تقارير وملفات إضافية

بعد 15 يوماً مذهلة من الاحتجاجات الرافضة للعنصرية، ماذا يمكن أن يحدث؟

أصبح واضحاً الآن أن الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في أعقاب مقتل جورج فلويد مختلفة شكلاً وموضوعاً عن الأحداث المشابهة لها، لذلك من الطبيعي الآن التساؤل عما يجب توقعه بعد تلك الخمسة عشر يوماً المذهلة؟

صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: “بعد 15 يوماً مذهلة من الاحتجاجات المناهضة للعنصرية.. ماذا سيحدث بعد ذلك؟”، ألقى الضوء على ما يمكن أن يحدث في ملف العنصرية وعنف الشرطة في الفترة المقبلة، لكن الأهم هو ما قد تشهده الهياكل الاجتماعية نفسها.

بعد 15 يوماً وليلة من هذه المواجهات التي استعرت لتعمّ جميع أنحاء البلاد، بدأت الاحتجاجات التي أعقبت مقتل جورج فلويد في مينيابوليس في الإبحار فيما لا يُعرف أفقه ولا اتجاهه حقاً.

كانت البداية حشوداً هائلة، شديدة التنوع وسلمية في غالبيتها الساحقة، انطلقت في عديد المدن في جميع أنحاء البلاد؛ حركةٌ خرجت احتجاجاً على وحشية الشرطة، ليقابلها الرئيس الأمريكي بعد ذلك بما يمكن القول إنها ستكون واحدة من أكثر جلسات التصوير -عنفاً- وبقاءً في الذاكرة في العصر الحديث.

علّق الفيلسوف والناقد الاجتماعي نعوم تشومسكي على الاحتجاجات بالقول: “كان رد الفعل الشعبي على جريمة قتل فلويد البشعة مذهلاً في انتشاره على امتداد البلاد وصموده المتوهج والتضامن الذي أبداه بين مختلف الأعراق، لقد فضحت الاحتجاجات ذلك الورم الخبيث الذي حلَّ بالبيت الأبيض بكل خبثه وقبحه”.

لكن، ومع تفرق المظاهرات خلال أسبوعها الثالث، وافتقارها الواضح إلى الزخم شيئاً فشيئاً، بدأ الهمس، الذي ينشأ حتماً مع كل اضطرابات عامة من هذا النوع، يتعالى حتى استحال صوتاً مسموعاً. وكلما تعالى الصوت، برز السؤال الذي يطرحه: ماذا سيحدث بعد ذلك؟

أين ستذهب كل تلك الطاقة التي أطلقتها الاحتجاجات؟ ماذا سيحدث لحملات “قطع التمويل عن الشرطة وتفكيك أجهزتها” (Defund the police) عندما تتلاشى الهتافات؟ عندما يأتي اليوم -كما هو متوقع حتماً في نهاية المطاف- الذي ستفرغ فيه الشوارع من المحتجين، ما النتائج التي ستبقى لنراها تتحقق؟

يقول تشومسكي لصحيفة The Guardian، إن “المسيرات مجرد تكتيك. لم يبرز الكثير حول خطوات استراتيجية، أو حتى أهداف صريحة محددة خارج الكلام العام عن إصلاح كبير لممارسات وسلطات الشركة”.

تقدم حركة “احتلوا وول ستريت” ما يمكن القول إنه درس تحذيري للاحتجاجات الحالية، فمثلها مثل الموجة العارمة الحالية، اكتسحت هذه الاحتجاجات صدارة الاهتمام العام في سبتمبر/أيلول 2011 على نحو مفاجئ تماماً، مع احتشاد 1000 شخص أو نحو ذلك في حديقة “زوكوتي” في مدينة نيويورك، رافعين شعار “نحن الـ99%” [شعار سياسي يشير إلى الغالبية العظمى من المجتمع التي لديها حصة غير متناسبة من رأس المال والنفوذ السياسي ووسائل الإنتاج، مقارنة مع نسبة الـ1% الأغنى التي تملك كل شيء].

ومثل الاحتجاجات الجارية أيضاً، قوبل محتجو “وول ستريت” آنذاك بحملة قمع عنيفة من الشرطة أفضت إلى مئات الاعتقالات، وفي النهاية فُض اعتصام المحتجين بوحشية بعد شهرين.

لا أحد يستطيع أن يشكك في نجاح حركة “احتلوا وول ستريت” من جهة تأثيرها في تغيير طبيعة النقاشات السياسية والاجتماعية الجارية على مستوى البلاد، فقد أبرزت الاحتجاجات مفاهيم مثل التفاوت في الدخل، ونسبة الـ “1%” المنفصلة عن المجتمع، وثبّتت حضورها على نحو دائم وراسخ في خريطة الشأن العام.

ولكن بمجرد أن تم تفريق الحركة الاحتجاجية، فإن طبيعتها المعادية للبنى التنظيمية الهيراركية، إلى جانب افتقار العديد من نشطائها إلى الثقة حيال الهيئات ومؤسسات البنية التحتية، جعلت الحركة ليس لديها أفق آخر للتطلع إليه. وهكذا تبدد الأمل فيها.

ويقول تشومسكي: إن “حركة (احتلوا وول ستريت) كانت تكتيكاً أيضاً وليس استراتيجية، ولم يكن من الممكن أن تستمر. بالطبع كان لها تأثير مهم: التركيز على انعدام المساواة الشديد الذي يبث سمه في المجتمع في ظل النظام النيوليبرالي. لكن بعد هذه النقطة، كان يجب أن تتولى أشكال أخرى من النشاط، وقد حدث ذلك إلى حد ما”.

تختلف نيليني ستامب، مديرة التخطيط في “حزب الأسر العاملة” [حزب أمريكي ثانوي]، مع تشومسكي في أن الموجة الحالية من الاحتجاجات فشلت في تعيين طريقة محددة للمضي قدماً، وتقول: “أعتقد أن المطالب كانت واضحة إلى حد ما: إعادة توزيع التمويل الموجه للشرطة، ووضع تصور جديد بخصوص ضمانات السلامة العامة، ونحن نتقدم ببطء”.

بالتأكيد، يمكن للمحتجين حالياً الإشارة إلى أول بادرة تغيير على المستوى المحلي، وهي المتمثلة في تعهد مجلس المدينة في مينيابوليس، التي قتلت فيها الشرطة المواطن الأمريكي من أصول إفريقية (جورج فلويد) في 25 مايو/أيار، بتفكيك إدارة الشرطة في المدينة وإعادة تشكيلها من جديد.

كما يمكن الإشارة إلى تحرك المشرعين في ولاية نيويورك لحظر استخدام طريقة الخنق أثناء الاعتقال والتي سبق أن أدت إلى مقتل إريك غارنر في عام 2014. كما تقدمت قائد شرطة مدينة بورتلاند باستقالتها، داعية إلى مزيد “الإصلاحات الجريئة”، وعلى المستوى الوطني، كشف الحزب الديمقراطي الذي تهيمن أغلبيته على مجلس النواب، عن الخطة الأكثر طموحاً لإصلاح الشرطة والمسائل المتعلقة بإنفاذ القانون منذ سنوات طويلة.

وربما إشارة التغيير الأكثر إرضاءً من الناحية الجمالية هى إعادة تسمية شارع يقع على مسافة قريبة من دونالد ترامب في البيت الأبيض، ليصبح اسمه “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter Plaza).

بصورة عامة، قد لا تزيد هذه الانتصارات الفردية الصغيرة على أن تكون رتقاً لفجوات صغيرة على اللوحة الكبيرة شديدة الاتساع لأزمات أمريكا. ومع ذلك، فإنها للمتظاهرين بمثابة أوكسجين البقاء على قيد الحياة.

تقول دانا آر فيشر، أستاذة علم الاجتماع المتخصصة في دراسات الحركات الاحتجاجية بجامعة ماريلاند: “لا تحتاج إلى نجاحات كبيرة للإبقاء على فاعلية ونشاط الاحتجاجات في الشوارع. ويكفي أن نتذكر أن حركة الحقوق المدنية، كانت عملية طويلة وشاقة ومؤلمة نهدف إلى الحصول على حق التصويت للسود، لكنها استمرت بفعل تلك النجاحات الصغيرة التي حققتها على طول الطريق”.

وتعتقد فيشر أن تلك الموجة الضخمة من الاحتجاجات التي اكتسحت أكثر من 750 مدينة وبلدة في جميع أنحاء أمريكا توفّر فرصةً ذهبية لتحقيق تغيير جذري من خلال صناديق الاقتراع في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبلة.

في كتابها الأخير، “المقاومة الأمريكية” American Resistance، تتعقب فيشر تأثير “مسيرة النساء” في عام 2017، التي نُظمت بعد يوم واحد من تنصيب ترامب رئيساً، واستناداً إلى البيانات التي درستها، تقول فيشر إنها وجدت أن جزءاً كبير من الطاقة التي أُطلقت في ذلك اليوم -الذي يعده البعض أكبر يوم احتجاج في التاريخ الأمريكي- وُجهت بعد ذلك إلى المجتمعات المحلية والمنافسات الانتخابية الخاصة بمجلس النواب، وكانت النتيجة أن الديمقراطيين استعادوا الأغلبية في مجلس النواب عام 2018، فيما يسمى “الموجة الزرقاء” [لون الحزب الديمقراطي].

وترى فيشر أن هناك إمكانية لتكرار ذلك اليوم في هذه الحركة الاحتجاجية، قائلة: “نحن نرى فرصاً مذهلة لإعادة توجيه ما يجري في الشوارع وتحويله إلى نشاط ومشاركة سياسية، خاصة مع انتخابات حاسمة كهذه التي تلوح في الأفق”.

يبقى السؤال حاضراً، مع ذلك، هل هناك حاجة إلى بعض الهياكل التنظيمية التي يمكنها استيعاب المكاسب الإيجابية للاحتجاجات الحالية، والتي بدونها يتهدد الحركة احتمال التفتت والتبدد تماماً مثل حركة “احتلوا وول ستريت”؟ تعتقد فيشر أن هناك حاجة ذلك بالفعل.

وتقول فيشر: “أنا متأكدة من أن هذا الرأي لن يحظى بتأييد كبير، لكني أعتقد أن هناك حاجة إلى بعض الهياكل التنظيمية العضوية المهنية وغيرها، لدعم هذا الحراك. هناك فراغ واضخ، ونحن بحاجة إلى ملئه”.

ومن جانب آخر، يرى نعوم تشومسكي أن ثمة حاجة إلى تحرك استراتيجي أوسع نطاقاً، متسائلاً عما إذا كان ثمة إمكانية لظهور حركات شعبية “تسعى للتعامل مع الإرث الوحشي لـ 400 عام من العنصرية الوحشية، والتي تتجاوز بكثير عنف الشرطة”.

تبدي الناشطة نيليني ستامب تفاؤلاً عازماً، مذكرة إيانا بأن حركة “حياة السود مهمة” تأسست لأول مرة في عام 2013، لتنطلق في العام التالي الاحتجاجات في مدينة فيرغسون بولاية ميزوري، على قتل الشرطة لمايكل براون، وهي تمضي في طريق إحداث التغيير منذ ذلك الحين.

وفي إجابة عن سؤال يتعلق بالمخاوف من أن نشوة الاحتجاجات الحالية يمكن أن تتلاشى مع الوقت لتصبح خيبة أمل من الماضي، أجابت ستامب: “الحقيقة أني قلقة طوال الوقت من ذلك. لكنني دائماً ما أتذكر أنني لم أر قط انتفاضة متعددة الأعراق في حياتي كتلك التي نشهدها الآن، وعلى الرغم من القلق الذي أشعر به كل صباح حول ما سيحدث بعد ذلك، فإن هذه الاحتجاجات تعطيني الأمل”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى