الأرشيفكتاب وادباء

المتسلقون على فروع الأشجار وجدران الأسوار…!

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى

*  أمتنا الإسلامية بصفة عامة ووطننا العربى  بصفة خاصة قد ابتلوا بهؤلاء المتسلقين فوق الأشجار والأسوار وخاصة إذا كان هذا التسلق نوع من المداهنة وطأطاة  الرؤوس حتى ينالوا بغيتهم وهدفهم . أو إن شئت فسميهم ” اللبلابيون “نسبة إلى نبات ” اللبلاب ” المتسلق فوق الجدران والأسوار والأشجار لكي ينمو ويتكاثر ويزدهر ويتصدر واجهات المباني والعمارات . نبات ” اللبلاب ” لايمكن أن يرتفع إلا على عريش من الخشب أو تثبيته على الجدران بخيوط رفيعة حتى يعلو ويكبر . كذلك بعض المتسلقين من البشر لايمكن لهم أن يرتفعوا أو يكبروا إلا على أكتاف الآخرين وجهدهم . هذا النوع من البشر لا ينمو إلا  وقوفا على قامات الآخرين لتحقيق غاياتهم وأهدافهم . هؤلاء المتسلقون ضعاف الشخصية والبنية الأساسية غير أنهم يجيدون الزحف نحو القمة بمساعدة قوم آخرين . كذلك نبات اللبلاب المتسلق لا يمكن أن يرتفع للسماء ليستنشق نسمات الهواء إلا بالتوائه على فروع الأشجار وجدران الأسوار . كذلك المتسلقون لا يرتفعون إلا بسياسة الإلتواء والإلتفاف والدوران حتى يحققوا بغيتهم فى الوصول زحفا إلى الأعتاب لكى يقبلوها . هؤلاء أخطر على المجتمع من أعداء الخارج لأنهم كالحرباء متلونون ومتحركون مثل كثبان الرمال تتحرك مع اتجاه الريح وليست ثابتة كالجبال . إنهم اللبلابيون حين يتسلقون .
 
* لقد ابتليت أمتنا بصفة عامة ومجتمعنا بصفة خاصة بمثل هؤلاء المتسلقين المنافقين الذين لايهمهم غير مصالحهم الشخصية , لايشغلهم على أي أكتاف يرتفعون , وعلى أي أسوار يتسلقون , وأى أجندة يتبنون . الفرد اللبلابى المتسلق والوصولي يفعل أي شيء ليصل إلى ما يريد ،  ولو على حساب دينه ووطنه ومبادئه إن كان له مبدأ أو موقف . دائما هذا النوع من البشر لا يدع فرصة إلا ويستغلها لصالحه . ينافق ويراوغ  ويكذب ويتجمل ويغير لغة لسانه وملامح وجهه فى الصباح والمساء حسب مقتضى الحال . هم ثوريون إن كانت هناك ثورة , وهم إسلاميون متدينون إن حكم الإسلاميون , وهم ليبراليون متحررون إن حكم الليبراليون . مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء لا فرق عندهم بين من أحسن ومن أساء . إنهم بلاء على المجتمع والوطن بل وعلى أنفسهم أيضا . تشاهدهم على الشاشات وهم ينافقون , وفى الصحف وهم يكتبون , وأمام الميكرفونات وهم يتحدثون . لقد ضاق المجتمع ذرعا وهم لا يشعرون بحجم عمق النفق المظلم الذى دخلوا فيه والناس ترونهم بينما  هم يعتقدون أن أحدا لا يراهم وكأنهم خفافيش الظلام .

* هؤلاء المتسلقون من البشر يشبهون القرود التى تحاول أن تقفز من غصن شجرة إلى أخرى . تأكل من كل شجرة حتى إذا جردت الشجرة من أوراقها وثمرها وجعلتها جرداء جدباء كالوتد بالت عليها , ثم انتقلت إلى شجرة أخرى تفعل بها كما فعلت بالأولى . هؤلاء المتسلقون مثل القرود تماما إن تشاجروا أهلكوا الزرع , وإن تصالحوا أكلوا المحصول . هم ينتقلون من نظام إلى نظام , ومن حزب إلى حزب , ومن جماعة إلى جماعة , ومن هيئة إلى هيئة , ولديهم قدرات فائقة على المداهنة والمراوغة وتضليل الرأي العام ولى عنق الحقيقة حتى يطوعوها حسب رغبتهم . إن تحدثت عن الأخلاق فهم الذين للناس علموها  ,وإن تحدثت عن السياسة فهم الذين رسموها, وإن تحدثت عن الوطنية فهم الذين أوجدوها , وإن تحدثت عن الثورات فهم الذين أشعلوها , وإن تحدث عن الدولة فهم الذين حفظوها وبنوها . المتسلقون كالشعراء تراهم فى كل واد يهيمون , ويقولون مالا يفعلون وما لا يفهمون , إنهم كذابون كابرا عن كابر وأبا عن جد . هم  لا يستطيعون العيش في الحياة إلا متسلقين على أكتاف الآخرين , يحصدون ما يزرعه الآخرون ، ويجنون ثمار ما تعب فيه الناس وبذلوا في سبيله كل غال ورخيص . إنهم كالنباتات المتسلقة لا تستطيع أن تشق طريقها إلى السماء إلا اعتمادا على غيرها  . فتلك النباتات المتسلقة ترتفع مع الأشجار العالية والنخيل الباسقة والأسوار الشاهقة ، إنهم رجال كل نظام وحواري أي حكومة والناطق الرسمي لأى سلطان فى أى زمان ومكان .



* لا ينسى التاريخ ذلك المتسلق المشهور الذي كان يدعى ” أبو دلامة الأسدى” العبد المولد الحبشي ويروى انه كان مولا لبنى أسد . وقد شهد الرجل ردحا من عصر الدولة الأموية التي لم يكن له فيها نباهة ذكر , حيث لم يكن للموالي مكانة عند الأمويين، فلما جاءت الدولة العباسية انضمّ إليها وصار من “رجال المنصور”، ويبدو أن صيته بدأ في الانتشار بالتزامن مع صعود أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني الذي اتخذه من ضمن حاشيته فعلا شأن ” ابو دلامة ” لفصاحته وبلاغته وتسلقه . وأصبح الرجل بين عشية وضحاها ممن يشار إليهم بالبنان حتى سمى  “بهلوان”  الخليفة .
قال له الخليفة ذات يوم سلني حاجتك  . فقال له أبو دلامة “أريد كلب صيد” فقال الخليفة أعطوه إياه، فقال أبو دلامة وأريد دابة أتصيد عليها، فقال الخليفة أعطوه إياها، فقال أبو دلامة وغلاماً يقود الكلب ويصيد به، فقال الخليفة أعطوه غلاماً، قال وجارية تصلح الصيد وتطعمنا منه، فأمر الخليفة له بجارية. فقال أبو دلامة هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك، فلا بد لهم من دار يسكنونها . فقال الخليفة أعطوه دارا تجمعهم، فقال أبو دلامة وإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون، فقال الخليفة قد أقطعتك عشر ضياع عامرة .وهكذا استغل أبو دلامة الموقف لصالحه أفضل استغلال حتى سمى بقناص الفرص . وهكذا استطاع أبو دلامة أن ينتزع من الخليفة مايريد بحلو لسانه وتزلفه له , وهكذا المتسلقون .

* ولم يكن  ” أبو دلامة  ” ذلك الفصيح البليغ المتسلق يجد حرجا فى ذم نفسه إن اضطر لذلك للهروب من بعض المواقف .
فقد دخل مرة على الخليفة المهدي وعنده أكابر رجال الدولة والأسرة العباسية ، مثل إسماعيل بن على وعيسى بن موسى وغيرهم من بني هاشم، فقال له المهدي ” أنا أعطي الله عهدا لئن لم تهج واحدا ممن في البيت لأقطعن لسانك، فنظر إليه القوم , ففهم ” ابو دلامة أنه وقع فى مأزق ولابد من تنفيذ أمر الخليفة .قال أبو دلامة فعلمت أنى قد وقعت فى مازق ، فلم أر أحدا  أحق بالهجاء مني، ولا أدعى إلى السلامة والهروب من هذا الموقف من هجائى نفسي، فقلت : ألا أبلِغْ لديك أبا دُلامه …. فلستَ من الكِرامِ ولا كرامه . جمعتَ دمامةً وجمعتَ لؤمًا … كذاك اللؤمُ تتبعه الدمامة . فإن تكُ قد أصبتَ نعيم دنيا  … فلا تفرح فقد دَنَتِ القيامة ! . فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه  .وهكذا لم يستطع ” أبو دلامة أن يهجو كبار القوم حتى وإن أمره الخليفة وخرج منها مثل الشعرة من  العجينة كما يقولون وهجا نفسه وأضحك القوم وانتزع رضاهم عنه . وهكذا المتسلقون يعلمون من أين تأكل الكتف وكيف يحافظون على مصالحهم الحيوية  حتى ولو بسب أنفسهم طالما ذلك يرضى أسيادهم وأولياء نعمتهم .

* إن وجه الشبه بين نبات اللبلاب والمتسلقين من البشر تبدو جليا فى أنهم لا  يستطيعون الظهور والارتفاع إلا بمساندة الآخرين . فنبات اللبلاب يحتاج إلى من يسنده ويدعمه ويرعاه حتى يكبر ثم يتطاول على الجدران والأسوار التى حملته ضعيفا هزيلا حتى كبر وارتفع . كذلك المتسلقون لا يخجلون أنهم كانوا قى يوم ما نكرة أقزاما لا يعرفهم أحد ولا يشار إليهم بالبنان . لا يرحمون عزيز قوم ذل , ولا يعترفون بعلاقات قديمة ولا بصداقات حميمة . لكن هؤلاء الأقزام الذين تسلقوا على أكتاف الآخرين ورضعوا من ثدى النفاق ونبتت لحوم أجسادهم من الحرام , سرعان ما ينكشفون ويتعرون وتسقط عنهم ورقة التوت التى سترت عورتهم ردحا من الزمن . ساعتها يسقطون ولاسيما عندما يذبل الزرع ويجف الضرع ويطردهم أسيادهم من بلاط الخدمة ليبحثوا لهم عن أسوار قوم آخرين يتسلقوها . ألم أقل لكم إنهم كالقردة ينتقلون من غضن على غضن , ومن فرع على فرع , ومن شجرة على شجرة . إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا أجمل من صاحب اللسان الواحد والوجه الواحد والموقف  والقول الثابت , بهم يتقدم الوطن ويرتقى ويتبوأ مكانته الطبيعية بين الأمم . اللهم بلغت… اللهم فاشهد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى