تقارير وملفات إضافية

إيطاليا تستعد لتعبئة ربع الإمدادات العالمية لأنجح لقاح لكورونا، فهل تنتقم من غدر شركائها الأوروبيين وتستأثر به لنفسها؟

في وادٍ يقع جنوب إيطاليا، ونادراً ما يدخله السياح، كان المشهد في أحد الصباحات القريبة يذكّر بذروة فيلم Star Wars، عندما كان الطيارون المتمردون يستعدون للمعركة، لكن الواقع أنه في هذا الوادي يدور فصل مثير من معركة الحصول على لقاح كورونا، التي تتسابق دول العالم للفوز بها. 

فعلى مسافة قريبة من مزارع العنب، في مجمع دوائي حديث مترامي الأطراف، سارت مجموعات من النساء والرجال في الردهات، مرتدين أحذية صلبة وبذلات قفز خضراء وكمامات جراحية. وشاهدت مجموعة من المتدربين مقطع فيديو تدريبياً، بينما تناوبت مجموعة أخرى على تجميع الأدوات وتفكيكها. وخلف الزجاج تحرّكت الروبوتات في الأنحاء لتنفذ المهام الآلية.

وتُعد هذه النسخة الإيطالية من قاعدة المتمردين موقعاً لشركة أمريكية هي Catalent، حسبما ورد في تقرير لشبكة Bloomberg الأمريكية.

البطل القاتل هنا هو كوفيد-19، الذي دمّر هذه البلاد في بداية الربيع، إذ أبرمت Catalent عقداً لتعبئة القناني الزجاجية الصغيرة بـ450 مليون جرعة من اللقاح الذي أعدته جامعة أكسفورد مع شركة AstraZeneca البريطانية السويدية، الذي صار في أواخر مايو/أيار المرشح الأول للمشاركة في التجارب البشرية واسعة النطاق. 

ويمثل هذا المشروع أهمية كبيرة بالنسبة لإيطاليا: فثمة احتمال أن تمتلك داخل حدودها ما يقرب من ربع الإمداد العالمي من اللقاح، بعد أن كانت الضحية الأولى له في الغرب.

ولكن السؤال الجوهري في معركة لقاح كورونا: هل تعطي إيطاليا لنفسها الأولوية في الحصول على اللقاح من هذا المشروع المتعدد الجنسيات عن باقي الدول الأوروبية.

وفي حال نجحت هذه المهمة فسيبدأ المخزون الثمين من الشهر القادم في ملء مستودعات التخزين الباردة بمصنع Catalent. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني، سيكون في وسع المنظمين الإيطاليين طرح أولى جرعات اللقاح في السوق العالمي، وفقاً لماريو جارجيلو، رئيس عمليات المنتجات الحيوية في Catalent، ومقرها مقاطعة سومرست بنيوجيرسي.

وقال جارجيلو وهو يستعرض المصنع المُقام في مدينة أناجني القديمة: “أروع ما في القصة أن يكون البلد الأشد تضرراً جزءاً من الحل، يشعر الناس هنا بقدر كبير من المسؤولية، سيكون اللقاح هو الأول في الأسواق، أو من الأوائل، إنه سباق”.

أدّت هذه المنافسة إلى اندلاع ظاهرة عُرفت بقومية اللقاح، وهي تنافس الحكومات على تأمين جرعات من اللقاحات المحتملة لمواطنيها. وتعددت الوسائل لتحقيق ذلك، وميدان المعركة واسع بدوره، إذ هناك ما يزيد عن 160 جهداً يُبذل حالياً، و26 منها يخضع للتقييم السريري اعتباراً من 31 يوليو/تموز الماضي، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وتشمل اللقاحات المتصدرة التي وصلت للمرحلة النهائية من التجارب لقاح أكسفورد، ولقاحاً آخر قدّمته شركة Moderna في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية، ولقاح ثالت من شركة BioNTech SE الألمانية، بالمشاركة مع شركة Pfizer الأمريكية. 

وقد حصلت كل تلك الشركات على استثمارات أو اتفاقيات شراء من حكومة الولايات المتحدة ودولة واحدة أخرى على الأقل. وانضمت الصين، وروسيا، وإيطاليا (بداية من الشهر الجاري) إلى الدول التي تملك لقاحات مُحتملة لتجربتها على البشر.

ومع الرغبة في نيل حقوق المفاخرة، ووقوف الاقتصادات على المحك لا يلعب الجميع بلطف، إذ حاولت الصين وروسيا اختراق عددٍ من الجهود الغربية في صنع اللقاح، وفقاً لأجهزة استخبارات الولايات المتحدة وحلفائها. وتخطط بعض الدول والشركات الدوائية لاحتمالية منع تداول اللقاحات أو مكوناتها من عبور الحدود. 

وهناك احتمال كذلك أن هذه المنافسة تعرّض الأمن الطبي للخطر، إذ عادة ما يستغرق الوصول للقاحات سنوات، ومن شأن هذا الجدول الزمني المضغوط أن يُثير الشكوك حول تأثير طموحات قادة الدول على حكم الجهات المنظمة للقاحات. 

ومن جانبها أعلنت روسيا، في الأول من أغسطس/آب، أنها ستبدأ في أكتوبر/تشرين الأول تقديم التطعيمات الجماعية بلقاح لم ينته بعد من التجارب السريرية. وأثيرت في الولايات المتحدة شكوك، منها ما أشار إليه أعضاء في الكونغرس أثناء جلسة استماع، في يوليو/تموز، مع رؤساء تنفيذيين لشركات دوائية، حول كون الرئيس ترامب يضغط على إدارة الغذاء والدواء لاختصار الطريق مع اقتراب انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني.

دخل ترامب في قلب المنافسة بعملية الالتفاف السريع Warp Speed، التي تنفق مبلغاً يصل إلى 10 مليارات دولار على أمل الحصول على حوالي 300 مليون جرعة من لقاح فائز يتوفر للأمريكيين. ويضع ترامب، الثري المُفسد، رهاناته على كل المجهودات التي يبذلها الغرب تقريباً. إذ قال خلال زيارةٍ لمنشأة حيوية في كارولينا الشمالية، يوم 27 يوليو/تموز: “سننتصر على الفيروس من خلال إطلاق سراح العبقرية العلمية الأمريكية، وهو ما يحصل فعلاً”.

تعهدت شركة AstraZeneca بإنتاج سلاسل إمداد مستقلة من لقاح أكسفورد لأربع قارات؛ وهو إقرار صريح بأنها لا تعتمد على التدفق الطبيعي للسلع. إذ قال مين بانجالوس، رئيس الأبحاث والأدوية الحيوية في الشركة: “نظراً لبعض السياسات، هناك خطر من أن يطلب الناس اللقاح ثم لا نتمكن من إدخاله عبر الحدود، ننظر في ذلك بعناية شديدة، ونتساءل عما سيحدث إذا جاءت هذه اللحظة. 

ويضيف “ولذا فنحن حذرين للغاية في محاولة إنتاج سلاسل إمداد مستقلة تتمكن من إتاحة اللقاح بالكامل في جميع أنحاء العالم”. 

وتستعد AstraZeneca لإنتاج ملياري جرعة مبدئياً في أوروبا والبرازيل والهند وروسيا والولايات المتحدة، وستحصل الهند وحدها على نسبة كبيرة من هذه الكمية التي تُصنع بناءً على تفاهم مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي من أجل بقاء 500 مليون جرعة داخل البلاد.

هناك أحجية تُسمى معضلة السجينين في نظرية الألعاب، وهي تُقدم دروساً في الاختيارات التي يتخذها الناس وهم يوازنون بين مصلحتهم الشخصية والتعاون. وتكمن الفكرة في وجود عضوين من نفس العصابة داخل زنزانتين مختلفتين في السجن، بحيث لا يمكنهما التواصل مع أحدهما الآخر. ويقوم المدعي العام، الذي لا يملك دليلاً لإدانة أي منهما بجريمة خطرة، بعرض الصفقة نفسها على كلا السجينين: إذا وشيت بصديقك ستكون حراً، إلّا إذا وشى بك هو الآخر. ويُعد الحل الأفضل، في مختلف التوليفات، أن يلتزم كل منهما الصمت ويقبلان الاتهامات الأخف.

إذ يقول توماس بوليكي، رئيس برنامج الصحة العالمي في مجلس العلاقات الخارجية، والزميل القديم في معهد بترسون للاقتصاد الدولي تشاد بون، إنّ ما يحدث الآن في هذا التسابق على اللقاح هو تطبيق لمعضلة السجينين، إذ تتجنب الدول سيناريو التعاون الأفضل، مُجازِفةً بأن تكون وحيدة في ذلك. حيث كتب بوليكي وبون في مقال بمجلة Foreign Affairs تحت عنوان “مأساة قومية اللقاح The Tragedy of Vaccine Nationalism”: “لا تُعد قومية اللقاح مقيتة من الناحية الأدبية والأخلاقية فقط، بل هي تخالف المصالح الاقتصادية والاستراتيجية والصحية لكل الدول”. وأضافا أنّه في حين تتسارع البلدان لتأمين حصولها على اللقاح أولاً، فهي تفشل في إبطاء انتشار الفيروس. ما يؤدي إلى اختلالات في سلسلة الإمدادات، وتحفيز الاقتصادات بشكلٍ غير فعال، وربما خلق صراع جيوسياسي.

وتستجيب البلدان الغنية لهذه المخاوف من خلال دعم مبادرة كوفاكس Covax Facility، وهي آلية تجمع الأموال لضمان وصول اللقاح لـ90 دولة منخفضة الدخل. وتقول 75 دولة على الأقل إنها ستدعم مبادرة كوفاكس، لكنها في الوقت نفسه تضع مصالحها الذاتية أولاً.

لكن دعونا نتمهل قليلاً وننظر إلى ما يمكن قوله في صالح دولة تعمل مع شعبها للخروج من أزمة، خاصةً إذا كان بإمكان مجهوداتهم أن تساعد بقية العالم أيضاً. وكان هذا رأي عالمة الكيمياء الحيوية، ستيفاني دي ماركو، المديرة العلمية في Advent. إذ صارت ستيفاني جزءاً جوهرياً في الجهود المبذولة في لقاح أكسفورد منذ الأيام الأولى للجائحة، حيث عملت في منشأة الإنتاج التي تصل مساحتها إلى ألف متر مربع، والتي كانت من قبل صالة رياضية للموظفين في الشركة الدوائية العملاقة Merck & Co- المالك السابق للمنشأة.

ويقول جارجيلو إنه ليس مهتماً بالترويج لقومية اللقاح في منشأة التعبئة والتغليف التابعة لـCatalent، وإنّ خطر سرقته عبر الحدود حقيقي بما يكفي، ما يجعله يتخذ الخطوات اللازمة للتقليل من الاختلالات المحتملة.

ولنأخذ على سبيل المثال إمدادات القنينات الزجاجية، إذ يستعد منتجو اللقاح، على صعيد عالمي، لمواجهة نقص محتمل في تلك القنينات المصنوعة من زجاج خاص. وقد قللت AstraZeneca من هذا الخطر إلى حد ما، من خلال إلزام المتعاقدين بتعبئة 10 جرعات في كل قنينة. 

ويرى جارجيلو أن هذه تُعد خطوةً أولى، أما على أرض الواقع في إيطاليا فلا تزال ذكرى منع الحلفاء مرور المواد في الأيام الأولى من الجائحة عبر البلاد حاضرةً في الأذهان، ما يُبرّر الحاجة إلى الإبقاء على إمداد القنينات بالكامل داخل البلاد.

لذا توجه إلى شركة Soffieria Bertolini SpA في شمال غرب إيطاليا، لكن كان عليه الحذر: فالشركة تحصل على زجاجها المخصوص من صانع زجاج ألماني. وقبل أن يُؤكّد لشركة AstraZeneca أن Soffieria Bertolini ستمدهم بالقنينات تحقّق جارجيلو بعناية من مخزون الزجاج الألماني الخام لدى صانع القنينات. وقال: “لقد أخبرونا بمخزونهم”. ولم تُبرم صفقة شراء القناني إلا بعد أن تأكد من وجود المخزون الكافي على الأراضي الإيطالية. وبينما هو يوظف الآن 100 عامل ويدربهم على خطط التعبئة، تنتظر Catalent وصول حقائب عملاقة من اللقاح “المواد الدوائية” التي يجري إنتاجها في أماكن أخرى من أوروبا، بحلول سبتمبر/أيلول.

وعندما تنتهي الدفعات، ستُنقل إلى مستودعات مبردة في مجمع Catalent، وتُخزن على ألواح من الألومنيوم والبلاستيك، في انتظار الموافقات التنظيمية والشحن. ويقول جارجيلو إنه متأكد أن الحكومة ستسرع أي خطوات بيروقراطية. 

ومن آخر تلك الخطوات سيُقرر المعهد العالي للصحة بشأن إتاحة المنتج النهائي للتصدير، وفي حين لا توجد دلائل على تسييس هذه العملية العلميّة، فطريقة سيرها تحدد ما إذا كان متوقعاً لإيطاليا أن تحصل على اللقاح أولاً، أم ستكون البطلة الأوروبية التي توزعه بسرعة، على طريقة القوة الناعمة الصينية.

لكن في السياسة الإيطالية، هناك تلميحات إلى أن القيادة تتوقع أن يكون مواطنوها في أول الصف، حتى وإن كانت بيانات المسؤولين عن الصفقة تصور أن المشروع للأوروبيين، وأن الاتحاد الأوروبي له دور في إدارة البرنامج. 

وقد أكّد وزير الصحة الإيطالي روبرتو سبيرانزا مراراً، وبما في ذلك أثناء خطاب أمام البرلمان، أنه إذا سار كل شيء على نحو جيد فسيكون هناك 60 مليون لقاح جاهز قبل نهاية العام. ويقترب هذا الرقم من قدرة Catalent وفقاً للجدول الزمني الحالي.

وهذا الرقم يساوي تعداد سكان إيطاليا أيضاً. نعم، يُفترض أن تكون هذه الجرعات لأوروبا، لكن يمكن تفهم الإيطاليين الذين يستمعون إلى الأخبار، ويعتقدون أنّ الدفعة الأولى ستكون لهم بالكامل.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى