تقارير وملفات إضافية

هل عوقب كارلوس غصن بسبب ما كان ينوي فعله بنيسان.. مصير الرجل الذي خلفه يعزز نظرية المؤامرة اليابانية

أحدث خبر فرار كارلوس غصن، رئيس شركة نيسان السابق، ووصوله إلى موطنه أجداده لبنان هرباً من الإقامة الجبرية في طوكيو هزةً قوية في مجتمع الأعمال الدولي وبين الشعب الياباني. 

فهروب غصن الكبير ترك السلطات اليابانية في مأزق مُربِك. إذ اضطروا إلى الاعتراف بأنَّ اسمه ليس مُدرجاً ضِمن سجلات الخروج من بلدهم المهووس بالقواعد ومراقبة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية. 

هناك نظريات مختلفة متداولة عبر الإنترنت لقصة هروبه، ولكن كيف تمكن أجنبي عمره 65 عاماً في بلدٍ متجانس للغاية من التغلب على أحدث وسائل المراقبة البشرية والمرئية المستمرة طوال اليوم، والقيود الشديدة على تحركاته، وحراسات الحدود والجمارك اليابانية؟

فهل أخفي نفسه في صندوق كبير للآلات الموسيقية، كما تشير بعض التقارير؟ أم هرَّبته فِرق تهريب كوَّنتها زوجته أو أشقاؤه أو عملاء أتراك في طائراتٍ خاصة، كما تشير بعض وسائل الإعلام في طوكيو وبيروت وباريس.

لا شك أن هوليوود تسعى جاهدة للحصول على حقوق تصوير مغامرة غصن في فيلمٍ سينمائي، وربما يؤدي توم هانكس دور البطولة في، حسب تعبير كاتب التقرير.

ربما سيكون من الصعب إيجاد كلمات توفِّي قصة صعود غصن وهبوطه التي لا تُصدَّق حقها. 

فعند وصوله إلى طوكيو في عام 1999، أحدَث تحوُّلاً مُذهلاً في شركة نيسان التي كانت تحتضر آنذاك، ثم شكَّل تحالفاً مع شركة رينو الفرنسية أحدث طفرةً في صناعة السيارات

لقد حظي باحتفاء وترحيب في نيسان، لكنَّه لاقى كذلك استياء عميقاً من الشركة التي لم تشهد قط صعود شخصٍ أجنبي إلى هذا الحد. 

ثم جاء السقوط. ففي 19 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، قُبض عليه فجأة في مطار هانيدا بطوكيو بسبب مخالفاتٍ مالية مزعومة.

لكنَّ النقطة المهمة في قصة غصن ربما تكون الطريقة التي كشف بها الفجوات الهائلة في جهود رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي المستمرة منذ سبع سنوات لاستعادة مكانة اليابان في الأوساط الاقتصادية العالمية.

ففي بيان غصن الذي أصدره يوم الثلاثاء 31 ديسمبر/كانون الأول من بيروت، أثبت أنه ماهر إلى حدٍّ ما في إثارة السخرية عبر الإنترنت.

فادعاءاته بالفرار من «الظلم والاضطهاد السياسي» أشبه بالانتقادات التي عادةً ما توجَّه إلى كوريا الشمالية، وليس دولة من مجموعة الدول السبع، لكنَّها توضِّح مدى انحراف اثنتين من أهم أولويات آبي الثلاث منذ عام 2012 عن مسارها. 

إذ تولى آبي السلطة واعداً بتحديثاتٍ اقتصادية شاملة، واتخاذ خطوات لجعل اليابان أكثر ترحيباً بالمواهب الأجنبية، وإجراء مراجعات لدستور البلاد المُسالِم بعد الحرب.

وصحيحٌ أنَّ قصة غصن لا تُخبرنا بشيءٍ عن هذه الأولوية الأخيرة، لكنَّها تسخر من الأولويتين الأوليين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ تعزيز إدارة الشركات وُصِف بأنَّه انتصارٌ كبير لحملة الإصلاح الهيكلي التي يقودها آبي.

ففي السنوات الأخيرة، طبَّقت حكومته قانوناً يُنظِّم قواعد الإدارة بطريقة تُشبه قوانين المملكة المتحدة من أجل تحسين معايير الإدارة، واتخذت خطوات لمنح المساهمين رأياً أكبر في اتخاذ القرارات، وشجعت إتاحة الفرصة لمزيدٍ من المديرين الخارجيين.

حتى أنَّها حثَّت النظام الاقتصادي المركزي الياباني على الكشف عن العلاقات بين الحصص التي تحملها الشركات من أسهم بعضها البعض، وهي ممارسة تستخدم منذ فترةٍ طويلة لتجنُّب محاولات الاستحواذ الأجنبية.

غير أنَّ فضائح المحاسبة في شركتي Olympus وToshiba -إلى جانب التلاعب في بيانات السلامة في شركة Kobe Steel، وشركة Mitsubishi Materials، وشركة Takata لصناعة الوسائد الهوائية، وحتى شركة KYB لصناعة ممتصات الصدمات الزلزالية الخاصة بالمباني- تبين أنَّ النظام الاقتصادي المركزي الياباني ما زال لم يُطبِّق أيَّاً من هذه المعايير. والشيء نفسه ينطبق على سقوط غصن في نيسان.

وليس المقصد هنا هو الدفاع عن غصن ضد الاتهامات المتعددة الموجهة إليه بارتكاب مخالفاتٍ مالية. 

فمن الواضح أن الرجل يهتم أكثر من اللازم بما تنشره عنه الصحافة -وبطولته المصوَّرة في سلسلة رسوم True Life of Carlos Ghosn الكارتونية اليابانية- وتخيَّل نفسه ملكاً في قطاع الأعمال.

وكما تحتاج تربية الأطفال إلى تنشئتهم وسط قريةٍ كاملة ليتفاعلوا معها، احتاج ظهور تطاول غُصن على اللوائح إلى نظام مختل غير كفؤ. 

من جانبهم، يظن المُطلعون على بواطن الأمور داخل الشركات منذ فترةٍ طويلة أن جريمة غصن الحقيقية هي تفكيره في الاندماج رسمياً مع شركة رينو. ربما يكون ذلك صحيحاً، حسب تقرير الصحيفة الأمريكية.

لكنَّ الغريب أنه عندما أقيل هيروتو سايكاوا، وهو الرجل الذي ساعد في الترتيب لإطاحة غصن، بسبب جدلٍ حول راتبه الحقيقي، لم يُزَج به في السجن.

ومع أنَّ الكثيرين سيقولون أن قطاع التصدير الياباني كان الخاسر الأكبر في العام الماضي 2019، يُمكن القول إنَّ النظام القانوني في اليابان كان أكبر الضحايا.

فمن الصعب دحض ادعاءات غصن بأنه واجه نظاماً قضائياً «غير نزيه». 

فمعدل إدانة المتهمين في اليابان يصل إلى 99%. فيما يتساءل رجال الأعمال في جميع أنحاء العالم عن كيفية تمكُّن دولةٍ متطورة للغاية من احتجاز رجل أعمال شهير عدة أشهر مع الحد من حريته في التواصل مع محاميه وأفراد أسرته.  

ومن الصعب كذلك رفض الادعاءات بوجود سياسة كيلٍ بمكيالين: أحدهما للمديرين التنفيذيين اليابانيين والآخر لغير اليابانيين. 

وهذه الادِّعاءات تكشف زيف هدف آبي المعلن المتمثل في تحويل اليابان إلى مركزٍ مالي رئيسي أكثر ترحيباً بالمديرين التنفيذيين متعددي الجنسيات. أو قادة الشركات العَرَب الذين ربما كانوا يفكرون في عروضٍ للانضمام إلى مجالس الإدارة اليابانية.  

بالنظر إلى الاضطرابات الأخيرة في هونغ كونغ، قد يتوقع المرء أن تلتفت البنوك والشركات التجارية والشركات الاستشارية التي تقع مقراتها هناك إلى طوكيو أو أوساكا أو فوكوكا.

لكنَّ اليابان لا تحظى بالاهتمام الذي كان آبي يأمله. وكذلك لم نشهد العديد من عروض الاستثمارات الهائلة في النظام الاقتصادي الياباني من خارج البلاد.

ومن ثَمَّ، يُمكن إلقاء اللوم على البيروقراطية السيئة السمعة وقوانين العمل المتزمتة والضرائب المرتفعة في طوكيو، أو إلقاء اللوم على معايير الهجرة الصارمة والنفور من السماح للمعايير الإنجليزية بالتسلل إلى المؤسسات السياسية والتجارية. ولكن ينبغي كذلك إلقاء اللوم على النظام الاقتصادي الذي لم يكن جاهزاً لوقت الذروة العالمي كما يدعي أنصار آبي. 

لقد وصل غصن إلى اليابان في عام 1999 متحمساً لإحداث تغيير قوي في إحدى زوايا النظام الاقتصادي المركزي الياباني، وكثيراً ما أحدثت تغييراته تأثيراً رائعاً. 

لكنَّ سقوطه وهروبه بعد ذلك بـ20 عاماً يمثلان نهاية مناسبة لقصةٍ تُظهِر أنَّه بالرغم من كل الحديث عن خلق يابانٍ «جديدة»، فما زال هناك قدرٌ أكبر من اللازم من البقايا القديمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى