آخر الأخبارتحليلات

الذكري العاشرة لمذبحة رابعة من باريس 2023

فرح في ذاكرة الدم لن ننسى أبدا

تقرير إعداد رئيس التحرير

 

دكتور محمد السيد رمضان

نائب رئيس المنظمة

“ساقه مكسورة.. لا أستطيع تركه هنا،” قالت الطبيبة بالمستشفى الميداني في ميدان رابعة العدوية في ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣. “لا تقلقي.. سأكسر قلبه أيضا” أجابها ضابط القوات الخاصة قبل أن يطلق رصاصة في قلب المصاب. كانت تلك الوحشية جزء صغيرا مما حدث يوم فض الاعتصام، وهو ما وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية بـ”أسوأ عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث” و “جريمة محتملة ضد الإنسانية.”

بعد عدة اجتماعات لمجلس “الأمن القومي” في يوليو/تموز، وأغسطس/آب 2013، قررت مجموعة من قيادات العسكر والمخابرات والشرطة وبعض حلفائهم من السياسيين المدنيين المعينين من قِبَلهم بعد انقلاب ٣ يوليو/تموز ٢٠١٣ اقتحام الاعتصامات المناهضة للانقلاب في ميداني رابعة العدوية بالقاهرة والنهضة بالجيزة. نتجت عن فض الاعتصامات أكبر مجزرة في تاريخ مصر المعاصر.

العدد الكلي للقتلى غير محسوم حتى اليوم؛ ويرجع ذلك بالأساس للعقبات التي فرضها النظام الحاكم على جمع البيانات، وخاصة بيانات المجازر. فقد ادعت وزارة الصحة في مصر أن عدد القتلى كان 670 والجرحى 4400، بينما أكدت بيانات المستشفى الميداني في رابعة أن عدد القتلى فاق الألفين. أما منظمة “هيومن رايتس ووتش” فقد ذكرت أن عدد القتلى يتجاوز الألف معتصم، أي أن القوات النظامية كانت تقتل حوالي مائة مواطن مصري في الساعة الواحدة.

وقد استطاع المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية توثيق 932 جثة بالكامل، و294 جثة موثقة جزئيا، و 29 جثة مجهولة الهوية، وخمس جثث مفقودة. وتشمل هذه الأرقام 30 من الفتيات والفتيان في سن المراهقة، و17 امرأة.

تكتمل معالم ما نستطيع أن نطلق عليه دون تحفظ عصر الانحطاط للسياسة المصرية في عهد عبد الفتاح السيسي مع ما تشهده مصر السيسي من رعب وقتل ودمار.

ويأتي الأمر منسجما مع حالة التردي السياسي والاقتصادي والأمني التي آلت إليها أوضاع مصر”أم الدنيا”، كل ما فيها يفقد بريقه من الأدب والاجتماع والاقتصاد والأمن والسياسة إلى الفن والإعلام، لا طعم ولا لون حتى في ردود الأفعال التي لم تسجل ما يمكن أن نرصده كرد فعل على الانحدار المدوي لوضع مصر في مواجهة حكم فاسد وفاش يرسم معالم مستقبل بلد بخربشات معاقة على الصعيد الداخلي والخارجي.

وعندما نقول إن هذا يتماشى مع عصر التدهور والتخلف الذي تشهده سياسة دولة وانكفاؤها باتجاه التشبث بالقمع والإقصاء والقتل، فإن التحديات القادمة التي يواجهها السيسي على صعيد الداخل والخارج ستكون بالغة الحدة، يزداد معها تفاقم المشكلات باستحالة المواءمة بين حل الأزمات وافتعالها، من خلال التركيز على عوامل الكارثة المحدقة بمصر بعنوان واحد “الإرهاب” دون الانقلاب والإقصاء والثورة المضادة، عبر التلويح براية مشوهة وممزقة لإنقاذ مصر وخلط حابل المجتمع بنابل إرهاب الاستبداد.

سياسة المجازر

رابعة وأخواتها مثل مجازر الحرس الجمهوري في 8 يوليو/تموز 2013 (51 قتيلا)، والمنصة في 27 يوليو/تموز 2013 (95 قتيلا)، وميدان النهضة في 14 أغسطس/آب 2013 (87 قتيلا)، ستكون لها آثار كبيرة على حاضر مصر ومستقبلها.

فالمذابح بهذا المستوى من سفك الدماء عادة ما تكون لها عواقب اجتماعية وسياسية وقانونية محلية ودولية. فمثلا مأساة “الأحد الدامي” في إيرلندا الشمالية عام ١٩٧٢ (١٤ قتيلا من المتظاهرين على يد القوات الخاصة البريطانية) ولَّدَت ربع قرن من المواجهات العسكرية والسياسية بين الحكومات البريطانية والجيش الجمهوري الإيرلندي ومجموعات جمهورية مسلحة أخرى.

ورغم أن تقرير سافيل الشهير قد أنصف أهالي الضحايا، واعتذر على أثره -عام ٢٠١٠- رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عما ارتكبه المظليون البريطانيون، فإن التوابع الاجتماعية للمأساة لم تنته حتى اليوم.

كذلك الحال في “مذبحة فاطمة” أسوأ مجازر “الحرب القذرة” في الأرجنتين (١٩٧٦-١٩٨٣)؛ فقد أسفرت عن مقتل ثلاثين معارضا لحكم العسكر على يد الأجهزة الأمنية للمجلس العسكري الحاكم عام 1976. وقد نتج عنها اشتعال المواجهات المسلحة وغير المسلحة على حد سواء لأكثر من عقد من الزمان، وأدى ذلك كله وعوامل أخرى لما سُمي “بمحاكمات الطغمة العسكرية” ابتداء من عام 1985.

وقد حوكم قادة الانقلاب العسكري، ومن بينهم اثنان من الرؤساء العسكريين السابقين: الجنرال جورجي فيديلا (توفي في السجن في عام 2013)، والجنرال ليوبولد جالتييرى (توفي في 2003).

وإذا كانت صناديق الرصاص تثبت باستمرار أنها أكثر فاعلية ونجاعة من صناديق الاقتراع -كما شهدت بذلك رابعة- فإن ذلك يلقى بظلال قاتمة على مستقبل “العيش” و”الحرية” و”العدالة” و”الكرامة” في مصر.
تتعدد القرائن الدالة على أن الملف لم يغلق كما يتصور البعض، لكنه لا يزال مفتوحا والاهتمام به يتزايد. على الأقل فيما يخص حقائقه التي طمس بعضها وشوه البعض الآخر وقدمت لها الآلة الإعلامية صياغات جديدة اقتضتها الملاءمات السياسية.
وحين تخوض السلطة معركتها على الجبهة الواسعة للإسلام السياسي، مستهدفة إقصاءه أو الاستجابة لدعوات إبادة فصائله، فما هو البديل المرشح لملء الفراغ الذي ينشأ عن ذلك؟ وهل نستغرب في هذه الحالة إذا انحصرت البدائل في الاتجاهات السلفية كحد أدنى وفي الانحياز إلى داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) ونظائرها كحد أقصى؟ ثم، ألا يشكل ذلك مناخا مواتيا لانتشار الجماعات السرية التي يمكن أن تخرج علينا من حيث لا نحتسب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى