تقارير وملفات إضافية

خطة الحكومة المصرية للقضاء على الرمزية الثورية لميدان التحرير تهدد بتخريب الآثار الفرعونية

انتاب الذعر المصور الصحافي ذا الثلاثين عاماً عندما ظهر أمامه فجأة شرطيان بينما كان يحاول التقاط صورة لميدان التحرير، أيقونة الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني عام ٢٠١١، فأيديهما كانت تسبق تحذيرهما للحصول على الكاميرا الخاصة به، وسبب خوفه أن الكاميرا «عهدة» عليه من الجريدة التي يعمل بها وفقدانها يعرضه للمساءلة وخصم ثمنها من مرتبه.

أصر الشرطيان على منعه من التصوير وانتزعا الكاميرا منه وقام أحدهما بالبحث عن أية صور يكون قد التقطها للميدان لحذفها بينما قال الآخر «إنت متعرفش إن التصوير هنا ممنوع يا باشا»، «معاك تصريح؟».

فقد تحول ميدان التحرير على مدار السنوات الماضية إلى مساحة من المحظورات تتسابق إليه إجراءات أمنية متباينة من أسلاك حديدية شائكة وقوالب حجرية إسمنتية وجدران من الصفيح والخرسانة، فضلاً عن عربات الأمن المركزي والدوريات الأمنية المنتشرة في الشوارع الجانبية المتفرعة منه وأفراد من المباحث في زي مدني موزعين على المداخل سراً وعلانية  وأمام محطات المترو، يبرزون هويتهم عند التفتيش، أو التقليب في كاميرات المارة وهواتفهم المحمولة.

يلتفت المصور حوله لعله يرى من يستنجد به ويكون سنداً له من أجل استرداد كاميرته، فشعر وكأن الميدان اقتطع من العاصمة المصرية ولولا وجود «مجمع التحرير» أمامه لأصابه الشك بأن الطائرات قصفت كعكة الميدان ولم تترك فيها أحداً من ناسه.

أبدى المصور استهجاناً من أن يكون تصوير ميدان يحتاج إجراءات معقدة وتصاريح كالتي يحتاجها لدخول مناطق بعينها محظورة على المواطنين، وتحدث بصوت مبحوح بعدما انتزع الكاميرا من يد الشرطي «أنا باصور المخطط الجديد اللي أعلنت عنه الحكومة من كام يوم للميدان، يعني مفيش حاجة تخلي الصورة «ممنوعة» يا باشا أو تستدعي حصولي على «تصريح» هو أنا باصور «ثكنة عسكرية» دا ميدان يا عمنا!»، ثم عاد إلى جريدته خاوي الوفاض انتظاراً للحصول على تصريح.

المفارقة أن ميدان التحرير قبل أيام من الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، لا يزال يشكل هاجساً مستمراً لدى النظام المصري، بعدما تجمع فيه مئات الآلاف من الناقمين على حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك انتهت بتنحيه عن الحكم في ١١ فبراير/شباط 2011، وإسناد مسؤولية إدارة الدولة إلى المجلس العسكري الذي كان يرأسه في ذلك الوقت وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي.

ولعل هذا يفسر ما أعلنته الحكومة المصرية قبل أيام من نهاية العام الماضي، عن مخطط لتغيير معالم ميدان التحرير، وهو الأمر الذي أصاب الأوساط الثقافية والسياسية في مصر بصدمة تحولت سريعاً إلى حالة من الجدل.

المخطط الحكومي الذي أعلن عنه رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي بنفسه يتضمن نصب مسلة فرعونية في منتصف الميدان، هي واحدة من المسلات التي نقلت في شهر سبتمبر/أيلول عام 2018 من مكانها في مدينة صان الحجر بمحافظة الشرقية وسط احتجاجات سكان المدينة على سلب آثار مدينتهم.

كما تتضمن الخطة نصب 4 تماثيل لكباش فرعونية لتحيط بالمسلة من الجهات الأربع، وهي تماثيل برأس كبش وجسم أسد جرى نقلها من معبد الكرنك أحد أشهر المعالم الأثرية في مدينة الأقصر التاريخية جنوب مصر، والتي كانت تمثل طريقاً شهيراً يقصده كل السياح المترددين على المدينة ويعرف بـ «طريق الكباش».

تلك الخطوة لاقت بدورها احتجاجات واسعة في أوساط الأثريين والمثقفين بشكل عام، بدعوى أنها خطوة لتفريغ مدينة الأقصر من تراثها الأثري الغني، فضلاً عن أن تغيير أمكنة الكباش سيفقدها قيمتها التاريخية ويحولها إلى حجارة عادية.

وتوجه نشطاء وآثاريون بمذكرة إلى الجهات المعنية تلتمس التدخل لوقف عملية نقل التماثيل باعتبارها «مخالفة للمواثيق الدولية للحفاظ على التراث الحضاري للشعوب».

وأطلق بعضهم هاشتاغاً عبر تويتر «#ضد_نقل_تماثيل_الكباش_بالكرنك»، للمطالبة بوقف نقل التماثيل من مكانها الأصلي، في حين كانت وزارة الآثار المصرية قد شرعت فعلياً في تنفيذ القرار.

ووصل الأمر إلى إقامة دعوى قضائية مستعجلة لإلزام الحكومة بوقف عملية نقل تلك الكباش القابعة بالفناء الأول «صالة الاحتفالات» خلف صرح الملك نختنبو بالكرنك، وحددت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة جلسة لنظرها في مطلع فبراير/شباط المقبل.

واستندت الدعوى لنصوص الدستور والقانون واستشهدت بميثاق البندقية الذي تبنته منظمة اليونسكو 1970، ووقعت عليه مصر، وينص على أنه: «لا يمكن فصل المعلم التاريخي عن النسيج الحضاري الذي هو جزء منه، ولا يكون ذلك مقبولاً إلا في حالة الضرورة القصوى».

ويقول الكاتب السياسي المعروف مأمون فندي عبر تغريدة له على تويتر: «طلع علينا مجموعة مشروع تجميل مدن مصر بالآثار. يا جماعة الآثار دي مش ديكور. عقلية إن الآثار للسياحة وللزينة دي عقلية تجارية سوقية.

الآثار هي تاريخ وطن يبقى ويحترم سواء نظر إليه سائح أجنبي أم لم ينظر. ومن يرد التجميل فلينظف الشوارع أو يضع إشارات مرور أو أي شيء ينم عن تحضر! عيب!».

وضمن الخطة كذلك زراعة عشرات من أشجار النخيل والزيتون في جوانب الميدان الذي يضم المبنى الرئيسي لجامعة الدول العربية، وأيضاً إزالة اللافتات الإعلانية الضخمة التي تحجب واجهات العمارات ذات الطراز العمراني المتميز مع طلاء واجهات المحال والعمارات، لكي يكون هناك تناسق للمنطقة التاريخية، وسيضم الميدان أيضاً نافورة وأعمالاً مائية وإضاءات.

خلف خطة «تجميل ميدان التحرير والقضاء على فوضى الألوان والتخطيط» وهي العبارة التي اختارتها الحكومة المصرية لتبرير إقدامها على تطوير الميدان، تنبعث روائح سياسية يصعب تجاهلها على المتابعين.

إذ يرى بعض النشطاء أن الهدف من التطوير تغيير معالم الميدان نهائياً في خطوة أخيرة لطمس آخر ذكرى لثورة يناير/كانون الثاني 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق مبارك ونظامه السياسي.

ويقول محمد كمال سليمان: «اللي خد هذا القرار مفكرش غير بشكل عسكري وأمنجي فقط منها أولاً غلق الميدان بحجة تجديده في ذكرى 25 يناير، ‏ثانياً عشان لو حصل أي حاجة بعد كده ومتظاهرين دخلوا الميدان تاني يكون مبرر للأمن بدخول الميدان بحجة حماية الآثار من المتظاهرين اللي هيتلفوها زي ما أتلفوا المجمع العلمي».

يمر شريط الذكريات أمام فيولا نادر وهي ناشطة حقوقية لازمت الميدان إبان ثورة عام 2011، وكانت مع الثوار المطالبين بإقامة نصب تذكاري لشهداء الثورة في قلب الميدان، كما كانت شاهدة على إبداعات رسامي الغرافيتي ولوحاتهم التي جسدوا فيها وجوه شهداء الثورة على الجدران المحيطة بالميدان، وأشهرها حائط المبنى القديم للجامعة الأمريكية.

تقول الفتاة وتعمل مراسلة لأحد المواقع الإخبارية إنها تفاءلت خيراً وشعرت بأن الدماء التي سالت لاقت من يقدرها وذلك عندما أعلن المجلس العسكري الذي قاد الفترة الانتقالية بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وبالتحديد بداية 2012، تنظيم مسابقة لاختيار أفضل تصميم لتطوير الميدان وفاز فيها أستاذ ورئيس لقسم الزجاج السابق بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان، بتصميم يظهر «صينية الميدان» على شكل «25» وكان بالتصميم مساحات فارغة تتيح التظاهر إن لزم الأمر، فضلاً عن أماكن للعروض الفنية والإبداعية، لكن لم يدخل مشروع التطوير حيز التنفيذ وقتها بسبب الاضطرابات السياسية التي مرت بها البلاد.

تستكمل الفتاة والتي أكملت عامها الأربعين منذ أيام، أنهم لم ينسوا دماء الثوار التي نزفت (بدون فائدة) من أجل حريتهم وضغطوا على الحكومة المصرية لتكريمهم وبالفعل قامت في ١٦ نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2013، بالشروع في إقامة نصب تذكاري لشهداء الثورة ووضع حازم الببلاوي، رئيس الوزراء الأسبق، حجر الأساس له وكان من المفترض طرح مناقصة لتصميم الشكل النهائي له واستكمال البناء الخرساني وتضمينه لائحة بأسماء شهداء الثورة تكريما لهم على دورهم المشرف.

لكن الرياح سارت بما لا تشتهي السفن لأنه بعد أيام معدودة من تدشينه شوه مجهولون النصب التذكاري وحطموا أجزاء منه.

الغريب كما تقول فيولا أن ذلك تم على مسمع ومرأى من قوات الأمن التي كانت تحاصر الميدان في ذلك الوقت، والأغرب أنه وبعد تولي عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر بأشهر قليلة، قام عمال تابعون لمحافظة القاهرة بإزالة النُصب التذكاري تماماً، وبررت الحكومة ذلك بأنها ستعيد بناءه بحجم أكبر وستتم كتابة أسماء شهداء يناير عليه.

لم تنخدع فيولا بمثل تلك التصريحات لأنها شعرت ومعها أصدقاؤها أن هناك خطة ممنهجة للقضاء على الرمزية الثورية لميدان التحرير، ولم تكن تلك الخطوة الوحيدة دليلها لذلك، فقد رافقتها إزالة رسوم الغرافيتي من حوائط المباني الموجودة في محيط التحرير، وأشهرها سور الجامعة الأمريكية في شارع محمد محمود الملاصق للميدان، والذي اشتهر في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2011، بعد أن شهد مناوشات عنيفة بين متظاهرين وقوات الشرطة المصرية خلال حكم الرئيس الراحل محمد مرسي أسفرت عن مقتل ما يقرب من 50 متظاهراً.

وعلقت عالمة الاجتماع بالجامعة الأمريكية منى أباظة على إزالة الغرافيتي قائلة: «إن إزالة الغرافيتي تخدم الاهتمامات السياسية. ميدان التحرير انتهى، والغرافيتي جزء منه».

وتلقت فيولا إلى ذكاء الحكومة عندما حوَّلت رمزية الميدان بشكل لا يختلف عليه المواطنون وقامت بوضع سارية طولها ٢٠ متراً تحمل علم مصر  ليكون من الصعب هدمها أو الاعتراض عليها، لكنها في ذات الوقت تمثل إشارة للسيطرة التامة على الميدان وفرض هيبة «الدولة» أو النظام السياسي الناشئ بعد الثالث من يوليو/تموز 2013.

وتم تدشين السارية في أبريل/نيسان ٢٠١٥، لتملأ الكعكة الحجرية بوسط صينية الميدان، ووفقاً لتصريح جلال مصطفى سعيد محافظ القاهرة في ذلك الوقت الذي قال إنه «كان من المناسب وضع العلم في هذا المكان ليوحِّد المواطنين ويجعل الناس يشعرون بالوطنية».

وبالفعل لم تلق السارية أي مقاومة من قبل المواطنين لمدة أربع سنوات ونصف إلى أن تمت إزالتها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد أن  أصبح الميدان كله رهن عملية تطوير غير واضحة المعالم؛ فهناك ألواح خشبية متناثرة ومجسمات حديدية مختلفة الأشكال والأحجام، وملصقات بلون الليمون، فضلاً عن آلات ومعدات للرفع وتلال من الرمال والإسمنت تحاصر كعكة التحرير من جميع الاتجاهات تمهيداً لوضع المسلة وكباش الأقصر الأربعة.

ولم تكن صينية التحرير فقط المكان الذي فرض النظام بصمته عليه بل قام خلال السنوات الماضية بنصب متاريس وجُدر إسمنتية أو حديدية على مداخل بعض الشوارع المؤدية للميدان، مثل شارع القصر العيني الذي أقيمت على مدخله بوابتان حديديتان يتم فتحهما أو غلقهما بما يتناسب مع الظروف الأمنية.

فضلاً عن الدوريات المستقرة شرق الميدان بالقرب من مدخل شارع قصر النيل، والحواجز والأسوار في الشوارع المتفرعة منه كشارعي الشيخ ريحان والفلكي وغيرهما.

وعادة ما تلجأ قوات الأمن إلى إغلاق الميدان من جميع الاتجاهات المؤدية إليه مع بزوغ دعوات احتجاج، يتزامن مع ذلك إجراءات تطول عادة تعطيل محطة مترو «أنور السادات» المعروفة بمحطة مترو التحرير، لإعاقة الناس عن الانتقال من وإلى الميدان.

أما إحياء ذكرى المناسبات الثورية فليس مسموحاً به في الميدان سواء للمتظاهرين المعارضين للنظام، أو حتى المؤيدين خشية تسرب المعارضين وسطهم.

وكان لافتاً قيام النظام بحشد مؤيديه في سبتمبر/أيلول الماضي أمام نصب الجندي المجهول بضاحية مدينة نصر وليس ميدان التحرير، وذلك للإعلان عن دعم الشعب للسيسي في مواجهة دعوات التظاهر التي طالب بها رجل الأعمال والمقاول المصري محمد علي.

يقول أحد النشطاء تعليقاً على تطوير الميدان: «النظام خائف من ذكرى يناير.. وخاصة أي دعوة لمحمد علي للتظاهر في يناير.. الفكرة وضع ميدان التحرير تحت الصيانة (السيطرة الأمنية).. فتمخض الجبل عن فكرة المسلة (الخاروق).. وتم الإعلان أن ميدان التحرير تحت الصيانة لمدة ٣ أشهر.. تثبيت مسلة وسارية يحتاج ٣ أشهر؟! الصين شيدت برجاً ٥٧ طابقاً في ١٩ يوماً»، حسب قوله.

لكن باحثاً سياسياً في مركز للدراسات السياسية والاستراتيجية قال لـ «عربي بوست» تعليقاً على ما تقوم به الحكومة في ميدان التحرير، إن ما يجري يحمل عنواناً إيجابياً هو تطوير الميدان الذي يعتبر أشهر ميادين مصر وربما المنطقة العربية كلها بعدما لعب دوراً محورياً في الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق مبارك.

لكن في نفس الوقت لا يمكن تجاهل الدوافع السياسية وراء هذا التطوير وتوقيت الإعلان عنه قبل أقل من 3 أسابيع من الذكرى الثامنة لثورة يناير/كانون الثاني.

ويرى الباحث الذي لا يريد ذكر اسمه، أن الهدف الحقيقي من تطوير الميدان واضح بشكل جلي لا يحتاج للكثير من الذكاء لإدراكه، وهو طمس كل ذكريات ثورة يناير من أذهان المترددين على الميدان، وهم مئات الآلاف يومياً سواء من الموظفين المارين بالتحرير في طريقهم إلى مقار وزاراتهم المنتشرة حول الميدان، أو من الموظفين أو المترددين على مبنى مجمع التحرير، أو العابرين للميدان في طريقهم إلى وسط البلد أو أحياء الزمالك والدقي.

هذا التوجه الحكومي يذكر بما قامت به الحكومة البحرينية مع دوار اللؤلؤة الشهير في العاصمة المنامة، الذي شهد أعنف تظاهرات تشهدها المملكة الخليجية الصغيرة ضد حكم الملك حمد بن عيسى آل خليفة في بداية عام 2011، حيث قام النظام الحاكم هناك بهدم الميدان الذي كان يحوي نصب مجلس التعاون الخليجي المكون من 6 أضلاع، وتحويله إلى تقاطع للطرق السريعة بهدف محو أي أثر للاحتجاجات التي اندلعت وخلفت ما يقرب من 22 قتيلاً ومئات من المصابين.

لكن الباحث السياسي يلفت الانتباه في الوقت نفسه إلى أن ما يحدث لا يعكس خوف النظام من إمكانية تجمع الثوار أو المعارضين للنظام مجدداً في التحرير، مثلما فعلوا في عام 2011 بعد خروج قوات الأمن التي عادة ما تتولى تأمين الميدان من المعادلة مساء يوم الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني في ذلك العام، لأسباب لا تزال مجهولة حتى الآن.

فقد أحكمت السلطات المصرية قبضتها على ميدان التحرير، لكن هذا لم يمنع البعض من التعبير عن معارضتهم للنظام، حتى لو أدى ذلك لاعتقالهم.

ولذلك تم اعتقال شخص صمم على أن يكون الميدان رمزاً للتمرد على الأوضاع وتوجيه رسالة بأنه لن يستطيع أحد كسر رمزيته عندما قام في شباط/فبراير، من العام الماضي حاملاً لافتة مكتوباً عليها «ارحل يا سيسي».

كما أن النظام نجح من قبل في اختبار السيطرة على ميدان التحرير خلال التظاهرات التي اندلعت يوم الجمعة السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول من العام الماضي، استجابة لدعوة المقاول المصري الهارب محمد علي للتظاهر في الشوارع ضد النظام.

ففي ذلك اليوم نجحت قوات الأمن في منع دخول المتظاهرين نهائياً إلى الميدان، من خلال تكثيف إجراءات الأمن في اليوم الذي سبقه، وإغلاق الشوارع المؤدية له تماماً، ما أجبر المتظاهرين على التجمع في ميدان عبدالمنعم رياض المتاخم للتحرير.

في المقابل يرى مراقبون للأوضاع في مصر أن حالة الجدل حول كباش الأقصر هي كلاكيت متكرر من الحكومة عندما تريد أن تبعد الأنظار عن شيء ما، ونجحت في ذلك بالفعل وبدلاً من أن يكون التركيز والنقد لما يحدث لميدان التحرير وطمس هويته وعدم وجود ذكر للثوار أو نصيب في كعكته أصبح الجدل حول نقل الكباش وكأنها هي الأهم، ولم يلتفت أحد إلى أنها ستوضع مكان نصب تذكاري لشهداء ثورة ٢٥ يناير فهل استبدلوا الثوار بالكباش؟! ولماذا الكباش بالذات فمخازن المتاحف بها العديدة من القطع الأثرية».

مما يلفت الانتباه في خطة الحكومة المصرية لتطوير ميدان التحرير أن إقدامها على وضع الكباش في قلب ميدان التحرير وتعريضها للتلوث المستمر في الميدان يتضارب تماماً مع ما تم إعلانه قبل سنوات من قبل الحكومة أيضاً لتبرير نقل تمثال رمسيس الثاني من مكانه القديم في قلب الميدان الذي يحمل اسمه إلى بهو المتحف المصري الكبير الذي يجري العمل فيه تمهيداً لافتتاحه في العام الحالي، حيث بررت الحكومة وقتها نقل التمثال بإنقاذه من التلوث.

وعلق د. ممدوح حمزة وهو ناشط سياسي ومهندس مصري على نقل الكباش عبر تغريدة له على تويتر بقوله: «الذي أخذ قرار نقل الكباش من حضن تاريخها الآمن إلى بيئة مدمرة من التلوث وبالأخص عادم السيارات لا يعلم آثار ولا طبيعة الصخور وأن الحجر الرملي المنحوت منه الكباش ضعيف بالمقارنة بالغرانيت المنحوت منه تمثال رمسيس الذي تم نقله من ميدان رمسيس خوفاً عليه من التلوث كما قالوا تبريراً لنقله».

الغريب أن وزارة الآثار أشارت في بيان لها إلى مشروع ترميم وإحياء طريق الكباش، وإنه تم الانتهاء من أكثر من 90% منه، وسوف يفتتح أمام الزائرين خلال عام 2020. ولو راجعت الوزارة تاريخ مشروعها هذا فقط لما وافقت على تنفيذ هذه الفكرة، فالمشروع الذي أشار إليه بيان الآثار تأخر 10 سنوات تقريباً، نتيجة عقبات كثيرة وتوقفات بالجملة، ومجهود كبير جداً عبر أعوام عديدة.

يتساءل حازم ربيع باحث في الآثار، ما الغرض من نقل الكباش فهي في مكانها رمزية للإله آمون والهدف من وجودها بهذه الحالة حماية المعبد، ووجودها هناك له معنى، فهل هناك معنى لوجودها بالميدان وممن ستحميه؟!

ويوضح لـ «عربي بوست» أن نقل تمثال رمسيس الثاني من ميدان شهير بوسط القاهرة لا يزال يحمل اسمه إلى بهو المتحف المصري الكبير كان الغرض منه كما قيل وقتها من وزارة الآثار أنها خطوة ضرورية لحماية التمثال من الأضرار الناجمة عن التلوث، وحمايته من الرياح والعوامل الجوية والبشر وذبذبات خطوط المترو حالياً ومستقبلاً.

فكيف سيكون الحال إذن بالنسبة لكباش نحتها المصري القديم من أحجار رملية سهلة التفتت وتحتاج لمناخ جاف حار، فلماذا سيتم نقلها وسط عوادم السيارات والفلاش المتربص من آلاف الكاميرات، وماذا عن الأنفاق الموجودة أسفل المكان والتي من شأنها أن تؤثر على التربة وتضعفها بشكل لا تحتمل فيه وجود أطنان من حجارة الكباش والمسلة وإن عالج المسؤولون ذلك كيف سيحمونها من الغازات الضارة مثل أول وثاني أكسيد الكربون داخل عاصمة هي بالإحصاءات العالمية من أعلى مدن العالم تلوثاً.

ويقول الأثري المصري إن الشكل التخطيطي الذي طرحته الصحف والمزمع تنفيذه لوضع الكباش يظهرها في شكل دائري حول المسلة بينما الوضع الأفضل الذي استقر عليه الفراعنة منذ قرون هو وضعها في خطوط متوازية.

يقول باحث سياسي رفض ذكر اسمه خوفاً أن يكون مصيره كمصير أحمد دومة أو زياد العليمي (من أبرز نشطاء ثورة يناير)، وبالمثل رفض وصفنا له بالناشط السياسي مؤكداً بسخرية ممزوجة بالحسرة أنها «تهمة» في هذه الأيام.

بعد وعد بعدم ذكر اسمه تحدث الناشط بطلاقة وعفوية، وهو يدخن سيجارته -بعد أن «لفّ» التبغ على الطريقة الشائعة في مصر لكن بشياكة وحرص كبير- شارحاً أن ما يحدث غرضه تغيير المشهد القديم في عقول الناس عن طريق شغل كعكة الميدان بالكباش والمسلة والأضواء والأصوات والنوافير، وكأنه روّض الكباش ومحا كل أثر للثورة.

فالحكومة المصرية مرتبكة أمام تلك الكعكة المستديرة والتي استنفدت الغرض منها حسب رؤيتها، فتارة تضع حوله الحواجز الحديدية والقوالب الإسمنتية تحت زعم حماية مبانيه وتعود لتزيلها ومرة تجمل صينية الميدان ثم تتراجع عن تجميلها لتتركها جوفاء وتضع قاعدة قالوا إنها ستكون لنصب تذكاري ثم تزيله وتضع سارية وتزيلها من أجل كباش قادمة من الجنوب.

ينتهي الشاب من سيجارته الأولى ثم يتبعها بأخرى فيتنهد بقليل من الحشرجة بأنه لا يستغرب ما يحدث، فالميدان شهد تقلبات سياسية واجتماعية عديدة، إذ بدا كمنطقة متنازع عليها بين الثورة والثورة المضادة، وما يحدث الآن هو تغيير رمزي ومعنوي لميدان التحرير وتحويله من رمز للثورة إلى مزار سياحي، رسالة من النظام بأنه سيقوم بكل ما في وسعه لتثبيط الاحتجاج إلى الأبد».

يستكمل الشاب بنبرة إحباط: «عندما تجمّعنا بالآلاف في ميدان التحرير في يناير/كانون الثاني من عام 2011، لم نكن نتبع منظمة أو حزباً، ومع ذلك فالبعض منا فى السجن، وآخرون هربوا للخارج ولا أمل لديهم في العودة خوفَ أن يكونوا مدرجين على قوائم «المطلوبين أمنياً»، فقد نجح النظام بإحباط آمال جيل صاعد بأكمله، ممن شاركوا وحلموا بتغيير البلد سياسياً ومجتمعياً».

الطريف هو ما يقوله الناقد الإعلامي الساخر أحمد بحيري على صفحته بفيسبوك وهو كلام هزلي يحمل في باطنه واقعاً محبطاً حيث كتب قائلاً:

«ميدان التحرير رمز من رموز ثورة يناير.. وهو المكان اللي اتجمعت فيه المظاهرات اللي شالت النظام.. وده فى حد ذاته سبب كافي جداً علشان الدولة يبقى نفسها تمحي الميدان من الوجود.. لدرجة إن فيه كلام أن الدولة بتفكر تاخد ميدان التحرير وترميه فى الصحراء جنب المسجد والكاتدرائية الجداد (تم إنشاؤهما في العاصمة الإدارية).. على أساس إن حتى لو المتظاهرين عرفوا يوصلوله يبقوا خلاص نفسهم اتقطع وروحهم طلعت.. فياخدوا جثثهم يصلوا عليها في مسجد الفتاح العليم قبل ما يدفنوها.. وبكده تبقى الدولة خلصت من الميدان وخلصت من المتظاهرين وشغلت المسجد شوية بدل ما هو مش بيشتغل».

اختلف ميدان التحرير بشكل جذري، وبعدما كان قبلة للحرية بات خاوياً على عرشه، بدون روح ولا عشاق ولا ثوار، يميل للون رمادي باهت يجمع مشاعر متضاربة ما بين الحسرة على ثورة ماضية تم وأدها ولامبالاة مصطنعة نحو الحاضر والمستقبل.

وخيم «خوف وسكون حذر» على المقاهي الشعبية في محيط ميدان التحرير بعدما كانت أحد روافد الثورة، ومكاناً يتلاقى فيه النشطاء السياسيون، ومنطلقاً لحركات احتجاجية قبل ثورة يناير، أهمها الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) أواخر 2004، والتي نددت بالتوريث وحاربت من أجل عدم استكماله، ومع ذلك تم إغلاق الكثير منها فقط لأنها تقع على أطراف ميدان التحرير مثل مقاهي البورصة، ومقهى «افترايت» الذي كان يلجأ إليه الثوار طوال ١٨ يوماً من الثورة والعديد من المقاهي الأخرى.

يقول العم محمد، وهو مالك لأحد المقاهي المغلقة، إن مقهاه واحد من أكثر من 30 مقهى كانت تساهم في تشكيل الوعي السياسي لشباب وفتيات من مختلف الأعمار وطالما مثلت صداعاً مزمناً في رأس الحكومة، لكن لم يكن ذلك السبب وراء غلقها بل كان يتردد عليها نجل قيادي مرموق بوزارة الداخلية وعندما لم يستطع والده إقناعه بالعزوف عن المجيء للمقهى قام بغلقها تحت دعوى أنها «مخالفة» وتمارس نشاطها «دون ترخيص» رسمي، مردفاً: «مقدرش على ابنه وقدر علينا إحنا».

يستكمل الرجل الستيني الذي لم تقهره التجاعيد بعد: «كدا واللا كدا الدنيا كانت خربت والشباب الخوف اتوطن جواهم وبقوا يخافوا ييجوا بعد توقيفهم مرات عديدة من دوريات الشرطة».

وشدد على أن المقاهي التي لا تزال مفتوحة «باتت تخشى الرقابة الأمنية، وتمنع تجمعات الشباب (إن وجدت)، خاصة المعروفين بتوجهاتهم السياسية، حتى لا تتعرض مثل غيرها للإغلاق بزعم أنها مخالفة».

ويشير الرجل إلى أن أغلبية مرتادي المقاهي مشغولون لكن ليس بالشأن الثقافي والفكري والمجتمعي وبلورته كما كان في السابق، بقدر ما تؤرقهم ظروف المعيشة الصعبة والأحوال الاقتصادية المتدهورة.

يقول عم محمد بصوت منخفض خوفَ إن يكون هناك من يراقبه «مفيش ثوار بس فيه «أشباه» ثائرين ومتمردين على الأوضاع الحالية، لكن هؤلاء للأسف لديهم ازدواجية في التعامل مع الوضع الحالي فهم يخضعون للنظام السياسي والمجتمعي في مقرات عملهم ونشاطاتهم المهنية نهاراً، حفاظاً على منصب أو وظيفة أو لقمة عيش، لكنهم يلبسون رداء التمرد على هذا النظام وأنساقه في المقاهي ليلاً».

ويدلل على كلامه قائلاً: «انظروا لوجوه المترددين على المقاهي الموجودة وهي خير شاهد لما أقوله فهي لا تكذب، حتى ولو كانت تخفي ذلك بقليل من الملامح المحايدة والباردة».

ويتساءل مواطن عبر تغريدة له: «‏تخيلوا إن ده منظر ميدان التحرير عرفتوا مين الجبان ولا لسه، ‏الجبان هو اللي خايف مننا وخايف يشوفنا تاني في الميدان، مش يعرف إن مصر كلها ميادين ‏مهما قفلت ميدان أو كممت أفواه، ‏بإذن الله ثورة تاني من جديد.. اللهمّ ثورة».

لكن يبدو أن السلطة تغض بصرها عن هؤلاء الشباب الذين يترقبون الفرصة لإحداث التغيير وتصر على أن تتعامل مع الميدان من منظور سياحي، لاستغلال القيمة التاريخية لمبانيه القديمة في مشروعات استثمارية تتقاسمها الحكومة مع القطاع الخاص، بينما هناك أشخاص يترقبون بفارغ الصبر الكباش ليمتطوها أو يأخذوا سيلفي معها، والأخطر ربما يحطمونها تنفيساً عن غضبهم لأنها تعبير عن نظام قهرهم رغم أنها ليس لها ذنب، ووسط كل ذلك يقف الميدان صامتاً، فهل سيحمل مفاجأة للجميع؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى