منوعات

تحول من شخص مفقود أعلن وفاته قبل 20 عاماً لنجم عالمي.. فنان شعبي سوداني يتحدى الموت والديكتاتورية

على مشارف أم درمان غير المُعبَّدة، ثاني أكبر مدن السودان، تجد مكاناً لا يمكن أن تتوقع العثور فيه على نجم موسيقي شهير، لكن أبوعبيدة حسن ليس شخصية عادية أبداً. إذ يمثل الرجل النحيل، الذي تجاوز الستين من العمر ويجذب الجماهير إليه في الباحة المُظلَّلة من منزل حجري مهجور، ثورة موسيقية أشعلت الإثارة في جسد الموسيقى السودانية التقليدية. لكن الأغرب من ذلك، هو أنه في عيون السودانيين، عاد هذا الرجل من الموت.

تقول صحيفة The Guardian البريطانية، في ذروة شهرته خلال فترة السبعينيات، سافر أبوعبيدة حسن من بلدة مروي، موطن قبيلة الشايقيّة ومركز الثقافة النوبية إلى العاصمة السودانية الخرطوم، حيث اشتهر بأنه عازف ثوري لآلة وترية محلية تُعرَف باسم “الطمبورة”. 

وتركز موسيقى قبيلة الشايقيّة على النداء والرد، وهي مصممة لجذب الجمهور إلى قصص طويلة عن الحب وانكسار القلب. وفي هذا اللون من الفن، تتخلل الأغاني التي تمس القلب نبضات إيقاع الطبول المتغيرة، تصاحبها في الخلفية تصفيقات وكورال غنائي. وباعتباره أول فنان من الشايقيّة يشتهر على الساحة العالمية، أصبح أبوعبيدة من دون قصد سفيراً لقبيلة الشايقيّة وأسلوبها الموسيقي المميز.        

يقول أبوعبيدة: “أصبحت شهيراً في أنحاء العالم”، بينما تعلو وجهه ابتسامة توحي بأنَّ هذا ما حَلُمَ به على الدوام. وشاركه أفراد أسرته المجتمعون حول فراشه ضحكاته.

وبعدما كان أبوعبيدة إحدى الركائز الأساسية في مشهد الموسيقى في الخرطوم خلال عصره الذهبي في السبعينيات وبداية الثمانينيات، خفت نجمه بسبب خليط من سوء الحظ والتغيرات في سياسات السودان. وانحدر الوضع لدرجة أنه منذ 20 عاماً مضت، أعلنت صحيفة سودانية شهيرة وفاته. ومع ذلك، أصر معجبوه، الذين تداولوا أغانيه على المنتديات الإلكترونية وفي محلات التسجيلات في الخرطوم، على أنباء نجاته مظهرين تفانياً كبيراً للرجل الذي لا يضاهيه أحد في عزف الطمبورة.

ويقول أبوعبيدة إنه لم يختفِ تماماً عن أعين الجماهير، بل ابتعد قليلاً. وكانت عودته، إن استطعت تسميتها بذلك، مذهلة. إذ تتبعت أبوعبيدة شركةُ Ostinato Records للتسجيلات الصوتية، المرشحة لجائزة غرامي -ومقرها بانكوك ونيويورك- والمعروفة بقدرتها على الوصول إلى مصادر الموسيقى النادرة في البلدان المتأثرة بالحرب أو الكوارث الطبيعية، ونشرت موسيقاه ليسمعها العالم بأكمله.

وخلال سنوات قليلة، تحول من شخص مفقود يُعتقَد أنه مات إلى نجم عالمي. إذ بيعت جميع نسخ الأسطوانة المطولة لموسيقاه في جميع أنحاء العالم خلال أسبوع واحد من إطلاقها. ونشرت شركة Ostinato نسخة أخرى بيعت جميعها في أوروبا. 

وبعدما سقطت مسيرته المهنية ضحية لحملة قمع على الحفلات الحماسية في الخرطوم التي كانت محور شهرته، تحاول الحكومة الانتقالية الجديدة في السودان استهلال عصر جديد ترعى فيه الرموز الموسيقية الموقرة، مثل أبوعبيدة.

وعن موسيقى أبوعبيدة، يقول فيك سوهوني، مؤسس Ostinato Records: “في البداية كنت متوتراً؛ لأنها تحتاج لبعض الإنصات. هذا صوت جديد، لا يصاحبه ألحان الغيتار الكهربائي ولا الساكسفون ولا أي شيء من هذا القبيل. وهو ليس صوتاً تألفه أو تفهمه على الفور، ومع ذلك وقع الناس في حبه”.

وتكاد تكون رحلة بحث سوهوني عن أبوعبيدة وسجلاته بقدر غرابة عودة الموسيقى إلى الحياة بعد موته المزعوم. إذ سافر سوهوني إلى الخرطوم في عام 2016، بحثاً عن تسجيلات مفقودة للفنان على أمل معرفة المزيد عن اختفائه من الحياة العامة. وقد ساعده في بحثه أحمد أسيوطي، طبيب أسنان محلي كتب منشوراً على موقع TripAdvisor يعرض خدماته للسياح.

وأخبر أسيوطي سوهوني أنَّ أبوعبيدة مات على الأرجح، لكنه قال إنَّ بإمكانهما التعاون للوصول لحقيقة ما حدث له. وبدأت رحلة البحث بحصول سوهوني على فرصة الظهور على شاشة التلفزيون السوداني بمساعدة أسيوطي، والتسلل إلى داخل محطة الإذاعة الوطنية، والإفلات من الحظر المفروض على دخول الزوار الأجانب. ويقول سوهوني: “قال أحد العاملين في أرشيف الإذاعة الوطنية: أعتقد أنه لا يزال على قيد الحياة”. 

شَرَع أسيوطي وسوهوني في رحلة استكشاف بين جامعي الأسطوانات وخبراء الموسيقى، أوصلتهم إلى أحد المتاجر حيث ساعد تشغيل أسطوانة لأبوعبيدة في حدوث لقاء عابر. إذ قال رجل يجلس في زاوية من المحل: “هل تبحثون عن أبوعبيدة حسن؟ زوجته من بنات عمومتي”. ويقول سوهوني: “أول ما خطر في بالي هو أنَّ هذا الرجل يتلاعب بنا”. 

لكن اتضح عكس ذلك، وبفضل هذا اللقاء العابر عثر الرجلان أخيراً على زوجة أبوعبيدة، التي دبرت لهما لقاءً مع الفنان. وكانت النتيجة هي الاتفاق على إطلاق أسطوانة مطولة من ثمانية مقاطع بعنوان “أبوعبيدة حسن وطمبورته: صوت الشايقيّة في السودان”. ويأتي الألبوم مع تحذير: “نحن لسنا مسؤولين عن أي مشكلات إدمان قد تنتج عن صوت أبوعبيدة الشايقي”.

وحصدت الموسيقى السودانية القديمة جوائز في أنحاء إفريقيا. فمن نيروبي وحتى مقديشيو، يُثمِّن جامعو الأسطوانات ألحانها الغنية بنغمات الكمان والآلات الموسيقية الممتعة، التي يصاحبها عادة أصوات ثاقبة وعناوين أغنيات شاعرية.  

لكن صوت أبوعبيدة الاستثنائي يبرز من بينها، حتى أكثر من أي من لاعبي الطمبورة في جيله. ويرجع جزء من قصة أصالته الفريدة إلى أنَّ لديه نسخة خاصة به عن لحظة “التحول الإلكتروني للفنان بوب ديلان”. فقد أثار أبوعبيدة عاصفة على المشهد الموسيقي في الخرطوم من خلال إضافة وتر سادس إلى الطمبور الخاص به، وتوصيله أحياناً بالكهرباء.

يقول أبوعبيدة عن فترة شهرته في السودان: “كانت بلادي تعزف موسيقاي، وكنت نجماً شهيراً. كنت فناناً لامعاً، لم أستطع وقتها أن أمشي في الشارع!”. 

ووصل الطلب على صوته إلى درجة دفعته لاستئجار سيارة والطواف على الحفلات الموسيقية والاحتفالات التي انتشرت في أنحاء السودان آنذاك، مستمتعاً بشهرته وبالمناخ الذي يصقل المواهب الفنية.    

واسترجع بحب: “صباحاً ومساءً وحفلات تستمر طوال الليل. في ذلك الوقت، لم تكن لدي أية فكرة عن مدى قيمتي. كنت على القمة، لكن لم أعرف حقيقتي”.  

ثم جاء نظام جديد في السودان ادعى تطبيق الشريعة، في الثمانينيات من القرن الماضي، ووضع حداً لإقامة الحفلات، وتعرض الموسيقيون للقمع طوال فترة حكم عمر البشير التي دامت 30 عاماً، بدايةً من استيلائه على السلطة في عام 1989؛ مما يعني أنَّ العمل الفني نضب. وانتقل أبوعبيدة إلى المملكة العربية السعودية للعمل مع شقيقه، وبحلول الوقت الذي عاد فيه إلى السودان كانت الأضواء قد انحسرت عنه تماماً.

وعمل أبوعبيدة نجاراً بينما انتظر أن يتغير حظه. وكان يقيم في منطقة بين مروي وأطراف أم درمان، من دون أن يصل لعلمه أنَّ معجبيه كانوا يبحثون عنه، يائسين من وفاته الظاهرية.     

ثم في 2019، أطاحت الاحتجاجات الشعبية بالبشير ووضعت النهاية لديكتاتوريته المستمرة منذ زمن. وجاءت خلفاً له حكومة انتقالية تزعم أنها سترعى السودان إلى أن تصل للديمقراطية. وأبدى النظام الجديد رغبته في الاهتمام بالرموز الثقافية من الحقبة التي سبقت عهد البشير.

وبفضل التغطية الإخبارية المحلية المتزايدة عن إهمال الفنانين وسوء صحتهم، بدأ ممثلون عن وزارة الثقافة السودانية وبعض العامة بزيارة منازل موسيقيين من العصر الذهبي؛ مثل المغني عبدالعزيز المبارك وأبوعبيدة. وتزامنت حملات وسائل التواصل الاجتماعي لجمع التبرعات مع عروض حكومية لدفع الفواتير الطبية لكل من الموسيقيين، وذلك قبل وفاة مبارك في أوائل فبراير/شباط. وعلى الرغم من أنَّ صحة أبوعبيدة لم تعد تسمح له بإجراء جولات موسيقية، تسافر مجموعة من الموسيقيين والضيوف إلى منزله لسماع صوته وهو يلعب الطمبور. 

وتقول عائلة أبوعبيدة إنَّ عودته إلى دائرة الضوء إيجابية، لكنهم سيظلون متشككين في مدى صدقه إلى أن يروا دعماً ملموساً من الحكومة. وتقول هالة حميدة، نسيبة أبوعبيدة: “نريد أن يعرف الناس أنه موهبة منسية – وينبغي رعاية هذه الموهبة”.

وبسؤالها عمّا تشعر به إزاء شهرته المتجددة، أجابت هالة: “كانت الطمبورة مرتبطة بقبيلة الشايقيّة فقط، لكنها انتشرت الآن عالمياً. يا لَه من أمر مذهل!”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى