لايف ستايل

«وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصِرون».. حينما وجدتُ تفسيراً مختلفاً لهذه الآية يليق بالزمن الذي نعيش فيه

«وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصِرون»

عندما قرأت تفسير هذه الآية في الطبري رأيت التفسير التالي:

«وقوله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) اختلف أهل
التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وفي سبيل الخلاء والبول في أنفسكم
عبرة لكم، ودليل لكم على ربكم، أفلا تبصرون إلى ذلك منكم».

طبعاً لم يرُق لي هذا التأويل
أبداً من شيخ المفسرين، وقلت آن الأوان لتفسير يليق بالزمن الذي نعيش فيه.

أنا بدوري سأحاول أن أعطيك تفسيراً يروق لك أكثر، ولكن من أجل هذا
يجب أن نعود أولاً إلى عام 1925، وبالتحديد إلى سينت بيترسبرغ في الاتحاد
السوفييتي؛ حيث كان يقيم عالم صواريخ روسي اسمه أليكساندر فريدمان.

كان فريدمان عالماً روسياً يعمل في مجال المقذوفات في الجيش
الروسي، لم يكن على علم بنظرية النسبية التي نشرها أينشتاين في 1915 حتى عام 1920،
ولكن ما إن عرف عنها حتى انكب عليها وعلى معادلاتها، وفي خلال سنة فقط نشر بحثه
الأول الذي يُظهر أن الكون الذي نعيش به هو كون متمدد بدأ صغيراً جداً.

كل ما كان معروفاً عن الكون في ذلك الوقت لم يكن يتعدى حدود مجرة
درب التبانة؛ حيث لم يكن علم الفلك قد أدرك بعد وجود مجرات أخرى، ولذلك ففكرة أن
الكون يتمدد كانت فكرة صعبة القبول، ولذلك لم يعُر العلماء لاستنتاج فريدمان
أهمية، وعلى إثر لذلك بقي بحث فريدمان طيَّ المجهول ولم يحظَ بأي اهتمام، بل إن
أينشتاين وصف استنتاج فريدمان بأنه خاطئ.

للأسف، ليس فقط أن بحثه لم يلقَ اهتماماً، بل إن القدر كان
لفريدمان بالمرصاد؛ حيث قضى بعد ثلاث سنوات من هذا البحث عن 37 عاماً. بقي بحث
فريدمان مجهولاً لثماني سنوات إلى أن جاء الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هابل الذي
استطاع بعد دراسة طويلة للأجرام السماوية أن يثبت أن الكون متسع جداً، وأنه أيضاً
يتمدد، مؤكداً صحة استنتاج فريدمان قبل ثماني سنوات. بعد هذا الاكتشاف أصبحت فكرة
أن «الكون بدأ صغيراً جداً ثم تمدد» رائجة جداً، بل إن الحسابات التي قام بها
هابل، بعد أخطاء عديدة، أشارت إلى أن الكون بدأ قبل 14 بليون سنة، وهو الفهم الذي
ما زال سائداً إلى يومنا هذا.

لا يسع المرء إلا أن يتساءل: كم خسر العلم بموت فريدمان المبكر؟
هذا العالم الذي في خلال سنة فقط كان قد اكتشف عن طريق الرياضيات فقط حقيقة عظيمة
عن الكون لا تزال تؤرق العلماء حتى يومنا هذا.

لحسن الحظ فريدمان ترك وراءه تلميذاً لا يقل براعة عنه وهو جورج
غامو. غامو كان أيضاً عالماً روسياً هاجر إلى أمريكا في 1934 هروباً من التضييق في
بلاده.

في أمريكا أخذ غامو فكرة فريدمان وعدل عليها، وقال إن الكون ليس
فقط بدأ صغيراً جداً ولكن أيضاً بدأ ساخناً جداً. بدون الدخول في التفاصيل، غامو
استطاع، بالرياضيات والمعادلات التفاضلية فقط، أن يعلم ماذا حدث في الكون بعد
دقائق (تقريباً 3 دقائق) من وجوده. يعني إذا كنت تعتقد أن الكون بدأ بكلمة «كن»،
فإن غامو كان يعلم كيف وماذا كان في الكون بعد كلمة «كن» بثلاث دقائق.

ما توصل إليه غامو هو أن هذا الكون الذي بدأ صغيراً وساخناً وصل
بعد دقائق معدودة إلى ظروف مناسبة تتيح الفرصة للعناصر والذرات لأن تتكون بعد أن
كان الكون عبارة عن طاقة محضة وجزيئات أولية.

عكف غامو وتلميذه ألفر «Alpher» على
حساب كمية الذرات التي تكونت في دقائق الكون الأولى ووصلا إلى أنه تقريباً 75% من
المادة في الكون كانت من الهيدروجين و24% هي من الهيليوم.

كان هذا الاستنتاج محبطاً لغامو؛ لأن حساباته لم تستطِع أن تفسر
وجود بقية العناصر. باختصار ظروف الكون الأولى لم تكن كافية لتكون عناصر أكثر
ثقلاً مثل الكربون والأكسجين والحديد، وبالتالي كانت هذه النتيجة دليلاً على قصور
هذه النظرية. المفاجأة العجيبة كانت عندما قام العلماء لاحقاً بقياس كمية الذرات
في الكون ليجدوا أن الهيدروجين والهيليوم يمثلان فعلاً 75% و24% من مادة الكون بتطابق
باهر مع حسابات غامو وألفر.

في هذه اللحظة لا يسع المرء إلا ينحني إجلالاً للعلم ولعباد الله
العلماء مثل غامو الذي استطاع بالرياضيات فقط أن يعرف مكونات الكون بعد دقائق
قليلة من خلقه.

يبقى اللغز هو كيف تكونت العناصر الأخرى إذا لم تتكون في بداية
الكون؟ وهذا جوابه جاء بعد سنوات قليلة عندما أدرك العلماء أن العناصر الثقيلة
تكونت في داخل النجوم؛ حيث تعمل النجوم كمصانع للذرات عندما تموت وتنكدر. وكلما
كان موت النجم أعظم صنع ذرات أثقل في فترات حياته الأخيرة.

الكربون، عنصر الحياة، مثلاً يتكون في نجوم مثل الـ«Red Giants» أو الحمر العملاقة، عناصر أثقل مثل الأكسجين والكلور تتكون في
داخل ما يسمى بالنجوم النيوترونية، أما العناصر الأثقل مثل الحديد أو الموليبدنوم
فتتكون في داخل النجوم المتفجرة المعروفة بالسوبر نوفا (Super Nova).

الآن نعود إلى «وفي أنفسكم»، ألا تعتقد أنه أمر عظيم جداً أن تنظر
إلى نفسك وبدنك وتدرك أن ذرات جسمك الذي يتكون أغلبه من الكربون والأكسجين وعناصر
ثقيلة أخرى جاءت من نجوم لا أحد يعلم عددها. ألا يقشعر بدنك حين تعلم أن الكالسيوم
في عظامك قد تكون في داخل نجم والحديد في دمك تكون في نجم آخر. أليس رهيباً أن تدرك
أن بعض العناصر الثقيلة في جسمك مثل الكوبالت والموليبدونم تكونت في داخل سوبرنوفا
ربما في الماضي السحيق وبقيت تسبح في هذا الملكوت من نجم إلى آخر ومن خلق إلى آخر
حتى استقرت في بدنك؟

عندما تتأمل نفسك في المرة القادمة عليك أن تدرك أنك لست فقط جزءاً
من الكون بل إن الكون هو جزء منك أيضاً.

الآن ألا تتفق معي على أن هذا التفسير للآية الكريمة هو تفسير أفضل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى