لايف ستايل

أنا «هنا» سيدة أردنية وأم لطفلة.. أعيش الآن في الحجر الصحي بالأردن

كان صباح الأحد حين عرفتُ من التلفاز أن مطار عمّان
سيغلق أبوابه صباح الثلاثاء 17 مارس/آذار 2020. كنت في أبو ظبي لزيارة أهلي وفي
نفس الوقت هو مقر عملي، رتبنا أنا وزوجي خطة سريعة لسفرنا؛ كانت هي أن نقضي شهراً
واحداً في عمان حيث يتواجد الآن ونعود إلى أبوظبي قبل رمضان المقبل، الآن أنا في
مكان وهو في مكان آخر.  سفرنا كان صباح الإثنين؛ ذلك اليوم الذي تغير فيه كل
شيء في حياتي!

استقللنا الطائر المتجهة من أبوظبي إلى عمّان ، كنا
نتسامر أنا وطفلتي التي تحب الطائرات وتشعر دائماً بالإثارة والدهشة وهي على
متنها.  حطت طائرتنا بسلام، كان الأمر يسير طبيعياً حتى وصلنا إلى نقطة  الجوازات، رصدوا درجات حرارتنا بالأجهزة
المتطورة المستخدمة لذلك. سلمنا الضابط جوازات سفرنا وانطلقت لأخذ أمتعتي من على
السير، كان مزدحماً للغاية فوجدت صعوبة شديدة حتى حصلت على أمتعتي.

طلبت من أحد موظفي  المطار أن يساعدني في حمل أمتعتي إلى الخارج، كنت أشعر بالتعب الشديد في ظل وجود طفلتي معي. أبدى احتراماً واستعداداً للمساعدة إلا أنه أخبرني أنني لن أستطيع الخروج من باب المطار. اندهشت من رد فعله للغاية وسألته عن السبب الذي قد يمنعه من الخروج خارج أبواب المطار؟ أخبرني أن كل القادمين عبر الطائرات سيخضعون جميعاً للحجر الصحي. سألته متى ينتهي هذا؟ فأخبرني أننا قد نظل هنا لـ 14 يوماً.

خرجت من باب المطار وجدت قوات الجيش منتشرين في كل
مكان أمامي، شريحة التليفون الخاصة بي موقوفة فلم أستطع الاتصال بزوجي أو الحديث معه.
أعطاني موظف المطار هاتفه وتحدثت مع زوجي وأخبرني أن القرار صدر من ساعة واحدة فقط
وأننا أول طائرة ينفذ فيها هذه التعليمات الجديدة.

طلبت منا قوات الجيش أن نتحرك خارج الحافلة، لم أكن أستطيع التحرك وحدي بالطفلة والأمتعة.. طلبت من قوات الجيش مساعدتي فلم أكن أعرف كيف علي أن أتحرك بهذا الشكل. استقللنا الباص المخصص لنقل الموجودين وكانت فيه كارثة بكل ما تحمله الكلمة، زحمة شديدة، الكثير من كبار السن والمرضى، أحدهم كان سيدة مريضة سكر، لا توجد تهوية ولا أستطيع التنفس لا أنا ولا أولادي، كدنا نموت اختناقاً.. لم نكن نحتاج إلى كورونا لتقضي علينا. 

كنت أتفهم أن هذه إجراءات أمنية علينا أن نتبعها وبالرغم من أني أحترم ذلك للغاية إلا أنني كنت في حالة إعياء شديدة ومعي طفلة بعربتها ولا أعرف كيف عليّ أن أتحرك بهما وحدي وأمتعتنا معنا. كنا في تلك اللحظة لم نأكل شيئاً منذ 6 ساعات مضت. كانت الحافلة تسير ونحن لا نعرف إلى أين سنذهب ولا ما الذي سنفعله ولا ما تخفيه لنا اللحظات القادمة. سائق الحافلة كان من ضباط الجيش وضابط آخر معنا والجميع لا يعرف إلى أين نتجه. ظهرت دورية شرطة أمامنا وحوالي 15 حافلة أخرى من خلفنا. أنا أعرف الأردن جيداً وأعرف شوارعها، لم يكن بوسعنا حتى أن نقف في الطريق للحصول على القليل من المياه أو أي طعام يمكن أن يجعل الأطفال يهدأون. لم يكن بوسعهم الوقوف لأن دورية الشرطة أمامنا تفتح الطريق ولا سبيل لأن تقف هي ولا نحن. لا أريد أن أقول إني مستاءة من تعامل الجيش ولكنني أعرف لماذا يأخذ هذه الإجراءات بهذا الشكل، مقدرة حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم وكيف أنهم مسئولون عن حماية كل هذه الأرواح.

أخذنا في الطريق نصف ساعة أو أربعين دقيقة إلا أننا
شعرنا به وقتاً طويلاً للغاية وكأننا نسير في هذا الطريق منذ أسبوعٍ مضى، كدنا
نموت من الجوع والعطش. وصلنا إلى فندق الماريوت. كنت النزيلة الوحيدة التي تحمل
طفلة. رآني الشباب الواقفون فساعدوني في حمل الأمتعة وطفلتي. نصحوني بأن أبتعد عن
بهو الفندق لأنه مليء بالعديد من الناس الذي قد يكون أحدهم مصاباً.

دخلت إلى غرفتي أنا وطفلتي بعد وقتٍ طويل بعد أن خف عدد الناس من بهو الفندق. كانت طفلتي تصرخ من الجوع. طلبت خدمة الغرف إلا أن أحد النزلاء في الممر أخبرني أنه لا توجد خدمة حالياً وأن كل شيء يجب أن نرتبه بأنفسنا. نزلت مرة ثانية إلى بهو الفندق وطلبت من المدير الموجود أن علي أن أحصل على طعام لطفلتي ولا أدري ماذا أفعل ويجب أن تفعل شيئاً وكان متعاوناً للغاية. أحضر لي غداءً بالفعل أنا وأولادي. أحضر لي أرزاً ولبناً لطفلتي. عدت إلى غرفتي فأكلت الطفلة ونامت. كنت أشعر أنّي سأصاب بالانهيار في تلك اللحظة.. عشرات الاتصالات التي كانت تصلني من أصدقائى وأهلي وزوجي ومعارفي ليعرفوا تفاصيل ما حدث. حين خرجت من أبو ظبي لم أكن أشعر بمشاعر جيدة وإيجابية تجاه هذه الرحلة وحين أخبرت زوجي كان رده أنه لا داعي للقلق وأن كل شيء سيمر بسلام.  بينما كنت أفكر أن علي أن أتبع حدسي بعد ذلك دائماً  وقعت في النوم، وقعت وأنا في حالة كاملة من الصدمة والدهشة والألم والقلق حول ما ستحمله لي الأيام القادمة.

اليوم الثاني وكل يوم

استيقظت صباحاً أتناول قهوتي وألعب قليلاً مع طفلتي
في محاولة لكسر الملل الذي نشعر به، يحضرون لنا الفطور في حدود الساعة الثامنة
نعود لشرفة الغرفة التي من مميزاتها الهواء الجميل النقي. أعرض طفلتي للشمس قدر ما
أستطيع حتى تأخذ أكبر قدر من الفيتامينات التي يمكن أن تحصل عليها حتى أستبق نقص
الفيتامينات الذي قد يحدث لها بسبب قلة الحركة أو الغذاء غير المتوازن أو عدم
التعرض لأشعة الشمس لفترة طويلة. ابنتي التي في مرحلة البناء والنمو  أخشى
عليها أن تتعرض لمشكلات حقيقية في النمو لو طالت فترتنا هنا في الحجر الصحي. 

يوزع طاقم العمل في الفندق علينا يومياً الكثير من
أدوات التنظيف والتطهير التي نستخدمها بشكل دوري وحريص للغاية، الطاقم الذي يعمل
هنا في منتهى الاحترافية والالتزام والمهنية. الطاقم الموجود هنا لا أهمية له سوى
الحفاظ على سلامتنا. يوزعون علينا أيضاً بعض الهدايا والرسائل اللطيفة التي تهون
علينا هذا الحبس. الأطباء موجودون في كل مكان في حالة استعداد 24 ساعة في
اليوم. 

كان معنا راكبة على متن الطائرة التي كنا نستقلها أنا
وابنتي راكبة ثلاثينية، كانت في الشهر التاسع وكانت تعاني كثيراً أثناء الرحلة،
عرفت اليوم أنها وضعت مولودها في غرفة قريبة من الغرفة التي أتواجد بها في الفندق،
تألمت كثيراً لأجلها لأنني أم الآن وأعرف ماذا تعني تجربة الولادة، وأعرف كيف أنها
شيء صعب، فما بالنا تحت هذه الظروف التي نحيا فيها الآن. تألمت لأنني لا أستطيع
حتى عرض مساعدتي عليها وهي تمر بهذه الآلام.

طفلتي

أحب أن أفرد مساحة خاصة للحديث عن طفلتي، لأنها تعاني
أكثر مني في هذا المكان ولأنه لا أحد يعلم كيف لطفلة أن تكن محبوسة في غرفة واحدة
لا تستطيع اللعب والحركة والتنطيط لعشرة أيام متتالية. حين أقوم بتنظيف الغرفة
بالمطهرات أجد صعوبة شديدة في إلهائها لحين التفرغ لها من جديد، معظم المحاولات
تفشل وتظل تتبعني. نشغل الوقت بكل الأساليب المتاحة الممكنة إلا أنني لا أريد أن
أخرج من هذا المكان بأي آثار سلبية على طفلتي الصغيرة الحبيبة. نحاول أنا وهي أن
نتعرف على الحياة الصغيرة التي أصبحت تجمعنا أنا وهي في مكان واحد، نمارس الرياضة
في مساحة صغيرة ونلعب ونتعلم ونمل ونحاول كسر الملل.

نفتح التلفاز بعد ذلك أشاهد بعض الفيديوهات التعليمية لطفلتي، أعلمها بعض الحروف
والكلمات حتى تتهرب مني بالملل وترغب في اللعب من جديد. 

نحاول أن نرسم.. رسمت لها يداً وحاولنا تلوينها
سوياً، وضعت لها القليل من المكياج على وجهها فضحكت، وابتسمت في المرآة حين بدت
بوجه أكبر قليلاً من عمرها. تحدثنا مع والدها وهي الفقرة التي تحبها كثيراً كل
يوم. بعد عدة أيام وفي محاولات مستمرة لجعل الحياة تستمر دون حركة ودون ملل قررت
أن آخذها ونذهب في تمشية قصيرة للغاية لا تتعدى العشر دقائق.. نزلت إلى بهو الفندق
إلا أنهم رفضوا لأجل سلامتنا… عدنا إلى غرفتنا مرة ثانية. 

حجراً وليس حرباً.. إطعاماً وليس جوعاً 

في البداية كنت لا أريد أن أفكر في الأمر، أحاول أن أبعد كل شيء عن مساحة تفكيري .. أفكر بشيء من الفزع كلما تخيلت أنني يمكن أن أخضع للحجر الصحي، إلا أنني أتذكر هذه المقولة التي انتشرت بشكل كبير على السوشيال ميديا «حجراً وليس حرباً.. إطعاماً وليس جوعاً»؛ كيف أننا يجب أن نحمد الله كثيراً على أننا في حالة حجر، لا حرب، الحمد لله أننا في داخل الحجر نستطيع أن نأكل، الحمد لله أننا في بيوتنا وأماكن نظيفة ولسنا لاجئىن في خيام أو أسرى في زنازين، كلما تذكرت هذه المقولة أظل أسبح وأحمد لله كثيراً على نعمته وكيف أنه لطيف بنا رحيم ودود ولا يكلفنا إلا ما في وسعنا. هذا اعتراف وامتنان لله على فضله ونعمته علينا. ربما يعرف الله أننا لا نتحمل أن نكون تحت ظروف حرب أو جوع أو أي شيء من هذه الأشياء المفزعة. الحمد لله.

هذا الحجر جعلني أحاول أن أتفكر في علاقتي مع الله،
أتفكر فيها كثيراً جداً، أفكر أنني بعد أن أخرج من هنا سأصبح شخصاً آخر، سأكون
أفضل في كل شيء وسأعمل على أن أكون أفضل في كل شيء، سأكون مسلمة أفضل أعرف الله
جيداً وأؤدي حقوقه عليّ، سأكون طيبة وعطوفة طوال الوقت حتى لو كنت في مزاج سيئ.
هذه الخواطر لا تفارقني في أي لحظة.

هذا الحجر جعلني أدرك نعمة الله عليّ، جعلني أشاهد كل
صغيرة وكبيرة في عمري وكيف أنها من أفضال الله التي لن أوفي شكرها أبداً. هذا
الحجر جعلني أرى أنني أفضل من غيري كثيراً وأن نعم الله تستحق مني الحفاظ عليها
بالحمد والشكر وأن أكون نسخة أفضل مما أنا عليه الآن.

متى نخرج؟

بالرغم من كل هذه الاجراءات إلا أنني أعرف أنه لصالحي
أنا وأهلي، أنا فخورة للغاية ببلدي الأردن، السرعة والمهنية والمصداقية في الحفاظ
علينا وعلى أهلنا. أنا ممتنة للحكومة لهذه الإجراءات القاسية علينا ونعرف أنها
لصالحنا.

أقضي وقتي بين نتفلكس ومكالمات زوجي والأهل وتمارين
رياضية مع ابنتي ومكالمات أخوتي وأهلي ومحاولات التغلب على الملل إلا أنه لا شيء
سيعرض حركتنا بخفة وحرية في كل مكان، لا شيء سيعوض أن نكون بجوار أصدقائنا وأهلنا،
لا شيء سيعوض وجودي بعيدة عن زوجي بهذا الشكل، لا شيء يمكن أن يعوض روتين الحياة
الجميل بقهوة صباحية مع زوجي وجمعة مع أصدقائي ولعب مع ابنتي في أماكننا المفضلة.

بالرغم أنه يبدو من حكايتي أن كل شيء على ما يرام إلا
أنني أريد أن أخبركم أن كل شيء ليس على ما يرام، أنا أشعر بالاختناق وطفلتي
تشاركني إياه، أنا أفتقد زوجي وأفتقد عائلتي. أحاول أن أسيطر على طفلة تعيش بين
أربعة جدران في مساحة صغيرة جداً للحركة، أحاول ألا أفكر بشأن المستقبل ماذا لو
طالت هذه المدة أكثر من ذلك؟ ماذا لو بقينا هنا لأشهر طويلة بين الأربعة جدران هذه
الغرفة التي تحولت من غرفة فاخرة للغاية في فندق خمس نجوم إلى سجنٍ صغير أعد فيه
اللحظات والدقائق والساعات والأيام كي ينتهي سريعاً، أتمنى أن ينتهي وقد انتهى هذا
الكابوس المفزع لي ولطفلتي وعائلتي والعالم كله.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى