ثقافة وادب

حتى الناجون من المحرقة النازية اختلفوا في تعريف “معسكرات الاعتقال”.. ما الذي يميّز السجون النازية البشعة عن غيرها؟

عندما يذكر أمامنا مصطلح “معسكرات الاعتقال” – أو  concentration camps باللغة الإنجليزية -، نتذكر على الفور معسكرات ألمانيا النازية أو شبيهاتها حيث يعذب البشر بأكثر الأساليب وحشية. وبالرغم من وضع معايير محددة لتعريف معسكرات الاعتقال في خمسينيات القرن الماضي، فإن تلك المعايير في الواقع لم تكن دقيقة من وجهة نظر كثيرين.

أطلقت مثلاً النائبة الأمريكية أليكسندريا كورتيز على مراكز احتجاز المهاجرين في الولايات المتحدة اسم “معسكرات اعتقال” على الرغم من عدم استيفائها للمعايير آنفة الذكر، فهل كانت النائبة موفقة في تعبيرها؟ وكيف نحدد فيما إذا كان سجن ما يستحق فعلاً لقباً سيئ السمعة مثل “معسكر اعتقال”؟

في ظل إدارة ترامب لا يزال المحتجزون على الحدود الجنوبية الأمريكية يعانون من ظروف شديدة السوء دفعت نائبة الكونغرس الأمريكي أليكسندريا أوكاسيو كورتيز لإطلاق وصف “معسكرات الاعتقال” على المراكز التي يحتجز فيها المهاجرون غير الشرعيين إلى أمريكا.

وبالرغم من أن النائبة ذات الأصول البورتوريكية والبالغة من العمر 31 عاماً قد أثارت جدلاً شديداً في أوساط الأمريكيين عندما وصفت السجون الحدودية بـ”معسكرات الاعتقال” في عام 2019، إلا أن الكثيرين يعتقدون أنه وصف منصف.

فقد تجاوز عدد المحتجزين في تلك المراكز 140 ألف شخص من طالبي اللجوء الذين تدفقوا من جميع أنحاء أمريكا اللاتينية وتم اعتقالهم على الحدود مع المكسيك وهم يعيشون جميعاً ظروفاً مروعة وفقاً لما ورد في موقع Quartz.  

إذ تضم تلك المراكز أطفالاً ورجالاً ونساء يتعرضون لسوء المعاملة ويجبرون على النوم على الأرض ولا يحصلون على رعاية صحية أو طعام كافيين، كما يحتجز بعضهم في أقفاص – وخاصة الأطفال الذين يتم فصلهم عن آبائهم– ويحشر بعضهم الآخر في أماكن شديدة الازدحام.

ويقول المهاجرون الشباب إنهم يتعرضون للإيذاء الجنسي، وإن النساء الحوامل يجهضن ما في أرحامهن، وترتفع نسب الأمراض التي يؤدي بعضها إلى الوفاة في تلك السجون كما يقوم العديد من السجناء بقتل أنفسهم بسبب الضغوط النفسية التي يتعرضون لها.

وبناء على تلك المعلومات، لم تتردد النائبة الأمريكية بوصف أماكن الاحتجاز تلك بـ”معسكرات الاعتقال” مثيرة الجدل بين المؤرخين الذين خالف بعضهم هذا الوصف الذي يذكر بمعسكرات الاعتقال النازية التي جرت فيها أسوأ أنواع التعذيب الوحشي، واتفق معها آخرون لأنهم يعرفون “معسكرات الاعتقال” بكونها منشآت تحتجز المدنيين بأعداد ضخمة.

فما هو التعريف الدقيق لهذا المصطلح؟

في الواقع من الصعب تعريف “معسكرات الاعتقال” بمفهوم عام، فحتى  الناجون من معسكرات الاعتقال الأكثر شهرة على مستوى العالم من حيث سوء السمعة مثل المعسكرات النازية، واجهوا مشكلة في تحديد معنى هذا المصطلح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

لكن بدأت الأمور تتضح أكثر في عام 1949، عندما أسس ، الناجي من معسكر اعتقال “بوخنفالد” النازي، الفرنسي ديفيد روسيت، “اللجنة الدولية ضد نظام معسكرات الاعتقال”، وهي منظمة تشكلت من رجال ونساء سُجنوا في المعسكرات النازية بتهمة ارتكابهم أعمال مقاومة ضد النظام النازي في وقت الحرب، وفقاً لما ورد في موقع History Today الأمريكي.

وخلال خمسينيات القرن الماضي، أجرت هذه المجموعة، المكونة في أغلبها من ناجين أوروبيين غير يهود، تحقيقات رائدة حول ظروف الاحتجاز في الاتحاد السوفيتي، وإسبانيا، واليونان، والصين، وتونس، والجزائر لتحديد ما إذا كانت معسكرات الاعتقال لا تزال موجودة. 

وقبل إجراء هذه التحقيقات، احتاجت اللجنة إلى قائمة معايير معدة سلفاً للتحقق مما إذا كانت أنظمة الاحتجاز التي سيجري التحقيق فيها تستحق لقب “معسكر اعتقال”.

نظرياً، لا ينبغي أن تكون مهمة هذه المجموعة صعبةً، إذ كان لدى كل عضو فيها تجربة عملية مع معسكرات الاعتقال.

كما كتب كثيرون منهم ذكريات مؤثرة عن ظروف الاحتجاز في معسكرات اعتقال وحشية مختلفة مثل معسكرات “داخاو” و”بوخنفالد” و”رافينسبروك” وغيرها.

ورغم أن الذكريات قادرة على تحديد معنى “معسكرات الاعتقال” بشكل مجازي، فإن أعضاء المجموعة تبينوا أن صياغة تعريف عالمي يميز بوضوح معسكرات الاعتقال عن أي مؤسسة احتجاز أخرى مهمةٌ مختلفة كلياً.

دعم بعض المشاركين في اللجنة تعريفاً لمعسكرات الاعتقال يركز فقط على احتجاز المدنيين دون وجود حكم قضائي، بينما اعتقد آخرون – متذكرين محنتهم – بأن العمل القسري معيارٌ حاسم لتعريف معسكرات الاعتقال.  لكنّ آخرين رفضوا كلا المقترحين.

القس البلجيكي داميان ريومونت كان أحد الناجين من معسكر الاعتقال “استروجين” في ألمانيا، وأكد أن ظروفاً مشابهة لتلك الموجودة في معسكرات الاعتقال قد تنتشر في أي موقع احتجاز، حتى وإن أُلقي القبض على السجناء بطريقة قانونية وصدرت بحقهم أحكام قضائية.

وبالنسبة للعمل القسري، أشار القس إلى أنه لم يكن جميع سجناء معسكرات الاعتقال النازية مجبرون على العمل، بينما كان العديد من المحتجزين في السجون “العادية” يعملون قسراً.

في نهاية المطاف، شعر ريومونت أن هناك معياراً وحيداً ذا معنى، يمكن أن نحدد على أساسه ما إذا كان مكان الاحتجاز يستحق وصف معسكر اعتقال، وهو الظروف غير الآدمية الشديدة لهذا المكان.

وفي مقابل إصرار القس ريومونت على هذا التعريف، اعترضت  الباحثة في علم الإثنوغرافي والناجية من معسكر اعتقال “رافينسبروك” جيرمين تيليون، على هذا المعيار، “فطبيعة جميع أنظمة الاحتجاز تقضي بتعذيب، وإهانة آدمية ضحاياها” ولا يوجد حد فاصل موضوعي يمكن أن يميز بين الظروف غير الآدمية الأكثر أو الأقل سوءاً.

لذا، ترى جيرمين أنه يجب تنحية مسألة عدم آدمية أماكن الاحتجاز جانباً تماماً واختيار عوامل هيكلية أكثر وضوحاً مثل العمل القسري.

بعد انتهاء الجدل الدائر بين ريومونت وجيرمين، أدلى بعض أعضاء لجنة التحقيق بدلوهم في مسألة تعريف معسكرات الاعتقال.

وقال  ناجٍ من معسكر الاعتقال النازي “بوخنفالد” يدعى ليون مازيود، “نحمل ملامح هذا التعريف في لحمنا، ودمنا، وأرواحنا. نعرف جيداً كيف تكون رائحة رجل يتعفن – هناك ستجد معسكر الاعتقال. كيف يمكننا المرور بجانبه دون أن نشعر بالاشمئزاز؟ أنا متأكد أننا لن نخطئ في تحديد ماهية معسكر الاعتقال”.

اتفق معظم المشاركين في اللجنة مع هذا الرأي، لكن كان هناك حاجة إلى معيار رسمي.

وبعد مرور أكثر من عام من النقاش، اتفق الناجون على تعريفٍ يشمل ثلاثة عوامل هي:

ينبغي توافر هذه العوامل الثلاثة حتى نطلق على مكان احتجاز لقب معسكر اعتقال.

أدت جهود المجموعة إلى رفع سقف معايير تحديد ماهية معسكرات الاعتقال دون قصد منهم، فعلى سبيل المثال لا تنطبق بعض هذه المعايير بوضوح على المعسكرات البريطانية في جنوب إفريقيا والمعسكرات الإسبانية في كوبا. مع أن هذه المعسكرات قد اتسمت بالوحشية والقتل، إلا أنها لم تفرض العمل القسري على السجناء بشكلٍ ممنهج.

 ولم تفعل هذا أيضاً مراكز احتجاز المهاجرين في الولايات المتحدة حالياً.

في الواقع، عندما بدأت لجنة التحقيق عملها، تجاهل أعضاؤها المعايير، التي وضعوها بأنفسهم.

من الصين إلى الجزائر، كانوا يحكمون على العديد من نظم الاحتجاز على مستوى العالم مستخدمين حدسهم بناء على كيف يبدو شكل، ورائحة معسكرات الاعتقال وما هو الشعور الذي تولده لديهم.

ولم يعتمدوا على معاييرهم في تقييم وضع مراكز الاحتجاز، ما شكل فارقاً بالنسبة لهم كان شعور الغثيان، الذي كان ينتابهم عندما يشتمون “رائحة رجل يتعفن”.

لم تنطبق معايير اللجنة حتى على بعض المراكز التي اعتاد المؤرخون على وصفها بـ “معسكرات الاعتقال” مثل معسكر “درانسي” النازي على سبيل المثال.

كان “درانسي” عبارة عن معسكر مؤقت لسجن اليهود يقع خارج باريس، وقد نجا منه أحد المستشارين القانونيين الذين كانوا يعملون في لجنة التحقيق وكان يدعى ثيو برنارد.

لم تتوافر في “درانسي” المعايير التي تؤهله للحصول على لقب معسكر اعتقال، لأنه لم يفرض العمل القسري هناك على نطاق واسع. وكان هذا يعني أن برنارد لا يعد ناجياً من معسكر اعتقال، وقد تقبل المحامي الشاب ذلك معظم الوقت.

لكن كلما كان يكتب أو يتحدث عن الأطفال غير المصحوبين بذويهم الموجودين في المعسكرات، كان يعتقد أن معايير اللجنة في تعريف “معسكرات الاعتقال” ليست دقيقة.

فقد كان أولئك الأطفال يفترشون أرض معسكر “درانسي”، ويغطون أنفسهم بالبطاطين المتسخة، ويحاولون حماية أخواتهم الصغار، ولم يستطع برنارد منع نفسه من وصف هذا المكان بمعسكر اعتقال.

باختصار، وبالرغم من تحديد معايير معينة لوصف مركز احتجاز ما على أنه “معسكر اعتقال” فإنه علينا أن نعترف بأن لقب “معسكر اعتقال” حظي بقوة بلاغية وأخلاقية في العالم بعد عام 1945 لدرجة جعلته، في نهاية المطاف، يتجاوز حدود تعريفه.

ولا نستخدم هذا المصطلح فقط كأداة تحليلية موضوعية. لكننا نلجأ إليه في محاولة للتعبير عن اشمئزازنا  وفزعنا.

وبالتالي لا تلام النائبة الأمريكية عندما أطلقت لقب معسكر الاعتقال على مراكز احتجاز المهاجرين، ففي النهاية نحن نستخدم هذا المصطلح متبعين حدسنا عندما نتحدث عن مكان تنتهك فيه حقوق الإنسان وكرامته.

ملاحظة: لم يتعرّض هذا الموضوع لمعسكرات الاعتقال البشعة الموجودة في عددٍ من البلدان العربية، نظراً لاعتماده على آراء وعمل حقوقيين غربيين تركّزت جهودهم على معسكرات الاعتقال النازية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى