تقارير وملفات إضافية

سر تغيُّر الموقف الأوروبي تجاه أزمة البرنامج النووي الإيراني.. الأمر لا يقتصر على الضغط الأمريكي

يبدو أنه سيكون هناك تصعيد في الموقف الأوروبي تجاه إيران، على خلفية النزاع حول البرنامج النووي.

فبعد أسابيع من التوترات المتصاعدة بين الثلاثي الأوروبي: بريطانيا وفرنسا وألمانيا من جهة، وإيران من جهة أخرى، حول مصير الاتفاق النووي لعام 2015، المعروف بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة»، قرّر الأوروبيون أخيراً، يوم 14 يناير/كانون الثاني الماضي، تفعيل آلية فض النزاعات في الاتفاق.

إذا لم يتوصل الطرفان إلى حل مقبول لكليهما، فسوف يُحال الأمر إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حسبما ورد في تقرير لموقع مؤسسة Quincy Institute for Responsible Statecraft الفكرية الأمريكي.

وقد يُسفر ذلك عن استئناف عقوبات الأمم المتحدة ضد إيران.

وإذا وصل النزاع إلى هذا الحد فسوف تتجاوز تهديدات إيران التخلي عن الاتفاق النووي، وتصل إلى عدم الالتزام بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ما قد يؤدي إلى طرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذين يتحققون حالياً من التزام البرنامج النووي الإيراني بالاستخدامات السلمية. وهذا من شأنه دفع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإيران نحو المجهول، وتدمير كل التقدم المُحرز منذ 2015.

ومنذ بدأت إيران تقليص التزاماتها تجاه الاتفاق النووي، بعد 14 شهراً، إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وإعادة فرضها للعقوبات على إيران، بات الثلاثي الأوروبي تدريجياً في موقف أقرب إلى موقف الولايات المتحدة من الاتفاق. وتفسيراً لقرار اللجوء إلى «آلية فض النزاعات» أرجع قادة الدول الأوروبية الثلاث ذلك إلى وفائهم بالتزامات الاتفاق النووي، وأنه لم يتبق لديهم خيار آخر بسبب الموقف الإيراني المتشدد، حسب تعبيرهم.

وهذه الحجة، على أقل تقدير، مضللة. رسمياً، رفع الاتحاد الأوروبي عقوباته المتعلقة بالملف النووي ضد إيران، ولكن من خلال عدم الوقوف بفاعلية ضد العقوبات الأمريكية على إيران، يكون الاتحاد الأوروبي قد أسهم في تعزيز تلك العقوبات.

على سبيل المثال، لم تدخل آلية «أينستكس»، آلية دعم التبادل التجاري التي أسسها الثلاثي الأوروبي لتسهيل وحماية التبادل التجاري مع إيران، حيز التنفيذ الكامل بعد عام تقريباً من إطلاقها. ومع ذلك، أعلنت إيران استعدادها التراجع عن كل الخطوات التي اتخذتها ضد التزامات الاتفاق النووي، بمجرد بدء الأطراف الأخرى الوفاء بالتزاماتها، والإبقاء على تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية دون تغيير.

يبدو أن ثمة تصعيد في الموقف الأوروبي تجاه إيران عبر قرار الثلاثي الأوربي باللجوء إلى آلية فض النزاعات مجرد محاولة لإلقاء اللوم على إيران في فشل الاتفاق، بدلاً من اتخاذ الخطوات والإجراءات اللازمة لإنقاذ الاتفاق النووي. هناك تكهنات بأن قرار اللجوء الأوروبي إلى آلية فض النزاعات كان مدفوعاً بتهديد أمريكي بفرض تعريفة جمركية 25% على السيارات الأوروبية، إذا لم يخضع الاتحاد الأوروبي لمطالب ترامب ويتخلى عن الاتفاق النووي. ولكن هناك نقطة مهمة، لقد كان الثلاثي الأوروبي يتجه بالفعل إلى ذلك القرار قبل تلك التهديدات.

يريد الثلاثي الأوروبي حقاً حماية الاتفاق النووي، ولكن سياسات القوة والنفوذ تملي عليهم خياراتهم في هذا الشأن، ومن هناك بدأ تصعيد في الموقف الأوروبي تجاه إيران بدلاً من إلقاء اللائمة على الطرف الذي تخلى عن الاتفاق.

الولايات المتحدة أهم وأقوى من أن يتحداها الثلاثي الأوروبي، هذا حتى إذا كان دبلوماسيو الثلاثي الأوروبي يعلمون جيداً أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق وتصعيد الضغط الأمريكي ضد إيران هو ما دفع الاتفاق إلى حافة الفشل والانهيار.

في المقابل، إيران هي الطرف الأضعف، بلا أصدقاء أو حلفاء حقيقيين واحتجاجات داخلية خانقة، لذا يسهل تحميلها اللوم ووصفها بصانعة المشاكل بسبب برنامج الصواريخ الباليستية وكثرة خصومها الإقليميين.

وتجدد الاحتجاجات الداخلية إثر تسبب السلطات في إسقاط طائرة الركاب الإيرانية بالخطأ، ما أسفر عن مقتل 176 شخصاً، يخلّف انطباعاً بعودة النظام إلى الموقف الدفاعي، كما كان خلال موجة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها إيران، نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ومع كثرة الجبهات المفتوحة، يبدو أن الحسابات سوف تُجبر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي على تجرّع «كأس السم»، مثلما فعل سلفه روح الله الخميني لإنهاء الحرب مع العراق، والقبول بالامتثال الكامل للاتفاق النووي حتى من دون أي فوائد اقتصادية.

لكن هذه الحسابات أثبتت خطأها أكثر من مرة. ربما يطعن العديد من الإيرانيين في شرعية الحكومة، بسبب حنقهم وغضبهم من الفساد، وسوء الإدارة والاستبداد.

ولكن الجمهورية الإسلامية أظهرت مرونة كبيرة على مدار 40 عاماً من وجودها. منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، توقّع الكثيرون زوالها الوشيك، ولكن النظام لا يزال بعيداً عن الانهيار. ألقى خامنئي خطبة قوية متوعدة في صلاة الجمعة، يوم 18 يناير/كانون الثاني 2020، لم يقدم فيها أي تلميح عن الاستجابة لمطالب المحتجين، ولا عن أي نية للدخول في حوار وطني حول التحديات العديدة التي تواجهها الجمهورية الإسلامية.

وبدلاً من ذلك، أشاد بقوات الحرس الثوري الإيراني، وقلل من شأن مسؤوليته عن إسقاط الطائرة الأوكرانية. وهذا يدل على أن خامنئي، في مواجهة الأزمات، يختار استراتيجية تعبئة مؤيديه المتشددين، بدلاً من السعي لدعم النظام بين جميع طوائف الشعب الإيراني، وهي الاستراتيجية التي اختبرتها الجمهورية الإسلامية مرّات عديدة.

وامتد خطابه إلى السياسة الخارجية كذلك، إذ خصّص خامنئي قسماً من أقسى تصريحاته ضد بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ووصفهم بأتباع أمريكا. ولكن الغريب أنه لم يستبعد إجراء حوار مع الثلاثي الأوروبي، على عكس أمريكا. ولكن لم تحمل تصريحاته أي تلميح عن تنازلات، ما يدل على تشدد الموقف الإيراني.

وهذا يعني أن الثلاثي الأوروبي يناور بنفسه في موقف لا يحسد عليه للغاية، باللجوء إلى آلية فض النزاعات، إذ لا يمكنه تقديم فوائد اقتصادية لإيران من دون تحدي رغبة الولايات المتحدة، ما يجعل أي جهود أوروبية لحث إيران على الالتزام بالاتفاق بلا معنى. إن لم يتحلّ الثلاثي الأوروبي بالشجاعة التي تنقصه فسوف يجد نفسه في مسار الانضمام إلى موقف السياسة الأمريكية في الضغط على إيران، ويصبح الثلاثي الأوروبي عندئذ هدفاً للانتقام الإيراني.

يعتقد العديدون أن افتقار الثلاثي الأوروبي للإرادة السياسية للوقوف أمام الولايات المتحدة هو التفسير الرئيسي لهذا الموقف المؤسف للاتحاد الأوروبي. إلا أن هناك سبباً آخر على الصعيد الداخلي للاتحاد الأوروبي، هو تحوّل كفة موازين القوى داخل الاتحاد الأوروبي من المؤسسات المجتمعية، مثل المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، لصالح الحكومات الوطنية.

كان جوزيب بوريل، الممثل السامي للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي أكثر تصالحاً من الثلاثي الأوروبي، ولم يكن متحمساً بشأن اللجوء إلى آلية فض النزاعات.

خلال النقاش الذي دار في البرلمان الأوروبي، يوم 14 يناير/كانون الثاني 2020، تحدّى بوريل معارضي خطة الاتفاق النووي بأن يقدموا بديلاً أفضل وأكثر تفصيلاً. وأبدى البرلمان الأوروبي نفسه دعماً قوياً للاتفاق، ورفض العقوبات الأمريكية، ودعا الهيئات الأوروبية والدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي لتبني إجراءات فعالة ضد العقوبات الأمريكية لحماية مصالح الاتحاد الأوروبي.

مع ذلك، تحتكر بريطانيا وفرنسا وألمانيا نهج سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه إيران. وتخضع تلك العلاقة إلى ضرورات الموازنة مع علاقات الثلاثي الأوروبي الأكثر تطوّراً ورسوخاً مع الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات، المعادين جميعهم لإيران.

وأبرز دليل ومثال على ذلك هو اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه السنوي للجيش، أن السبب الرئيسي لمبادرة هرمز البحرية الأوروبية بقيادة فرنسا هو طمأنة السعودية، التي تعد أيضاً واحدة من أبرز عملاء صناعة الأسلحة الفرنسية.

إذا كان أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرون لا يرغبون في دفع ثمن قصر نظر الثلاثي الأوروبي، سوف يتعين عليهم، مع المفوضية والممثل السامي بوريل، ممارسة تأثير أكثر اعتدالاً قبل أن تنجرف العلاقات الأوروبية مع إيران إلى مصير مجهول من الاضطرابات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى