُّل وجود فراغ قوة في المنطقة على الرغم من رغبتها في تقليص التزاماتها هناك. وهذا هو ما قد يُوجِد الأساس للخروج عن الإطار المألوف.

وسيتطلَّب هذا التراجع عن مقاربات تتعامل مع الصراعات باعتبارها مباريات صفرية، ليس فقط من جانب اللاعبين الإقليميين، لكن أيضاً من جانب اللاعبين الأجانب، كما في حالة الولايات المتحدة مقابل إيران، وسيتطلَّب الانخراط من جانب كافة اللاعبين الإقليميين والأجانب. ولتحقيق هذا، سيكون على الفاعلين الاعتراف بأنَّ التصورات على جانبي خط الصدع في الخليج تمثل على كثيرٍ من الأصعدة انعكاسات لبعضها البعض، كل الأطراف ترى في بعضها البعض تهديدات وجودية.    

لكنَّ الفرصة الماثلة هي أن تفتح إجراءات بناء الثقة والاستعداد للانخراط باباً نحو القبول المتبادل بترتيبات أمنية إقليمية وحل للصراع. لكن كي يحدث ذلك، سيتعين على القوى الكبرى أن تستثمر الإرادة والطاقة السياسية في وقتٍ تشعر فيه بأنَّ لديها أموراً أهم لعملها وتعطي الأولوية للتنافس الجيوسياسي.

لكن في منعطف مثير للسخرية، قد يكون التنافس الجيوسياسي وسيلة لإذابة الجليد في عالم ومنطقة يترابط بهما كل شيء. فالأمن في الخليج، على نحوٍ متزايد، لا يتعلَّق بالأمن في الخليج فقط. ولا يرتبط حتى بالأمن في الشرق الأوسط فقط، بل يتعلَّق بالأمن في البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين وحتى آسيا الوسطى.

وأخيراً، هناك أحداث غير متوقعة وأحداث ضعيفة الاحتمال في الشراكات والتحالفات التي إمَّا تتحول إلى شراكات وتحالفات أكثر هشاشة مثل تلك الخاصة بالولايات المتحدة، أو شراكات وتحالفات هشّة بطبيعتها مثل العلاقات بين إيران وتركيا والصين وروسيا. وتلك الأحداث قد تتغيَّر في أي لحظة بطريقة أو بأخرى.

وبالتأكيد، وعلى عكس التصورات الغربية، فإنَّ العلاقات بين إيران وتركيا وروسيا والصين ليست انتهازية، وتدفعها مصالح مشتركة قصيرة المدى وحسب، بل تقوم بدرجة ما على قيم مشتركة.

لكنَّ هذه المشتركات ليست كافية لمنع وقوع تركيا وروسيا في نهاية المطاف على طرفي نقيض في الصراعين في ليبيا وسوريا، أو لوقف التآكل التدريجي لتقسيم العمل في آسيا الوسطى بين روسيا التي تضمن الأمن، والصين التي تُركِّز على التنمية الاقتصادية، أو لإحداث تغيير في التنافس الذي يغلي ببطء بين إيران وروسيا في بحر قزوين.

باختصار، اربطوا أحزمتكم. فقد يكون الخليج والمنطقة الأوسع نطاقاً طريقاً وعراً ذا مطبات غير متوقعة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى