تقارير وملفات إضافية

كيف ساهمت واشنطن في “عسكرة” الشرق الأوسط قبل عقود من غزو العراق؟

ربما تكون عدسة “العسكرة” هي الوحيدة التي يتم تعميمها على الشرق الأوسط، والأمر لم يبدأ منذ غزو الولايات المتحدة للعراق كما يعتقد البعض، لكن التدفق الضخم للأسلحة في دول يعاني أغلب شعوبها من الفقر ونقص الخدمات الأساسية له جذور أبعد من مارس/آذار 2003، فما هي قصة العسكرة في الشرق الأوسط؟

موقع مركز Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: “عسكرة الشرق الأوسط بدأت قبل فترة طويلة من الغزو الأمريكي للعراق”، ألقى فيه الضوء على الأسباب التي جعلت من الاشتباك الأمريكي مع قضايا المنطقة مخيباً للآمال.

قد يصعب فهم سياسة الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، فحالة التقارب والتباعد المتقلبة يومياً، والطبيعة التي تبدو عشوائية للنهج الأمريكي، وتداخل محاور الصراع قد يجعل الأمر مربكاً. لكن تعيين الاتجاهات والأنماط التي حددت استراتيجية الولايات المتحدة المتعلقة بالشرق الأوسط على مدار العقدين الماضيين أمرٌ ضروري لفهم الأسباب التي جعلت من الاشتباك الأمريكي مع قضايا المنطقة مخيباً للآمال.

وفي هذا السياق، سعت فعالية أخيرة استضافها “منتدى الدراسات المتعلقة بتجارة الأسلحة والأمن”  The Forum on the Arms Trade and Security إلى فعل ذلك. وقصدت الفعالية إلى توسيع الأفق التحليلي لإجراء تقييمٍ أشمل نطاقاً، إذ قدم الخبراء رؤى حول الدور الأمريكي في حالة العنف وانعدام الأمن الدائمة في المنطقة.

وعلى الرغم من أن المشاركات تطرقت إلى مجموعة متنوعة من القضايا، كان الخيط الموحد للمناقشات هو حالة العسكرة وإضفاء الطابع الأمني (أمننة) securitization على سياق المنطقة، فمن الداخل والخارج على حد سواء، دائماً ما نُظر إلى الشرق الأوسط من خلال عدسة عسكرية، حيث العين دائماً على المخاطر والتخلص منها، والتصور بأنها تستلزم مستويات متصاعدة من العنف للتصدي لها.

إذ حتى قبل اندلاع الحرب المفتوحة في المنطقة في أعقاب حرب العراق، فإن التدفق المستمر للأسلحة لحكومات المنطقة قد خلق ما قال عنه عمر ضاحي، وهو باحث مشارك في معهد بحوث الاقتصاد السياسي بجامعة ماساتشوستس أمهرست، إنه أشبه ما يكون بـ “منطقة طبيعية مؤمننة” على امتداد أنحاء منطقة الشرق الأوسط، حيث أخذت الحكومات التي شرعت في الاتجاه بعيداً عن مسارات الإنفاق الاجتماعي إلى الاستثمار على نحو غير متناسب في مجالات شراء الأسلحة والمنظومات الدفاعية، ومعظمها كانت الولايات المتحدة من قام بتزويد تلك الأنظمة بها. وكان لتحرير السياسات الاقتصادية الذي أخذ الغرب يدفع باتجاهه في الوقت ذاته تأثير أفضى إلى خلق “تحالفات بين أصحاب الثروات وحائزي السلطة” في الشرق الأوسط، وهو ما زاد من عدم المساواة وجعل الحكومات أكثر اعتماداً على القوة والقمع لتأمين بقائها في السلطة.

وأشارت جودي فيتوري، مديرة الأبحاث والسياسات في فرع الولايات المتحدة من البرنامج الدولي للدفاع والأمن التابع لمنظمة الشفافية الدولية، إلى أن مبيعات الأسلحة لحكومات الشرق الأوسط فاقمت الميول نحو سلوكيات وحشية وأعطت الأنظمة الوسائل اللازمة للإبقاء على أنظمة الحكم من خلال الإكراه والعنف. والواقع أنه عشية حرب العراق، كانت المنطقة مليئة بالأسلحة، التي قدمت الولايات المتحدة معظمها، ومحكومة بحكومات وحشية ترأست مجتمعات شهدت مستويات هائلة من انعدام المساواة. ولا شك أن ذلك المزيج كان قابلاً للاشتعال في أي وقت.

وليس من الغريب أن الغزو الأمريكي غير المشروع للعراق أثار سلسلة من النزاعات الإقليمية التي حددت طبيعة التشابك بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط منذ ذلك الحين. ويقول سامر عبود، وهو أستاذ مشارك في مجال الدراسات العالمية متعددة التخصصات بجامعة فيلانوفا، إن الشرق الأوسط أصبح مكاناً “تتدخل فيه باستمرار جهات فاعلة عنيفة وغير عنيفة” على حد سواء.

في هذه البيئة، تكون مغناطيسية العنف وقابلية الانقياد إليه عميقة، والسبل التي كان يمكن من خلالها الإيحاء بتصورات التهديد والتلاعب بشعارات الهوية كانت حاضرة طيلة الوقت. أما الولايات المتحدة، فقد أشعلت حلقة مفرغة بات الحل الافتراضي للمعضلات الأمنية فيها عسكرياً بطبيعته، وهو ما خلق نقاطاً جديدة من الاحتكاكات التي تغوي بمزيد من الصراع، وبالتالي تثير تدخلات عسكرية إضافية، وهكذا. هذه هي الدورة التي يذهب عبود إلى أنه تسهم في “جغرافية العنف” المتسعة باستمرار، والتي باتت تتسم بها منطقة الشرق الأوسط اليوم، إلى جانب البصمة العسكرية الأمريكية المتنامية في المنطقة.

وكما يقول المثل القديم، “عندما تكون أداتك الوحيدة المطرقة، فإن كل مشكلة تبدو وكأنها مسمار”. يمكن قول الشيء ذاته عن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. ففي ظل الحضور الطاغي لعضلات القوة العسكرية الأمريكية في المنطقة منذ عام 2001، ضمرت الأذرعة والوسائل الأخرى للاشتباك الأمريكي مع قضايا المنطقة. ومع تطور الوجود العسكري القوي في المنطقة وانتشار القوات الأمريكية للمساعدة والتنسيق في العمليات المتعلقة بالجماعات المسلحة شبه النظامية، فإن ذلك لم تواكبه استثمارات سياسية ودبلوماسية متكافئة. وهو ما جعل عبود يذهب إلى أن رسالة واشنطن كانت واضحة: “السياسة لم تعد مطروحة على الطاولة”.

كان لهذه العسكرة تأثير بارز لا يُنازع خلال السنوات الأخيرة. وفي سلسلة من الأزمات الممتدة من دمشق إلى طهران، كان رد الفعل الأمريكي يعتمد على نحو متوقع على التهديد باستخدام القوة أو استخدامها مباشرة. وذلك على كل الجبهات، سواء أكان في العدد المتزايد من النقاط الساخنة بين القوات الأمريكية في سوريا وتلك المتحالفة مع النظام السوري، أو كان في الاغتيال الأمريكي للقائد العسكري الإيراني قاسم سليماني في بغداد، أو الإمداد بالذخائر التي تستخدمها الغارات الجوية السعودية والتي أودت بحياة آلاف من المدنيين في اليمن، كان انخراط الولايات المتحدة في المنطقة غير منفصل عن العنف الذي يؤججه في الآن نفسه.

والأضر من ذلك هو أنها أسهمت في عسكرة العلاقات المتداخلة بين دول المنطقة أيضاً، حيث أخذت مخاوف وطموحات القوى الإقليمية المنبعثة رداً على هذه الحقائق الجديدة تشعل مزيداً من الصراعات. وفي جميع أنحاء المنطقة، تشابكت خطوط الصراع بين المنافسة الجيوسياسية الحقيقية وبين الانحيازات القائمة على سياسات الهوية، وهو مزيج مدمر خاصةً في أماكن مثل سوريا والعراق، حيث جعلت مسارات “عسكرة الهوية” العنفَ معضلةً مستعصية على نحو خاص.

في مثل هذه البيئة، يسهل نسيان الفروق الدقيقة بين انعدام الأمن والديناميات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وجذور الصراع في المنطقة. ويصبح من غير المفاجئ أن تُهمل على نحو مماثل العوامل المعقدة والمتداخلة التي تشكل لب العنف في المنطقة. إن التكلفة البشرية لهذا الإهمال، بالطبع، لا تحصى، ويتحملها مباشرة أكثر الناس في الشرق الأوسط، الذين كانوا في قلب تلك الصراعات المتقاطعة منذ ما يقرب من 20 عاماً.

إن إعادة توجيه السياسة الأمريكية في المنطقة وتحويلها بعيداً عن العسكرة ليست مهمة سهلة، سواء المتعلق منها بصناعة الأسلحة، أو بالأصوات القوية من المجارس التقليدية في السياسة الخارجية، أو العدد المتزايد من الأفراد المنتفعين من اقتصادات الصراع، فهناك مصالح راسخة لن تتهاون مع أي تحدٍّ يبرز أمامها. ومع ذلك، كان هناك رأي بالإجماع على امتداد النقاش بأن الضغط السياسي الداخلي أمر ضروري لتحقيق تغيير إيجابي. قد تكون معارضة الصراعات حقيقة كامنة بين الرأي العام الأمريكي إلا أنها تتطلب تحريكاً أكبر بكثير لكي تُترجم إلى تغيير سياسي حقيقي. وأشار عمر ضاحي إلى أهمية ربط سياسة الدفاع الأمريكية بالأثمان التي تقدمها للشعب الأمريكي كي يدفعها، لا سيما فيما يتعلق بالأولويات المحلية، في حين أشارت فيتوري إلى الحاجة إلى إصلاح منظومة تمويل الحملات الانتخابية لإعادة التوازن بين هياكل الحوافز للمشرّعين والسياسيين.

ومهما كان الأمر، فإن دافع التغيير حين النظر إليه بوصفه قادماً من القاعدة إلى القمة، فإنه، وفقاً لما يقول ضاحي، يتطلب مزيداً من التفات الجمهور إلى الكيفية التي من الممكن أن يتحول “السعي لتحقيق الأمن في الولايات المتحدة” من خلالها إلى “مصدر لانعدام الأمن”. لقد حان الوقت للولايات المتحدة للبحث عن أدوات أخرى لبناء استراتيجيتها المتعلقة بالشرق الأوسط.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى